المرج يبدأ من طرف وينتهي عند الآخر. كان رحيبا لا تضمه عين ولا تطويه فكرة: بلا لون، أو بكل الألوان. يتلون حسب الفكرة، والكلمة، والنظرة، والإشارة. رقدتْ على المرج عارية، مثل الحقيقة، والكذب، والحب، والكراهية. كانت أهم من سفينة نوح، ولم تكن مثلها: تجمع القرد والحمار، والأسد والضبع، والكلب والحصان، والأرنب والفهد، والقط والنسناس. وإنما تجمع كل أفكار الله وأحلامه وأمنياته وعطاياه. لم تكن أبدا سفينة رغم إنها بدت كذلك عندما صرخت السماء وانفجرت ببراكين ورعد وبرق وهطلت منها نار باردة وثلوج لها قرون مثل الشيطان. كانت لها رائحة الأرض، وحنانها، وعافيتها.
قارن بين المرجين. مد لسانه وراح يلعق طعم الله: مثل الندى، وأريج الدم الفائر في العقل. قال:
-منك وإليك. اللهم اجعله مرجا دائما بأي لون، وبأي طعم.
ذاق طعم الأبد، فتحول من فكرة إلى كلمة. عاد سيرته الأولى، فانقلب بشرا يضئ النهار، ويملأ الليل فرحا. صار كوناً ومجرة.
عاريا كان، وكانت هي عارية إلا من ستر الله ورحمته وحبه. والسماء تمطر جسديهما الملتحمين بوابل من الحنان.
أي صحراء هذه؟! إنها صحراء القلوب والعقول. وهي قحالة الروح، وضحالة المعرفة.
هبطا من الأرض إلى الأرض. تقلصت الفكرة، وانقسمت، فصارت روضا عاطرا يجمع بين المتناقضات، ولكن ليس على طريقة سفينة نوح، وإنما على طريقة الله.
راحا يركضان فوق العشب. لم تكن هناك ذاكرة بعد. يا للسعادة! ونسمة لها مذاق خاص تهدهد كل نباتات الله ما بين السماوات والمروج.
لم يعرف أي منهما لماذا كان يركض، وخلف مَنْ؟ كانا يركضان وفقط. لا يهم من يركض وراء مَنْ، أو لماذا؟
وكانت الذاكرة. الذاكرة التي غلبت الوعي والتعب.
تمددا من جديد. فالتحفت الأرض بجسديهما النورانيين، وارتاحت السماء على قضيبه المتقد، ونامت أطرافها على حلمتيها النافرتين. تقلصت الفكرة، واتحدت، فصارت نفَسَاً واحدا، ونَفْسْاً واحدة. وترجلت الفكرة الذاكرة، فلم تجد أمامها سوى عطر الله ورائحة الجنة ولحمة الخلود.
وإذا بالأرض تنشق عن كائنين يلبسان البياض من أخمص إلى أعلى.
قالا:
-ما آيتكما؟
-عشقنا وعشبنا، حبنا ومرجنا، عصير الجسد ونهم العقل، طعم الله وأريج فكرته.
نظر كل منهما إلى الآخر، وقالا:
-عشقكما عشبكما، وحبكما مرجكما، وجسارة العقل نور المعرفة، وعصير الجسد جنة الخلد، وطعم الله حرام، وأريجه كفر. فافعلا ما شئتما، وليقضي الله أمرا كان مقضيا.
وعرجا إلى ما لا رأت عين ولا خطر على قلب بشر.
وكانت أولى الكلمات:
-ما هذا؟
-وما هذا؟


* * *
النهر يركض مثل طفل عفي. ومخلوقات الله تتحول من شكل إلى آخر بفعل التطور والمعرفة.
سألت، مشيرة إلى البراح الممتد بحجم الفكرة:
-ما هذا؟
لمعت عيناه، واستطالت نظرته إلى ما وراء السهب:
-الوطن
-وما الوطن؟
وكان الطير يسبح في ملكوت الله. والكائنات تتناسل وتكتمل، ثم تنقسم لتتوالد من جديد.
وكان الإنسان، والزمن، والخبث والمكر، والحب، والفضيلة، والجشع، والخيانة.. وعنطرة..


