كان صغيراً جداً حينما قادته جارتهم بسيمة فوقها. كانت لعبة ممتعة بالنسبة له.أن يلعب لعبة غامضة فوق جسد زوجة رؤوف السكران. لكنه في كل مرة كان يكاد أن يختنق، وخاصة حينما كانت تشد جسده الهزيل بشدة الى جسدها الضخم. لم يفهم بأن هذه من قواعد لعبة العري المشترك التي تبدأ هادئة ثم تأخذ المداعبات، واللمس شكل العنف، أو ما يشبه العراك مع تحول أنفاسها إلي ما يشبه الفحيح. أوصته بسيمة أن لا يتحدث لأحد عن لعبتهما السرية.
في يوم اشتري (اَيدن) حفيد (أحمد اَغا) جهازا صغيرا لعرض الأفلام. وطلب لكل من يريد الفرجة عشرة فلوس. بكى بحرقة لأن أمه لم تملك أن تعطيه إلا قطعة حمراء من فئة الفلسين عليه صورة الملك فيصل الأول. خرج من البيت باكياً عند بسيمة التي سألته عن سبب بكائه. قال، أريد مشاهد سينما (اَيدن)، ولا أملك إلا فلسين. قالت له، إذا حضرت غداً عندي سأعطيك العشرة فلوس. ضغطته علي صدرها كالعادة، ثم نفحته بالنقود.
طار إلي بيت أحمد اَغا أغنى رجل في الحي. كل شيء فيه كان عكس بيتهم الطيني البائس. هناك صالة كبيرة، وغرفة خاصة لأيدن، وحنفية وسط الحوش، ومصابيح كهربائية في كل أرجاء البيت. أطفأ (اَيدن) مصباح الغرفة بين تهليل الأطفال وصياحهم. ظهرت علي قطعة الخام الأبيض صورة فأر مذعور، يطارده بشراسة قط ضخم. كان الفيلم صامتاً. قال اَيدن:
ــ هذا الفأر اسمه توم، والقط اسمه جيري.
قال له:
ــ لماذا لا ينطقان؟
رد عليه آيدن بصلف:
ــ تدفع عشرة فلوس حقيرة، وتريد أن تتفرج علي فيلم ناطق! هذا جهاز عرض بسيط. لو كنت تملك سبعين فلساً اذهب إلي سينما حقيقية!
صمت مرغماً فقد كان يخشي أن يطرده، ويحرمه من هذه المتعة. فقد كان أطفال المحلة يخشونه، لأنه حفيد أحمد اَغا الذي يملك مقهي باسمه، ودار سينما صيفية اسمها سينما النجوم. كان توم مستمراً في مطاردة جيري. لكن الفيلم انتهي بانتصار توم. ما لبث أن أصبح ذلك نهاية الأفلام الثلاثة التي شاهدتها. توم يطارد، وجيري ينتصر.
عندما عاد إلي البيت، رأى أمه تجلب سطلاً من الماء من بيت (فاطمة برو). كانوا يدفعون لهم شهرياً ثمن الماء الذي يستهلكونه من حنفيتهم. حاول مساعدتها فنهرته قائلة:
ــ اتركني، أنت جلد علي عظم.
في يوم أيقظتنه أمه من النوم علي غير عادتها. كان الديك الذي قطع عرفه، أخيه محمد بموسي حادة كي يفوز في عراك الديكة بالمحلة، لأن العرف هو أضعف نقطة لدي الديكة في العراك الذي سرعان ما يدمي، فيضطر صاحبه للفرار. كان الديك يصيح بينما مكان العرف المقطوع، لا يزال متخثراً بالجراح. قالت له أمه:
ــ هيا إلي المدرسة!
وجرته معها إلي مدرسة المستنصرية التي كانت تلاصق بيتهم الطيني. سلمته إلي مدير المدرسة (خالد بك) الذي قاده إلي صف مزدحم بالطلبة وقال بلهجة آمرة:
ــ هذا هو صفك. ستأتي صباح كل يوم، وتجلس هنا!
