"لقد فقدت الاتصال مع العالم الجديد واشعر إنني مغترب عنه" قال سكورسيزي لصديقه المخرج (سبايك لي) في حوارهما المنشور على صفحات مجلة "برميير" السينمائية الشهيرة عام 1999. في هذه الإجابة المختصرة نكتشف إلى أي حد يشعر سكورسيزي انه غريب عن عالم اليوم. وذلك سبب حقيقي يدفعنا لتأمل ماهية عالم اليوم الذي كانت صورته المؤسية أساسا فكريا جعل معظم أفلام سكورسيزي رواية رصينة عن شخصيات مميزة عاشت في عوالم لم تعد موجودة الآن. ليس غريبا التصور أن ثقافة سكورسيزي العميقة هي التي حتّمت اغترابه، وبالتالي نقده الجذري لمظاهر الحياة الرأسمالية على غرار ما فعله (ماركوز) وسواه في نظرياتهم النقدية.
لقد قدم سكورسيزي صوراً سينمائية بارعة عن أبطال عصابات مأزومين وعن مافيات عنيفة يتسم أفرادها بأخلاقيات وصداقات وغراميات من نوع خاص. ورغم البشاعة التي تحيط بهم وحالات العنف التي تتلبسهم، ليس مهما لديه كمخرج أن تتعاطف مع شخصياته بقدر ما يبدو حريصا على تقديمهم في إطار درامي مقنع. ولا أتصور أن أحدا يعرف لماذا يُشعرك سكورسيزي في أفلامه بواقعيته السينمائية الشديدة وكأنه يصور أناسا يعرفهم حق المعرفة، همومهم وأحلامهم ومؤامراتهم وهواجسهم السرية. ولأنه فنان (مهووس بجمال ما يقدم وعمق ما يطرح..) قد يصح توصيفه بمخرج المكان الواحد، المدن الموحشة والمنازل الكئيبة والشوارع الخلفية المظلمة والأزقة القذرة، خاصة في أفلامه ذات المنحى المتقارب قصة وإخراجا، مثل : سائق التاكسي، شوارع خلفية، العشرة الطيبة، كازينو.. وكلها بالطبع من بطولة نجمه المفضل (روبرت دي نيرو) الذي ما أن تشاهده في فيلم لسكورسيزي حتى تقول : هذا افضل ما فعله (دي نيرو) في حياته. لترى بعد فترة من الزمن انه مسح ذلك الدور من ذهنك تماما في فيلم جديد، لكنك لن تتوقف عن القول : انه أروع درس في التمثيل لا يمكن تجاوزه أبدا.وحقيقة الأمر تكمن في طبيعة الشراكة الخاصة والفهم المتبادل الذي يجمع بين الممثل والمخرج، والذي جعلهما على موعد دائم مع إبداعهما الفني، فكان في الوقت نفسه مسؤولا عن افضل نجاحاتهما السينمائية في أفلام يعرفها الجمهور : كـ الثور الهائج، نيويورك نيويورك، ملك الكوميديا، خليج الخوف وغيرها.
مارتن سكورسيزي الذي لم ينل الأوسكار حتى هذه الساعة معتبرا إن هذا افضل ما حدث له في حياته، هو مخرج نيويوركي بامتياز يحب المدينة ويكرها بدرجة متساوية من دون أن يتخلى عن اصله الإيطالي أو ينسى حتى ذكرياته الخاصة عن نشأته القاسية وهي تترك أثرا بليغا عليه فيما بعد. لهذا تراه اجدر من يجيد التحدث بلغة سينمائية مؤثرة عن اؤلئك الصقليين المتحدرين من اصل طلياني، المفتونين بالعنف والمال والسيطرة ممن هاجروا إلى أمريكا في العقد الثاني من القرن الماضي مدفوعين بالأحلام والطموحات الكبيرة ليتركوا في نهاية مشوارهم الطويل بصمة لا تنسى لدى أهالي نيويورك، المدينة التي يصفها أحد أبطال سكورسيزي بالمدينة الزجاجية.
وهنا قد يلتقي (فرانسيس فورد كوبولا وسيرجيو ليوني وبريان دي بالما) مع سكورسيزي في فكرة أن اؤلئك الأبطال الصارمين قد فقدوا - بمرور الوقت وتبدل أشكال الحياة - أواصرهم مع جذورهم الأصلية في أجواء جديدة أخذت تتبدل لغير صالحهم، ليكونوا في النهاية إلى جوار عرابهم (آل كابوني) تمثالا فخريا في المتاحف الأميركية، يذكرنا بزمن المافيا الأسطوري.
عالم سكورسيزي السينمائي عالم جمالي شائك، غني بالمعايير والقيم والعواطف الإنسانية، تختلط في جوانحه صور الفوضى والأحلام والعنف بشكل أخلاقي يبتعد عن الموعظة ويحتقر الوثوق بالفطرة، حيث يبدو الإنسان في أشرطته ممتحنا بوحدته المريرة، فاقدا للسعادة، ميالا لطغيان الشر المغوي، قريبا من الموت المحتم. هكذا يصح القول أن الإنسان في رؤية المخرج سكورسيزي هو كائن اعزل تعصف به الأحداث والأزمات من كل صوب، فقط لأنه اصغر من أن يبدل تلك المصائر الأبدية. ربما بوسعنا أن نرى حسا مسيحيا متواريا في خطابه السينمائي، يمتلك قدرة تحويل الانهيار الفردي المؤكد إلى أمثولة روحية تركز على الخطيئة والتوبة والصراعات النفسية الأخرى. ويمكننا تلمس ذلك المعطى في حماس سكورسيزي تجاه قراءة شخصية المسيح برؤية مغايرة للمألوف في فيلمه الشهير (التجربة الأخيرة للمسيح) المأخوذ عن رواية (كازنتزاكي) والذي سبب له في بلدان أوربا وأمريكا العديد من المشاكل مع الكنيسة التي طالبت بإيقاف عرضه في صالات السينما واخراجه من حفل مهرجان كان السينمائي عام 1989 عبر رسالة شديدة وجهها الفاتيكان يطالب فيها بسجن المخرج وممثليه ومحاكمتهم.
