عندنا جزء متهدم مهمل من بيتنا كان شقيقي كتب إليّ عنه الأطفال يخافون المرور به ليلا، يظنون تسكنه أرواح مزعجة، كتبت إليه نظف بيت الأشباح هذا سوف أسكنه في عودتي ونعيد بناءه ونجعله مضيئا كعراقنا الجديد. بعد تلك الرسالة بدأ شقيقي وأطفاله يسمون ذلك المكان (بيت الأشباح) ثم كتب إليّ بعد حين: الغريب لم يعد الأطفال يخافونه، بدءوا يدخلونه ليلا ويلعبون فيه ضاحكين صائحين أين أنتم أيها الأشباح، اخرجوا نتفاهم. كنت قلت لهم أيضا الأشباح لا تظهر لمن لا يخافها. يجب الكلام عما نخافه لإنارته واستيطانه بوعينا، فيكون لنا لا علينا.
حال ذلك الجزء المتهدم من بيتنا يشبه ربما حال النجف والفلوجة وبقاع أخرى من وطننا كانت مضيئة بفكرها وقدراتها وستعود إلى عزها بالتعمير وتبدد أشباحها المصنوعة بأوهام جهل من نوع جديد سياسي قائم على حقائق مؤسفة من الواقع المستوعب كل شئ. فمن ذلك (الجزء المهجور المغطى بديجور ـ بلند) يتهمون بالعمالة ذوي خبرات وشهادات، عادوا من الخارج مع مَن يسمونهم صليبيين إلى الوطن لترتيب أوضاعه بما يناسب عالمنا بعد فشل قوى الداخل في إحداث التغيير المطلوب حضاريا، فهم ذوو حَمية أيضا، قد اختبرت وطنيتهم على مراحل عديدة طويلة في منافيهم، كان في إمكانهم إدارة ظهورهم للوطن والتمتع بامتيازات المنفى أيا كانت والبقاء فيه بعيدا عن الخطر والتجريح ممن لا يريدون فهمهم، أو الانضمام كليا إلى فريق الصقور المحلق معهم إلى بغداد والذوبان فيه، أو ظلوا يدورون بعيدا في سماوات الخيال، لكن حبهم المتقسي كفولاذ للوطن بطَرق مطرقة الوقائع والحقائق القريبة والبعيدة أجبرهم على العودة إلى أرضهم، حيث أوكارهم القديمة وأشجارها الظامئة لدفق الحياة.
الغربة كانت لهم برج مراقبة للوطن لا ملهى وبار، كانت مختبرا لفحص الحقائق والمسلمات، أما حملة الأسلحة كهراوات العصور الحجرية فقد شغفوا بها بغياب العقل ولم يختبروا وطنيتهم حتى خارج مدينتهم وانتمائهم الطائفي والحزبي، فكيف يحق لهم الكلام عن الوطن وتحريره من أجنبي، لا أشك في وطنية قوى الردة النشطة عادة بعد كل تغيير حتى تقتنع بأهدافه، ولا أشك برفعة قيمهم الأخلاقية، هم من أهلنا وهم جزء منا، لكنا لسنا جزء منهم لأننا مررنا بما هم فيه ولم يمروا هم بما عانيناه، نعم من أجل الوطن، لطمنا على الحسين أيضا وأمَمنا الجوامع، لكن تجاوزنا هذا إلى اللطم على بلدنا كله، وهذا إلى اللطم على الإنسانية كلها، ثم عرفنا لا اللطم يبني بلدنا ولا حمل السلاح بوجه أناس يمكن جعلهم أصدقاء لنا بالتفاهم فمساعدتنا في بناء بلدنا دون أن نكون تابعين لأحد، هذا لا يتم بسهولة بل يحتاج إلى عقل أشد مضاء من الطلقة، مَن لم تصقل وطنيته بمعايشة الأجنبي غدت وطنيته شبه عقيمة غير عملية، غير وطنية في الحقيقة، لأنهم ينكفئون إلى الطائفة والعِرق حال يجابهون بجديد ويتركون عروة الوطن للرياح كما نرى الآن، لدينا إذن نوعان من الوطنية عملية مرت باختبارات الواقع، وغير عملية حبيسة تصورات قديمة، الأولى قلت نقحت وطورت، والثانية لم تعد نافعة في الأقل لبناء الحاضر لأنها تصطدم ببناته ولا تتوافق معهم.