بدأ الدرس الأول. كان المعلم هو نفسه خالد بك بسدارته اللامعة، وأناقته، ووجهه المستدير اللامع. كان يمر كل يوم من أمام دارهم وهو في طريقه إلي المدرسة. بدأ بتعلم الأرقام مرددا مع الطلبة ما يقوله خالد بك:
ــ واحد، بيردير، اثنين، إيكيدير، ثلاثة، اوجدر.
لأول مرة في حياته علم أن (بير) بالتركمانية، يعني واحد، وأن (ايكي) يعني اثنين، وأن (اوج) يعني ثلاثة. طلسم مغلق نجح في اقتحامه من أول يوم. أخذ يردده في البيت كالنشيد. واحد، بيردير، اثنين، ايكيدير، ثلاثة، اوجدر. في الليل تحلقت الأرقام، وتجنحت، وتقوست في حلمه.
في بيتهم الطيني كانوا يشغلون غرفتين. بينما الغرفة الوحيدة الباقية، كانت مؤجرة لعلي الحمال الذي كان له بنتان، وولد. كانت لزوجته زبيدة أخ يعمل كنائب عريف في الجيش اسمه عبدالله. لكن الجميع كانوا ينادونه (عول) اختصاراً على عادة الأكراد.
في يوم رعد، ومطر، وبرق مخيف، وبينما كان يردد تحت اللحاف مرعوباً (سلام قول من رب رحيم) كما علمته أمه، كي يردده أثناء قصف الرعود ليحميهم الله من المهالك. سمعوا صوت صراخ، وجلبة. خرجوا مذعورين ليروا ما حدث.
رأوا (عول) ساقطاً علي وجهه علي الأرض تحت المطر بملابسه العسكرية، وهو يضرب قبضته علي الأرض، مغنياً بحرقة أغنية فريد الأطرش (أحبك أنت). بينما أخته زبيدة تتوسل به أن ينهض، وفي الوقت نفسه تلعن (قادر جاوشين) والد الفتاة التي يحبها (عول) والذي يرفض تزويجها له لأنه سكير.
أدركته الحيرة هل كل من يشرب العرق يسقط هكذا؟.. فهو لم ير أباه هكذا قط، رغم أنه يشرب أحياناً مع صديقه (أكبر)، ومع محمود الداغستاني المسطول دائماً، الذي ما أن يبصر جارتهم (أم عفاف) حتى يظل يردد أمامها:
ــ مرتي مزين مال نسوان!
يكررها كلما رآها. مذكراً إياها أن زوجته تحف وجوه النساء. وكان جوابها له أيضاً لا يتغير.
ــ عابت!

ثلاثة بيوت من الطين كانت تمد ظهرها إلى المدرسة وتحتضنها من الجهات الثلاث.بينما باب المدرسة يطل على ساحة ترابية كان صبية الحي يلعبون فيها كرة القدم وسط ركام من الغبار والضجيج.
أحيانا كان يتأمل مع والدته من سطح المنزل فناء المدرسة حيث الطلبة يتصايحون فيما بينهم وسط ضجيج لا يهدأ إلا عند دق الجرس. وكانت ثمة درجات تؤدي الى الصف السادس، الذي كان ملاصقا لسطح دارهم تماما.
كان يصيغ السمع، لكنه لم يكن يفقه شيئا. الا أنه رغم ذلك ظل يطل من سطح بيتهم الى فناء المدرسة. كان يروق له أن يرى معلمو الصفوف وهم يدخلون الصفوف ببدلاتهم الأنيقة الى الصفوف التي كان الضجيج يهدأ فيها بمجرد دخول المعلم اليها.