* * *
عنطرة، كان يعمل خفيرا. ثم ترقى فأصبح سفيرا. وعندما منحوه وساما جديدا صارا مخبرا.
يا سبحان الله، قالت. وسألت مبتسمة:
-قنطر، أم قنطرة؟
-عنطر، وليس عنطرة الله يرضى عليكي.
-فلماذا تنطقه أنطرة؟
-يا بنتي عنطرة، من قبيل التدليل.
ضحكت وقبلته في وجنته. قالت:
-مشغولة جدا، وإلا كنتُ قد اقتحمتك وغزوتك وصعدت بك إلى سدرة المنتهى.
طبع قبلة خفيفة خلف أذنها، فضحكت مثل طفلة وطوقت عنقه. قال:
-سأعد لكِ فنجان قهوتك بالحليب، يا سيدة الأكوان المسكوبة في كأس من فرح ومرح وحبور.
-أُحِبُكَ.
-أعبُدكِ


* * *
عنطرة كان يعمل شيوعيا، ثم تطور فأصبح بعثيا. ولما قرأ كتابا آخر صار مثقفا "عضويا" في الخارج.
وكانت الفصول تتبدل، والشتاء والصيف يطاردان بعضهما البعض على إيقاع أغاني صوت الله الفيروزي. ويهوذا ليس إطلاقا إنسان، وإنما طريقة تفكير. بالضبط مثل العهر والقوادة.. قوادة الدول والأحزاب، وقطعان الماشية والدواب. غير أن الخلق استكان عندما أدرك أن الأمر يتجه صوب المستحيل، وأن ما من دابة على الأرض إلا ورزقها على الله.


* * *
عنطرة صار مثقفا ليبراليا، وناقدا، وناشطا اجتماعيا. وفي أوقات الفراغ يزاول بعض مهنه القديمة: يكتب قصصا، ويترجم من لغة الطير والهند والسند. وقبل النوم يقرأ الصحف باللغتين الآرامية والحميرية. ويستيقظ على تسبيحات بلغات لم تظهر بعد. حتى أحلامه كانت ناطقة بالإنجليزية والإسبانية والمولدافية. وأحيانا كانت تتخللها بعض الروسية والعربية. وكانت أيضا بالألوان.. بكل ألوان الطيف. وبلون النجوم في عز الضهر، وبلون وجه يهوذا-الفكرة، وبملامح الخط الفاصل بين العهر والقوادة.


* * *
عنطرة قام بدوره في المساهمة بقسط وافر من تقدم البشرية. فصار مؤخرا مفكرا وكاتبا، ومستشارا أمينا للنجوم على الأكتاف، وللآذان الملتصقة برؤوس أولي الأمر والنهي عن المعروف.
عنطرة ترك الجمل بما حمل واعتكف للتأمل. كان في البداية، عندما كان يعمل شيوعيا ثم بعثيا وشاعرا وناقدا، يعتصم بالبارات والحانات ومداعبة الغلمان والفتيات القاصرات. وعندما صار ليبراليا ومثقفا عضويا في آن واحد أدرك أن للنساء حلاوتهن وطراوتهن. وأدرك أيضا أن الله يغفر لمن يشاء، فأصبحت العشرة الأواخر من رمضان ملجأه ومبتغاه.


* * *
عنطرة فتح مدرسة لتعليم كتابة القصة والرواية والشعر والسيناريو. خصص منها غرفة لتعليم النقد الشامل: السينمائي والمسرحي والروائي والصحفي والانطباعي، والباليه أيضا، واستبدل حصص التربية الرياضية بالرقص. فتمكن ميلان كونديرا مؤخرا من إثبات أن الرقص ليس مهنة أو موهبة، وإنما طريقة تفكير.


* * *
عنطرة أصبح مؤمنا. كتب على باب المدرسة (تعليم فن الحياكة.. فصول مختلفة ومتنوعة من الإبرة إلى الصاروخ.. من النوفيللا إلى الملحميات.. من المسرح الإسلامي إلى أدب السيرة والتهاذيب والأحاديث الشريفة.. من سيرة الخلفاء إلى سيرة الحلفاء..).