الذين يسمونهم عملاء هم الأقدر إذا لم يكونوا عملاء حقا على حفظ حقوق الوطن أمام الأجنبي، لأنهم خبروا وسائل العصر الجديد وأهمها إدارة الحوار والتفاهم، هؤلاء هم الذين يخشاهم الطرف المقابل في الحقيقة أكثر من حَملة السلاح، قائد فلسطيني محنك أشار إلى هذا أيضا عن خبرة، لأن الأسهل من التحاور معه التغلب على المتعنف بجندلته إذ يوفر المبرر، ما حدث في الفلوجة وفي النجف وغدا في مكان آخر ربما ليتني أكون على خطأ هنا دليل. المتعنف يعجز عن إثبات حقه ولا يتمهل فيناطح ويهشم رأسه ويخسر نفسه ويخسره أهله وتكبر المشكلة بدل حصرها وحلها.
لا أقول قوات التحالف ملائكة جاءت تأخذنا إلى جنة لكنهم ليسوا شياطين أيضا يريدون دفعنا إلى نار، هم بشر مثلنا لهم مصالحهم ولنا مصالحنا وعلينا التفاهم وطمأنة الطرفين، لقد رأينا ما فعله السلاح بيد صدام في الكويت وإيران فلنتطلع إلى ما يفعله العقل، في بلدنا رجال كثر منهم قادة الآن يفخر بهم العراقي لو تأنى وتفهم دوافعهم وأهدافهم، الوطنية العراقية صناعة ثقيلة تنتج دروع حماية الوطن ساهم في إغنائها عند حسن الاستخدام كل فرد فيه أيا كان موقعه على يسار أو يمين، لقد انسحب العراقيون يوم الهجوم على دكتاتورهم مقدمين مساهمة إيجابية حاسمة في بناء الديمقراطية لكنهم عادوا مع تراكم الأخطاء للدفاع عن بلدهم، لم يمر يوم من العام الماضي دون عملية منهم، لكنهم هنا ارتكبوا خطأ صغيرا يؤدي إلى نتائج وخيمة نراها تكبر، المجابهة بالسلاح غير ضرورية لإخراج المحتل لأن من الممكن إخراجه بقرار عراقي، يبقى كيف نصنع هذا القرار، بالسلاح نضيعه، بالحوار نصوغه، ولا بديل عن هذا سوى الدمار.
بعد تحررنا من حكم العشيرة بل الفرد المكبل لطاقات أمتنا العراقية علينا التعويل على أنفسنا فقط في صياغة قراراتنا لإنهاض بلدنا من كبوته، لذلك ضرب أي عراقي خسارة للوطن، مَن يصر على رفع السلاح من غير القوات النظامية لا يعرف مدى الضرر الذي يلحقه بوطنه، سيقال نعم لحكومة شرعية أقول الشرعية لا تنزل علينا من السماء بل هي اتفاق أي حوار، إذن يجب إرساء قاعدة الحوار قبل الحديث عن شرعية وطنية، أي التعامل مع الموجود لا مع ما نريد وجوده، لخلقه في أحد الأطوار.