في الليل، كان بيتهم الطيني البائس، ينام وسط ظلمة حالكة خارج بقعة الضوء الصادرة من فتيلة الفانوس المعلق على الجدار.
كان يعجبه أن ينطلق بعض ساعات النهار الى بيت ( فاطمة برو ) بحجة اللعب مع حفيدها، بينما هو كان يصغي السمع الى جهاز الراديو في غرفتهم. وأكثر ما كان يعجبه الصوت الرجالي أو النسائي المنطلق من هذه العلبة السحرية، وهو يردد عقب كل أغنية أو حديث طويل :
ـ هنا بغداد !
وكان يحلو ان يردد عند ذهابه الى البيت أن يردد :
ـ هنا بغداد..هنا بغداد !
ويوم ما طلب من والده أن يشتري لبيتهم علبة كالتي موجودة في بيت ( فاطمة برو ) شعر بظلال الأسى نابضة في عيني والده :
ـ الراديو يعمل بالكهرباء يا بني !
علم من صوته والده المنكسر ان الراديو يعمل بالكهرباء، وتنار المصابيح بها، وبسبب عدم وجودها فان بيتهم يغرق في ظلام دامس عقب غياب الشمس وانقضاء النهار.
لم يكن يحس أن حياته تختلف كثيرا عن صبية الحي فيما عدا في موضع الكهرباء اللعينة الموجودة في أغلب البيوت.. فيما عدا ذلك كان يحس بالزهو لأنه أمه كانت تشتري له ملابس نظيفة زاهية، في الوقت الذي كان معظم الصبية يلبسون الدشاديش. كانت أمه تحرص أن يلبس البنطلون مثل طلبة المدارس، وان تمشط شعره لتنخرط بعد أن تتأمله قليلا في بكاء لم يجد له تفسيرا.. ثم علم بعد فترة حينما عيره أحد الصبية الأشرار أن ما يلبسه هو من ( اللنكات).
اشتاط غضبا وأخذ يقذف الصبي بالحجارة وهو يردد خلفه :
ـ لنكات..لنكات !
طارد الصبي بيتهم دون أن يفقه معنى الكلمة التي يعيره بها. كان يتصورها شيئا قبيحا. لكن آيدن هون الأمر عليه قائلا :
ـ ولماذا تبكي أيها الغبي ؟ ما عداي الكل في هذا الحي يلبس من اللنكات.. حتى إبراهيم الذي يعيرك بها يلبسها !
انطلق بسرعة البرق الى البيت. رأى أمه وهي تحمل دلوا من الماء من بيت فاطمة برو. هزها من ذراعها بقوة حتى كاد دلو الماء أن يندلق.
ـ هيا.. قولي ما هو اللنكات ؟
نظرت إليه باستغراب. لم تنطق بكلمة حتى وصلت فناء الدار.ثم التفت إليه بهدوء :
ـ ماذا بك يا عزيزي ؟
صاح في وجهها بحنق مستغربا من هدوئها وبرودة أعصابها في هذه اللحظات التي يكاد فيها مخه الصغير ينفجر من الانفعال والغضب.
ـ قولي لي ما معنى اللنكات ؟
ردت اليه بنفس النبرة الهادئة الحانية :
ـ اللنكات..محل لبيع الملابس..ألم ترافقني إلى محل اسطه شهاب مرارا. ألم تر فيها أكداس الملابس ؟
صمت للحظة، تذكر انه رافقها فعلا الى محل اسطة شهاب، وكانت تختار له ما يناسبه من القمصان والسراويل ثم تقايض البائع على السعر.
هدأ بعد أن علم ان اللنكات يعني محل لبيع الملابس، لكن ثمة شك ظل يراوده :
ـ إذن لماذا يعيرني بها ابراهيم وكأنها وصمة عار ؟
صمتت لحظات لكنها استمرت تنظر اليه بحنو وانكسار :
ـ جميع صبية الحي يلبسون منها.