* * *
ألقت بحقيبتها على الأرض مثل طفلة عادت متعبة إلى البيت. نفضت قدمها اليمنى فطار حذاؤها إلى أعلى، دفعت بيسراها فحلقت فردة حذائها الثانية في الهواء، ثم اصطدمت بالسقف، واستقرت أمامه على سطح المكتب.
التفت إليها، وإذا بها تسبح في الفضاء متجهة نحوه بكل عنفوانها وحيويتها، وبسمتها الطفولية. فتح ذراعيه في اللحظة الأخيرة، فوزعت جسدها الفارع النحيل على كل خلاياه.
قالت ضاحكة:
-تصور!
-ماذا؟
-رأيت اليوم كنطرة في مترو الأنفاق. كان جميلا ووسيما مثل أيام الصبا. يلبس الآن عوينات مذهبة، ويرتدي بدلة على الطراز الإنجليزي. يحمل حقيبة جلدية فخمة ومنتفخة، ربما تمتلئ بالكتب والأقلام وأقراص الكمبيوتر.
قطعتْ حديثَها فجأة، وسألت:
-هل تذكر..
ولكنه قاطعها مصححا في ابتسامة خبيثة:
-اسمه عنطرة، وليس كنطرة.
فقالت في تأن:
-قنطرة..
-لا.
-أنطرة..
-لا.
-لا يهم يا أخي. لماذا تدقق في هذه التفاصيل. الأسماء لا تعني أي شيء. هل تذكر لون الإيشارب الذي كان يحيط به عنقه عندما كان شيوعيا؟
-أحمر.
-وماذا كان لون الإيشارب عندما كان جرامشيا وناقدا سينمائيا؟
-أحمر على أصفر.
-اليوم كان يحيط رقبته بإيشارب أزرق اللون به بعض الرتوش الحمراء والصفراء والبيضاء.
حرر ذراعه من مغناطيس خصرها. وفي الوقت الذي كانت يده الأخرى تداعب حلمة أذنها، جذب الصحيفة وفتحها على إعلان بصفحة الثقافة.
-هل قرأتِ هذا؟
عادت برأسها، نافضه شعرها الطويل إلى الوراء، وقرأت في صوتٍ عالٍ: مدرسة الأندلس لتعليم اللغة العربية والثقافة الإسلامية.. من أجل العودة إلى المجد واستعادة الحقوق المغتصبة.. من أجل مجد الحضارة العربية الإسلامية وحوار الحضارات.. من أجل رفعة الوطن..
قهقهتْ بصوتٍ أعلى وهي تقرأ: تعليم القرآن والقصة القصيرة ونظم الشعر والأغاني..
سألها:
-وكيف كانت ملامح وجهه؟
-لم تتغير كثيرا، ولكن بها نضارة رغم السنوات الستين.
-هل تذكرين وجه يهوذا؟
-إنه طريقة تفكير.
-أريدك الآن.
-وأنا.


* * *
لم تخطئ الطبيعة حينما قررت أن يكون المد والجزر في البحر، وبفعل حركة القمر. وكانت قوانين كوبرنيكوس ونيوتين على حق عندما أكدت على جوهر مفاهيم الجاذبية.
وكانت المياه تنساب في هدوء عاصف، تحمل في داخلها طاقة لا عين رأتها ولا خطرت على قلب بشر. والهضبة المنحدرة تتصاعد نحو الأعلى بعشب يزداد اخضراره كلما هبطت نحو النهر. والكهف الصغير القائم بين المروج يزغرد بفرح الجسد وتحليق الأرواح.