ولأنه يهتم بسبك حكايته الفيلمية بمناورة ذكية تتخطى سبل التصريح بما يعتقده بشكل مباشر يتهم سكورسيزي عادة بأنه وآخرين غيره كـ (تارانتينو واوليفر ستون وديفيد فينشر) من مروجي صناعة العنف. وعلى العكس من ذلك تماما يحمل مخرجنا خيبة كبيرة تبين ردود فعله على ما يجري في مجتمعات أمريكا وأوربا اليوم،حيث الخوف من فقدان السيطرة على الأولاد اصبح قضية ملحة. المشكلة الحقيقية بنظره هي في تصرفات اؤلئك الصغار الذين تجهل كيف يحصلون على الأسلحة ببساطة، معتقدين أن العنف الذي يشاهدونه على الشاشة هو أمر مسل. ورغم انك كمخرج تسيطر على أدواتك وتعرف عما تتحدث، إلا إن ما تقوله يتعلق بحرية التعبير لا بسوء الفهم. يعتقد سكورسيزي بأن هذا الأمر يجعلك تفكر مرات عدة قبل الشروع بصناعة فيلم آخر، ويعلق بالقول : (أنـا لا أفكر فيما إذا كنت سأسبب مشاكل بصنع أفلامي. أنـا لا أريد أية مشاكل. أريد أن يستمتع الناس بالفيلم ويفكرون فيه، لا شئ اكثر من هذا، وان يتمكن الفيلم من تحقيق بعض الأموال حتى أستطيع إنجاز فيلم آخر..) أما في حال توقف البعض عند قراءة العنف الطافح على السطح دون تأمل أسبابه وابعاده، فتلك خسارة كبيرة لسكورسيزي الذي يرغب كغيره من المخرجين بأن تعامل أفلامه بادراك آخر.
من جهة أخرى يحاول سكورسيزي دائما أن يسرب للمتلقي محتوى فكريا آخر غير الذي تظهره حبكة الفيلم على نحو مباشر، فيدعونا بذلك إلى تأمل كل التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي تحفل بها ملاحمه السينمائية ذات الروائح الحادة، لا سيما انه المخرج المولع بصناعة الديكورات والمناظر والأضواء الساحرة التي تمتزج مع شخصياته بلغة جمالية رفيعة. لربما تشبه أفلام سكورسيزي تلك الروائح الحادة فعلا، الكريهة أو الطيبة، التي لا يسعك الوقوف في الحياد إزاءها دون أن تأخذ منها الجرعة كاملة. حكايات سينمائية صيغت بلغة بارعة قل نظيرها في ساحة الإخراج السينمائي الهوليودي، قدمها سكورسيزي للجمهور بجرأة نادرة ونال عنها إعجاب الجمهور، فقد حصل فيلمه (بعد ساعات) على جائزة افضل إخراج عام 1986، وحظي فيلم (حكايات نيويورك – 1989) على إعجاب وتقدير النقاد بوصفه طريقة مبتكرة للتعبير السينمائي، إذ تضمن الفيلم ثلاث حكايات قصيرة تروى برؤى وأساليب مختلفة لثلاث مخرجين كبار : سكورسيزي وكوبولا وودي ألن.
يقول سكورسيزي في حواره مع (سبايك لي) وهو شبيهه وقرينه في الرؤية السينمائية وفي محنة النظر إلى الواقع الأمريكي: " إنني اشعر بالخوف. وقد تكون التكنولوجيا هي السبب، وهذا يعود بنا إلى الوراء للثورة الصناعية. نحن نفقد ذواتنا بطريقة ما، نفقد الإحساس بمن نحن. لقد فقدت الاتصال مع العالم الجديد واشعر إنني مغترب عنه، فأنا لا أستطيع أن أقوم بتشغيل كومبيوتر ! وكل فيلم اصنعه هو عن عالم لا وجود له الآن ". إن الحياة التي يشعر سكورسيزي بالحنين إليها تذكّره بالتفاني والتماسك الذي كان سائدا في المحيط الاجتماعي للعائلة التي أصبحت اليوم مفككة وفاقدة للكثير من عاداتها وقيمها الأخلاقية، فيسرد في حواره ذاك حادثة صغيرة عندما عرض فيلمه (شوارع خلفية) في مهرجان نيويورك السينمائي والذي تكرر مشاهده بعض الألفاظ البذيئة، إذ قالت والدته للصحافة مدافعة: " إننا لا نستخدم هذه الألفاظ البذيئة داخل المنزل. وقد كانت محقة في ذلك، فلو كنا استخدمنا هذه الألفاظ أمامها لكان أبي قتلنا أنا وأخي.." وعلى الصعيد نفسه يذكر انه لم يسمح لابنتيه بمشاهدة فيلم (سائق التاكسي) قبل بلوغهما سن الثامنة عشر.
وفي آخر أفلامه بدا لنا أن (مارتن سكورسيزي) لم يتوقف عن العودة إلى عوالمه التي لم تعد موجودة في ظاهرها لكنها موجودة مضمونا واقعيا فيما نعيشه حاليا، فجاء فيلمه الأخير (عصابات نيويورك) قراءة سينمائية جديدة لحياة المدينة وعنفها الصاخب.
.

[email protected]