أعاد السؤال :
ـ ولكن لماذا يعيرني بها ؟
عاد الانكسار الى صوتها :
ـ اللنكات يعني ملابس مستعملة !
صمت أمام هذا الجواب الذي لم يكن يتوقعه. ملابس مستعملة، وتباع في مخازن عديدة يتزاحم عليها الجميع!
ـ ومن استعمل هذه الملابس قبل شرائنا لها ؟
أحست أمه بأنه بحاجة إلى تفسير، يذهب بالحيرة والانفعال الذي يعيشه..
ـ أنا أيضا لا أدري..لكن اسطة شهاب قال لي مرة انها آتية من أوربا. وهي ملابس اثرياء يتبرعون بها للفقراء. لكن التجار يشترونها ويبيعونها بدورهم الى الباعة أمثال اسطة شهاب.. والناس يقبلون على شرائها لأنها رخيصة.
ركبه العناد، رغم انه فهمه لموجز تاريخ اللنكات، الا ان سؤالا فرض نفسه فجأة على عقله الصغير :
ـ وهل من الجائز أن نلبس سبق أن لبسها غير المسلمين ؟
ربتت على خده، محاولة تهدئته وانهاء الحوار بعد أن ايقنت أنها قد اشبعت فضوله :
ـ وماذا في ذلك ؟ اليسوا بشرا مثلنا !
ـ لكنهم غير مسلمين !
مسحت بكفها على شعره الذي كانت تحرص على تمشيطه كل صباح.
ـ لا تنس يا عزيزي بأن الله اله الجميع، وليس اله المسلمين فقط !
**********
عاد الى البيت مثل الآلاف المرات التي كان يعود بها منهكا من اللعب. وجد أمه غارقة في البكاء، بينما والده يقف الى جانبها ساهما. أحس ان ثمة شيء غير عادي. هذا الشيء لم يكن من نوع الخلافات اليومية بينهما، والتي كانت تحدث لأتفه الأسباب. أجل لم تكن من نمط تلك الخلافات. لأن الطرفين كانا ساهمين، واجمين. بينما في خلافاتهما التي اعتاد هو واخوته عليها يرتفع صوتاهما الى أعلى طبقاتهما.
فضل هو الاخر الصمت منتظرا استجلاء الموقف، لمعرفة الوجوم الذي يطبق عليهما.
بعد فترة قالت أمه مخاطبة والده :
ـ كيف سيهدمون هذا المنزل ؟!.. هذا حرام. ألم يجدوا منزلا غيره ؟
قال والده بهدوء :
ـ قلت لك سيهدمون بيت فاطمة برو وأسطة صابر أيضا لتوسيع المدرسة الملاصقة لبيوتنا !
ـ ولكن ألم يفكروا بمصيرنا ؟..أين سنذهب ؟
لم يحر والده جوابا، بل كان ينظر الى ساعته بين فترة وأخرى. كان يعلم ان ذلك يعني انه يفكر بالخروج بعد عودته من عمله في شركة النفط، الى كازينو أحمد جاسم المجاور لمحلة (بكلر)، حيث سيجتمع بزملائه ويلعب معهم النرد ويشرب الشاي ويثرثر حول كل شيء. لكن والده كان لا يفكر بطرح مشكلته العويصة على جاره اسطه صابر لأنه هو الآخر رجل أمي لايفقه من هذه الأمور شيئا.أما فاطمة برو، فهي أرملة تعيش مع ابنتها سعدية التي تخيط ملابس نساء الحي وابنها حمه علي، الذي يعمل بائعا للكباب في دكان صغير يسع لأربعة موائد، مقابل كازينو أحمد جاسم. فكر والده ان خير من يعينه هو بهاء الدين أفندي الذي يعمل موظفا في البلدية. وحده يملك الجواب الشافي.ومن أجل ذلك انطلق والده بدراجته صوب كازينو أحمد جاسم.