* * *
رأيتُها فعلا. ولكن هل هي أم غيرها. النظارة الجديدة قادرة على التمييز، وإلا لما دفعتُ فيها خمسمائة دولار. القحبة، هذه، لا تزال صبية وجميلة. ولكن لا يهم، فستظل حقيرة ووضيعة.. أنا واثق أنها رأتني. لقد احتك كتفها بكتفي، ولولا الزحام والتدافع على باب المترو لألقيت عليها التحية. ولكن لماذا كانت في المترو، وماذا كانت تفعل، وإلى أين، أو من أين؟ ربما كانت تُقَوِّد مع أحد. فأنا أعرفها، وكثيرا ما حذرت هذا المغفل منها. ولكنه جحش، صغير السن، لا يفكر إلا في قضيبه. ولكن كيف؟ لقد تجاوز عمره الأربعين ولا يزال محلك سر.
أذكر عندما كنا أصدقاء، كان يتعالى ويفخر بنفسه وبقدراته ومقالاته. كنتُ أحاول تعليمه شيء من خبرتي المتواضعة، ولكنه كان يتعالى ويرفض في خبث واستعلاء. كنا نجلس في البار، والعياذ بالله، نتحدث عن نابوكوف والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وتولستوي وإبسن والفن الحقيقي، وكانت هذه الكلبة تأتي لتتحدث عن حثالة الأدباء والكتاب من أمثال جوركي والكتاب السوفييت عديمي الموهبة والقدرات. وكان هو مشغولا، ههههههه، بالأدباء الشبان، وثائرا ضد الفن الذي يفرغ القضايا الإنسانية والاجتماعية من مضمونها.
الأيام أثبتت مَنْ كان على حق. لقد حذرته من التفاهات التي كان يكتبها. لكن هذه القحبة شجعته، وساعدته. لو كنتُ في مثل سنه، وكانت هي صاحبتي، لأوقفتها عند حدها. طبعا كنتُ سأنكحها كما ينبغي على الرجال أن يروضوا النساء، ولكن عندما يأتي وقت العقل، سأبعث بها إلى المطبخ، أو في أحسن الأحوال إلى الفراش لتنتظرني أطول وقت ممكن.
بالأمس جاءني أحد الأولاد الذين كانوا يتعلمون كتابة القصة القصيرة...
دفعه أحد الركاب، فكادت الحقيبة تطير من يده، صرخ:
-يا حيوان، هل تعرف ثمنها؟ ابتعد، إففففف..
جاءني الولد الذي يقلد الأدباء الجدد التافهين. وإمعانا في قلة الأدب أظهر امتعاضا من النصائح التي قدمتها إليه. قال إنه يحاول التجريب في تفكيك الصورة الشعرية ليعيدها إلى الأرض في النص السردي. إففف، ما هذه الخربطات.. يرفض كتابات أعمدة القصة والرواية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، ويلهث وراء التافهين من كتاب الثمانينات والتسعينات.. سبحان الله، لا إله إلا الله.. جيل سافل، لا يعترف بأبوتي وأبوة غيري من الذين أضاعوا عمرهم في خدمة البشرية والثقافة والفكر الإنساني.
أما القحبة الصغيرة التي أنهت الجامعة لتوها، فلا تكتب إلا عن جسدها وغرائزها، والعياذ بالله. ليس لديها إلا مشاكل المرأة، واستعباد المرأة، وتحرير المرأة، وخراء المرأة.. الرجال أيضا مستعبدون من هذه المرأة. ماذا في الأمر إذا جلستْ معززة مكرمة في بيتها تغسل وتمسح وتطبخ. هل سيقلل هذا من إنسانيتها؟! هذا الكائن الوضيع يريد إعادتنا إلى الوراء. اللهم العن الأقوام التي تحكمها النسوان، والعن الرجال الذين تتحكم فيهم القحبات.
تعبتُ من هذه المدرسة والعاهات التي أتعامل معها يوميا. سأغلقها، وسأتفرغ لكتابة مقالات نقدية وفكرية. اليوم سيكون الأخير لهذه المدرسة الفاشلة. سأعود إلى البيت، وسأخرج مجموعة المقالات التي كنت أنوي ترجمتها عام 1979. وسأكمل القصة التي بدأتها عام 1972 ولم أكملها لانشغالي ببعض المهام التي كلفني بها مدير شركة الورق، الله يلعنه، كان يستغل حاجتي للأموال ويطلب أشياء سخيفة. هناك أيضا مجموعة من الأفكار دونتُها على عجل عام 1982 لكي لا أنساها. هذه الأفكار يمكن أن تصبح مقالات فكرية هامة ومفيدة للأجيال الجديدة. الحقير، مدير تحرير الصحيفة التي كنتُ أعمل بها، هو السبب في دفن هذه الأفكار. لقد كلفني وقتها بكتابة بعض التقارير عن زملائي من أجل تقديمها لرئيس التحرير بهدف تنظيف المؤسسة من أصحاب الأفكار اليسارية والدينية والقومية والوطنية المتطرفة.