المعارك قد تحول البلد كله إلى بيت أشباح، لذلك على الهائجين تسليم سلاحهم غير الفعال على مدى بعيد إلى مشاجب، وتحكيم العقل وراء الحكيم والمحب لآله حقا ووطنه آية الله العظمى السيستاني لا الجري وراء شاب قد يجرهم بخطأ صغير إلى إثم كبير دون أن يعلم ويعلموا وتكون النتيجة جهنم لا جنة يمكن خلقها بالتكاتف والجهد على أرض الروافد الغنية بأبنائها وإمكانياتها. ليس عندنا بديل غير تطوير العملية السياسية الحالية لحل أزمة بلدنا، العابث عن عمد ينهار في النهاية، مَن لا يصدق لينظر إلى صدام، العبث ينبع من قصور في الفهم ومن نوايا طيبة لكن نتائجها وخيمة، تكلموا كثيرا عن الحوار لكن مع السلاح يزداد الشقاق ويحرق قلب العراق، نزعه عن الميليشيات إذن خطوة أولى للعودة إلى الحوار مع المختلف، المختلف عن حوار صبيان المحلة حين كنا نقرر شن غزوات على المحلات الأخرى بل والمدن الأخرى المجاورة أثناء المواكب لو تطاول أحدهم ورفع اسم مدينته أعلى من اسم مدينتنا الفيحاء، أتذكر هذا وأنا اسمع حجج ذائد عن مدينته لأنها الأشرف، على العين والرأس مدينته، لكن مَن نوى الهجوم والتطاول عليها لولا عنجهيته وعدم اعترافه بأنه جزء من كل.
نكبر وتبقى تقاليد المحلة بين جوانحنا أحيانا فتوقعنا في مشاكل عديدة، الرجولة الحقة ليست في مجابهة حكومة بالسلاح تريد الخير لأهالينا بل في مجابهة النفس الأمارة بالسوء، للدين رب يحميه فلا خوف على مقدسات، لكن الوطن أمانة وثروة تضيع حين يتقاتل أبناؤه، فلنوقف الاحتراب في الحال، الوطن مهدد بخطر منا أكثر مما من الخارج. تصوروا لو عم السلام ربوع بلدنا، لازدهر خلال اقل من عام ومارس كل منا صلاته أو لهوه كما شاء تاركين الحساب لمن بيده الحساب، وإلاّ سقطنا بالتأريخ أيضا كما قد نسقط بالجغرافيا ونضيع الشمال والجنوب لو استمر عراكنا.
كن أيها العراقي كما تريد، نجفيا كنت أو فلوجيا أو كرديا أو تركمانيا أو مسيحيا أو غيرهم، عروبتنا وإسلامنا السمحان يحضناك، الدولة الجديدة لا تتدخل في شأنك، لكن أيضا لا تتدخل في شأنها فهذا علم يدرسه أبناؤها الخلّص في معاهد متسلحين بالمعرفة لا في شوارع متسلحين برشاش لا يعرفون حتى كيفية استخدامه. يمكن الاستمرار بالنصح رغم معرفتي بلا جدواه مع غير العاقل، أي المقاتل حبا في القتال لا الوطن، العاقل إذن يحتاج النصيحة عند الشطط أكثر من المجنون، الذي لا يكتشف شططه.
تظل الكلمة الطيبة تساهم في بناء عالمنا لذلك نلجأ إليها، لكنها ليست المنقذة، لأن للجنون كلمته أيضا، النصيحة أخيرا تكون نافعة حين تأتي من داخلنا، سواء كان هذا الداخل وطنا أو صديقا أو هاجسا، كالذي ربما جعلني استيقظ أمس من نومي وصوت يهزني، اكتب يا برهان، وقل جاءك من الله برهان عظيم، ولا تقل هذا برهان الخطيب، ندحضه بخطبة الجمعة من خطيب..
لم استطع أن أضحك أو أبكي، كنت غاية التعب من الأخبار والشغل، رغم ذلك واصلت الكتابة كما أُملي عليّ من الغيب وأنا أشعر بالعيب من غلبي.. نزل هذا عليه ليلا، وما عليه غير البلاغ المبين، تمت كتابته في الثامن ومثله من عام الامتحان، بعد نزول المحنة، وزوال الامتهان.