بعد خروج والده، جلس هو الآخر ساهما الى جانب أمه.وكأنه بذلك يشاركها همومها التي تحاصر أعماقها، والتي لا يعرفها هو حق المعرفة.
رأى ( كور شاكر ) وهو يدلف من من الباب الخارجي الخشبي الضخم الى الداخل. أحس ببهجة في داخل نفسه فهو الكفيل بأسلوبه المرح بأن يرفع غمامات الحزن المخيمة على أمه هذا الصباح.
كان يلقب بـ (كور شاكر ) لخلل يعانيه في عينيه فيجعله لا يبصر جيدا.لكنه كان يبصر حتى لو كانت رؤيته في حدود معينة. ولم يكن هو يهتم حينما كانوا ينادونه بهذا اللقب. وهو شخصية طريفة وغريبة في نفس الوقت. لا أحد يعرف من أين اتى ؟ يتنقل بين البيوت ويبقى في بعضها عدة أيام. يحمل معه دائما ( ليف) ليبيعها. وكان يدعي ان له أقارب أثرياء كانوا من الباشوات في زمن العثمانيين يسكنون في بغداد. وكان والده يرد عليه في كل مرة يذكر فيها الباشوات من أقاربه متهكما :
ـ كفاك..كفاك لقد أعماك الله بسبب أكاذيبك هذه. لكنك الظاهر لم تتعظ من حكمته حتى الآن !
وكانت النساء يرتحن لكور شاكر لأنه كان فكها. وكان لا يهمل الإيماءات الجنسية في حديثه إليهن. فحينما كان يصادف إحداهن وهي عائدة بعد أن حفت وجهها عند فتحية زوجة محمود الداغستاني، كان لا يتردد ان يقول لها بخبث :
ـ ها.. الظاهر عندك حفلة الليلة مع أبو وليد !
فتضحك بغنج وهي تقول له :
ـ لعنك الله يا شاكر !.. ألا تجوز من الآعيبك ؟
لكن شاكر كان يواصل تلميحاته معتبرا كركرة النساء الآخريات ظاهرة مشجعة له :
ـ وهل حلقت الوجه فقط..أم التحت أيضا ؟
أخذت أمه تبث همومها التي تخيم عليها منذ الصباح لشاكر كما توقع :
ـ سيهدمون بيتنا من اجل هذه المدرسة اللعينة. أين العدل والانصاف ؟ أين نذهب ؟ الاتفكر الحكومة بحالنا ؟ هل تريد أن توسع المدرسة على حسابنا نحن المساكين ؟ هل سدت كل المنافذ على الحكومة حتى لا تجد الا منزلنا هذا لتوسع على انقاضه المدرسة. أي حظ عاثر هذا يا ربي !
وبدأت تنخرط في بكاء مرير. أحس شاكر أن الوضع متأزم الى درجة انه لا يمكن ان يعالجها بمرحه ونكاته وايماءاته. أحس ان عليه أن يلتزم بالجد.
تأمل شاكر جيدا الذي نكس رأسه دليلا على أنه يفكر جديا في الأمر. في تلك اللحظة تأمل عينيه شبه المنطفئتين.
رفع كور شاكر رأسه وقال بعد أن اخرج سيكارة من علبة سكائر (غازي) :
ـ أفضل طريقة يا أختي أن نكتب عريضة.
كان يتحدث بصيغة الجمع، معتبرا نفسه من الأسرة.
ـ نكتب مظلمة ونقدمها الى الملك. وسوف يسهل أقاربي في بغداد لنا ذلك. لأن قريبي وصفي باشا على علاقة بالقصر.وهو يعرف سير الموكب الملكي. نذهب الى بغداد ونقف على ناصية الشارع الذي سيمر منه الموكب. عند مرور الموكب نتقدم رافعين المظلمة، وعندما يرانا الملك، سيقف كما هي عادته، حسب ما سمعت من قريبي وصفي باشا. لا تقلقي يا أختي، الموضوع عندما يصل للملك سيبت فيه بالعدل.