* * *
توقف المترو. اندفع وسط الزحام خارجا. كاد يتعثر. أمسكت فتاة شابة بذراعه. نظر إليها، تمتم بكلمات غير مفهومة رافقتها رعشة مدهشة. اخترقت بسمتها عويناته السوداء الداكنة. زفر متلعثما. قال:
-شكرا.
-رابطة عنقك جميلة.
رفع عويناته. بحلقَ في وجهها. ابتسمتْ في صوت رقيق مزيحة خصلة من شعرها إلى الوراء.
-من بيير كاردان. اسمي عنطرة. هل أتشرف باسمك؟
-سفيتلانا.
-اسم جميل.
-من أين؟
-عربي.
-نعم، نعم. ولكن من أين؟
-من العالم العربي.
-نعم، نعم. جزائري، مغربي، عراقي، سوري، مصري، سعودي، عماني؟ من أين؟
-آه. تونسي من أب سوداني وأم ليبية، هههههه.. جدي قطري وجدتي هندية، ههههه..
-رائع، أنت خفيف الظل.
قدم لها بطاقة حمراء مذهبة عليها اسمه وأرقام هواتفه. وطلب منها رقم هاتفها، ودعاها على العشاء في السابعة مساء. ومن أجل التأكيد سوف يتصل بها هاتفيا في الخامسة.


* * *
رأى أن الذهاب اليوم إلى المدرسة ليس له أي لزوم. من الأفضل العودة إلى البيت لترتيب أموره استعدادا للقاء هذه البطة الصغيرة.
سيهاتفها. وسيلتقي بها حتما. سيتناولا العشاء في أحد المطاعم الفاخرة في وسط موسكو. لا يهم، مائة دولار أو مائتان. سيدعوها بعد ذلك إلى البيت. وبالتالي يجب إعادة إعمار الثلاجة والبار. سيكتفي هو بالبيرة المكسيكية الباردة، وسيقدم لها كوكتيل. وربما فودكا أو ويسكي.
تذكر فجأة أنه كان ينوي في عام 1992 ترجمة مجلدين من الأعمال المختارة لتشيرنشيفسكي، وترجمة كتابين لبليخانوف.
في طريق العودة، تذكر أيضا أن أفكار كتابه عن الليبرالية الجديدة في الغرب التي سجلها في ورقة عام 1996 قد نضجت الآن، ومن الممكن كتابة هذا الكتاب في مجلدين أو ثلاثة. قال: سأبدأ بكتابة مجموعة المقالات التي رتبتُ أفكارها عام 2002 عن اليسار الجديد في روسيا والصين. وسأنهيها بالعوامل الأساسية لنشأة اليسار الأوروبي الجديد عموما، وفي فرنسا وإيطاليا على وجه الخصوص.
فجأة عادت إلى مخيلته صورة تلك الكلبة التي تجاهلته. قال في نفسه، يبدو أنه تزوجها. هه. لا يهم، وماذا يمكن أن ننتظر من كائنين متواضعين كريهين مثلهما. هو يعيش في الأوهام، ويكتب القصص والمقالات السيئة، وهي تشبعه جنسيا، ولا تفكر إلا في غرائزها والشعر والسينما والفن التشكيلي، بل وترسم أيضا. هه.
سفيتا رائعة. صغيرة وبضة. سأستعيد معها اليوم شبابي. سأمتطيها، سأجعلها تئن وتصرخ. ستتذكرني إلى أبد الآبدين. وإذا أعجبها الموضوع سأدعوها للعيش معي. فماذا تريد فتاة تافهة مثلها: أموال، شقة، نزهة، سياحة؟ سأوفر لها كل ذلك. سأجعلها تنسي نفسها واسمها. ستجلس في البيت تنتظرني. سأحدثها عن مشروعاتي وخططي المستقبلية. سأجعلها تعتنق الإسلام، وترتدي الحجاب. المجتمع هنا فاسد، والدين والإيمان والحجاب سيقونها شر الفتنة وطمع العيون. فارق السن ليس مشكلة، أهم شيء أن أضمن لها مستقبلها، وأنكحها جيدا. فماذا تريد المرأة أكثر من ذلك.


* * *
للنهر شبق المعرفة وللبحر لون العيون وسكينة الروح. الحب جسر والجنس معبر وفنجان قهوتها مليء بأسرار أنفاسها الدافئة تلفح روحه الهائجة بنار العشق. عيناها تعكسان طاقة جهنم الحمراء وظمأ مسامها يرتعد في شفافية أمام توقه إلى التوحد. همستُه بأن الأزرق يمكن أن يكون حارقا وملتهبا والأحمر لا معنى له والأسود له أكثر من معنى، أفاضت روحها فعانقته وصرخت: لا جدران في الدراما لا خشبة ولا جمهور سأجرب هدم الجدار الخامس لأرفع الحاجز بين الله وزغاريد البشر.
صبت له كأسا ورشفت منه كعادتها رشفة خفيفة شفافة وحفيف ثوبها يشاطر الملائكة تسبيحاتهم حول العرش. سكب بعضا منه بين شفتيها كعادته ولثم العليا فأغمضت عينيها وأطلقت روحها إلى المجرات المتوقعة على أمل التوحد هناك مع بشر محتملين يشبهونها ويشبهونه.
سألها:
-ما لون الحب؟
-لون عينيك وطعم ريقك وملمس أصابعك. صوتك ونظرتك وحضورك من الأبد إلى الأزل. صعودك وهبوط وصلاتك وصومك وحجك ووحدانيتك.
سألته:
-من أنا؟
-أنتِ اللون والطعم والملمس. الإيقاع والفوتون والمغناطيس والأزل والأبد. المسافة بين السماء والأرض والتراتيل والجوهر والواحد الأحد.
-وأنتَ أنا. وأنا أنت. نختصر المسافة والزمن والأبعاد، نتقافز على الدهر ونغني في خلاء الله يسمع تراتيلنا فيغرد من جديد.


* * *
عنطرة يطلب رقم الهاتف للمرة العشرين. وللمرة العشرين يرد عليه صوت آلي: مستشفى الأمراض العقلية.. يخلع عوينات الكتابة، ويلبس عوينات القراءة، وللمرة العاشرة يراجع رقم الهاتف. يتمتم بكلمات حانقة. يلعن سفيتا وروسيا والفتيات الحقيرات اللاتي يسخرن من مشاعر البشر وأحاسيسهم. يقول: كل هذا بسبب وجه الشؤم التي التقيتها عند ركوبي المترو في الصباح. إن نحسه يرافقني حتى في علاقاتي النسائية. ماذا به لكي تحبه هذه القحبة. لا مال ولا جمال، ولا حتى شباب. لعله يسحرها، أو يخدعها. هذا المخصي لا يمكن أن يشبعها جنسيا كما كان يمكن أن أشبعها لو رافقتني.
قام ليتوضأ. حمد الله على إن الفتاة سفيتا لم ترد وتضيِّع صلاته وصومه وإيمانه. تمتم بعبارات الحمد والشكر، ورجم الشيطان بأحجار اقتطعها للتو من محاجر روحه.
وعلى الطرف الآخر من المجرة، كانت أعشاب البحر تنمو بهدوء، والمروج الخضراء تكسي وجه الله، وتنعكس على زمرد بحر الممكنات، وتتعالى زغاريد امرأة وتراتيل رجل على إيقاع نشيد مضمخ بأريج عطر الله وطعم نوره المستحيل.