رأى والدته ترفع رأسها لأول مرة منذ دخوله إلى المنزل هذا الصباح. قالت وهي تنظر اليه برجاء :
ـ ان شاء الله..الملك لن يرضى بوقوع الظلم على أحد. وما يواجهنا هو الظلم بعينه.
أحس كور شاكر أنه أنهى مهمته وأن عليه ان يعود الى سلوكه اليومي، والحديث بالايماءات الجنسية :
ـ ألم تتزوج ( دولت ) بعد ؟
ـ ومن يتزوجها وقد أشرفت على الأربعين ؟!
ـ والله لو رضت بي لتزوجتها الليلة !
في هذه الأثناء دخل والده المنزل. لاحظ أنه منبسط الأسارير، وأن التجهم الذي كان يلقي بظلاله على وجهه قبل ساعات قد ولى الى غير رجعة كما يبدو عليه.
جلس والده الى جانب شاكر مرحبا به مقدما له سيكارة. قال والده :
ـ الحمد لله فرجت. لقد تحدثت في المقهى الى بهاء الدين أفندي عن موضع هدم منزلنا. فقال أن الحكومة ستدفع تعويضا ماليا مجزيا لنا..وان الأمر ليس كما تصورنا. فالحكومة لا يمكن أن تظلم أحدا.
هنا وجد نفسه ينطلق نحو والده الذي أخذ يداعبه ويعانقه لأول مرة :
ـ بابا 1 هل سنسكن بيتا جديدا ؟
ـ نعم يا عزيزي.
ـ وفيه ماء وكهرباء ؟
ـ طبعا، فيه ماء وكهرباء.
أحس بالخيلاء في أعماقه. سيكون لهم بيت فيه ماء وكهرباء مثل بيوت أغلب الناس هنا. بالتأكيد سيكون بيتهم الجديد أحسن من بيت أحمد آغا.
توقف عن الحلم بعد ان عاد اليه وعيه وفكر بأن الآغا ثري،يملك عقارات ومقهى وسينما. اما والده فلا يملك الا عمله في شركة نفط كركوك، وهذا المنزل المتداعي الذي ورثه من والده الذي استشهد في معركة (جناقلعة)
انتبه الى أمه وهي تخاطب والده :
ـ لكن شاكر قال انه بالامكان تقديم مظلمة للملك بعد الذهاب الى بغداد. حيث سيعاوننا قريبه وصفي باشا و...
قاطعها والده وهو ينظر الى شاكر :
ـ وهل تصدقين أكاذيب هذا القواد الأعمى ؟
اكتفى شاكر كعادته في مثل هذه المواقف بضحكة مجلجلة.
* * *
توقفت سيارة حمل كبيرة أمام بيتهم.وبدأ والده يعاونوه الجيران في وضع الأثاث في السيارة.
التفت النساء حول امه التي كانت تذرف الدموع. لم يحر جوابا. لماذا تبكي أمه ما داموا سينتقلون الى ( عرفة ) التي تتناثر فيها بيوت جميلة، نظيفة لعمال شركة النفط. ولكل بيت حديقة خاصة. استغرب أن تذرف أمه كل هذه الدموع من اجل هذا البيت الخرب. كان يود ان ينتهي شحن السيارة بسرعة لينطلق الى العالم الجديد، ( عرفة ) باشجارها الباسقة وشوارعها النظيفة وبيوتها العامرة بالماء والكهرباء.
عند وصولهم الى البيت الجديد سمع والده يقول :
ـ انظروا الى النظافة والترتيب والنظام في شوارع وبيوت (عرفة ) !.. أي حي داخل كركوك يمتلك كل هذا النظام ؟ لعن الله الانكليز ! انهم منظمون ويخططون لكل شيء مسبقا. لولا ذلك لما استطاعوا أن يحكموا نصف العالم، ويقضوا على العثمانيين.
عندما اعتاد على بيتهم الجديد في عرفة، بدت ذاكرته متقدة، مفتوحة. بعد أن اغلق فيها النافذة المطلة على البؤس الذي كان عليه بيتهم القديم، المتداعي الأركان. لكن النشيد الذي كان يسمعه كل صباح منطلقا من أفواه الطلبة المصطفين في فناء المدرسة " موطني موطني " بقي متقدا في ذاكرته يأبى الرحيل. كان ينطلق في ذاكرته بصورة آلية، وكأنما ثمة يد خفية تضغط على زر سري، لتنطلق كلمات النشيد الذي لم يكن يفهم معناها حتى تلك اللحظة. تماما مثل تلك الأغنية التي سمعها تنطلق من راديو فاطمة برو، والذي بهره الحزن العميق الذي كان مدفونا فيه وملاصقا له. وكأنه صوت ينطلق من بئر بلا قرار، من انسان لا صاحب له و لا صديق في هذا العالم :
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
حفظ كلمات الأغنية، واصبح يرددها في البيت وفي الحي باستمرار. وكانت الدموع تترقرق من عيني أمه، كلما غنى هو هذه الأغنية الحزينة , رغم أنها مثله لم تكن تفهم معناها.
كل شيء بدا له مختلفا في (عرفة ) حتى الشمس التي كانت تشرق عليه مع انبلاج كل نهار، وهو نائم على سطح الدار في قيظ اشهر الصيف، كانت تبدو مختلفة. فهي ليست تلك الشمس التي كانت تطل عليه من فوق سطح بيتهم الخرب، مع صياح الديكة وقأقأة الدجاج في صحن الدار.
أفضل لحظات انشراحه كانت تلك التي يقضيها في حمام البيت الجديد، تحت دش الماء الحار الذي يسخن بالكهرباء. وكان وهو منطلق تحت مياهه لا يملك الا أن يقول في سره :
ـ حتى أحمد آغا لا يملك مثل هذا الحمام !
رويدا رويدا أصبح يتعود على الحي الجديد. كان يستحم تحت الدش أحيانا عدة مرات، وكأنه ينتقم لأيامه في الحي البائس القديم وللسويعات التي كان يرتجف فيها، وامه تمرر الصابون والليفة على جسده النحيل وهو يرتجف بردا في الطست..
ورويدا رويدا أصبح له أصدقاء يحملون اسماء غريبة عن تلك التي كان يحملها اصدقاءه في حيهم القديم ( بكلر ). أصبح له صديق أرمني اسمه ( زافين ) وأصدقاء أثوريين كثيرين مثل : خوشابه، فرج، وليم، أويشا، وروبن وداوود ونينوس. كان أغلب قاطني عرفة هم من المسيحيين. وكان معظمهم يجيدون التركمانية، ولعب كرة القدم وصيد الطيور وتبادل الشتائم المقذعة فيما بينهم.
لاحظ ان امه ايضا اخذت تبدو سعيدة بالبيت الجديد وخاصة بعد ان أكتشفت أن جارتها القديمة ( جانتو ) أم روبن زوجة يوسف تسكن على مقربة منهم.
لاحظ ان الصبية يتجمعون أمام بيت زافين ويتحدث كل منهم عن الفيلم الذي شاهده مقلدا فيه صوت حصان الكاوبوي والاطلاقات التي كان يطلقها على الهنود الحمر. أخذ يتعود على هذا المنظر الذي بات له مألوفا مع مرور الزمن. ولأن الصبية كانوا من مشارب مختلفة فكان اللغة الأساسية بينهم حينما يكون هناك من بينهم من لا يجيد الأثورية والتركمانية، هي العربية. كان لا يزال غير ملم بالعربية الدارجة بنفس المامه باللغة الفصحى.
عندما سمع علي البصراوي يتحدث عن الفيلم الذي شاهده، لاحظ انه يكرر عبارة :
ـ تالي اجه الولد ( أتى بطل الفيلم )..
لم يطق صبرا وسأل زافين باللغة التركمانية :
ـ ماذا يقصد بكلمة (تالي )
أجابه زافين بالتركمانية :
ـ تالي، يعني بعدين.
أحتد معترضا :
ـ لا غلط..يجب أن يقول ( ثم ) بدلا من تالي !
كان مستغربا. كيف يخطأ عربي من البصرة مثل هذا الخطأ الشنيع ؟ لو فعل ذلك وليم أو خوشابه أو روبن او آيدن أو حمه لهان الآمر. أما أن يرتكب ذلك بصراوي، فتلك خطيئة كبرى.
لم يكن هو الوحيد في عائلته الذي يرتاح لرافين بل ان والدته اخذت تزور أمه بياتريس، وكذلك أبو زافين الذي كان يلقب من قبل جميع سكان الحي بالأسطه، أصبح من اقرب أصدقاء ابيه. لم يكن يعلم لماذا يطلق عليه الجميع هذا اللقب الذي أصبح بديلا عن اسمه. والده هو الوحيد الذي كان يناديه بالأسطة آكوب حينما كانا يتبادلان تناول كؤوس العرق كل مساء في بيت واحد منهما بالتناوب.
في المساء كانت النسوة يجلسن امام الدار للثرثرة والتطلع على الرائح والغادي. وكان البعض منهن وخاصة الفتيات اللاتي كن يجلسن متبرجات وكأنهن في حفل، كن يتطلعن الى مراهقي المحلة الذين يمرون من أمام بيوتهن، نظرات فيها ألف معنى ومعنى.
كانت ثمة قلوب تحترق حبا ولوعة. وكانت قصص الحب تنسج بين ليلة وضحاها. ولم يكن العشاق يترددون في تبادل القبل خلسة تحت أشجار الكالبتوس، أو التنزه في المساء متشابكي الأيدي.
كل ذلك كان من المناظر المألوفة في عرفة، لكنها كانت مناظر محظورة، يقصها يد رقيب سري في حيهم القديم الذي كان فيه جلوس النساء أمام الباب من المحرمات.
لعل ماكان يزيد من بهجة الحياة في عرفة ومتعتها، إضافة الى الحدائق الخاصة في كل بيت، وجود حديقة كبيرة، غناء، ذات خضرة نضرة تسمى بحديقة ( مستر تيسو ) على اسم الإنكليزي التي أقام تلك الحديقة الواسعة التي كانت بمثابة رئة لسكان كركوك، الذين كانوا يقصدونها من أحياء مختلفة وخاصة في أيام العيد.
كانت مياه الساقية ( الكهريز) الرقراقة التي تمر من وسط حديقة مستر تيسو، تزيد من بهجة المكان. كان الصبية يقومون بعد وضع حاجز في طريق الأسماك الصغيرة التي تسبح في مياهها البراقة لاصطيادها بشباك من أسلاك دقيقة يقومون بصنعها.
كل هذه المناظر الزاهية، كل هذه الحركة اليومية، بدات تمحو من ذاكرته حي (بكلر ) بعد أن اختفى منه بيتهم القديم، وتم على انقاضها توسيع المدرسة التي بدا يدرس فيها، يرافقه اليها كل صباح شقيقه على دراجته.
كان صبية الحي قساة القلب، يتسابقون فيما بينهم في اصطياد الطيور، وفي مطاردة القطط والكلاب المتشردة. ولن ينسى قط منظر القطة البائسة التي بدأت تدور حول نفسها بسرعة مذهلة، وكان يدا خفية تدور بها على أثر ركلة عنيفة تلقتها من باغداسار الأرمني.
ولن ينسى أيضا منظر قطة كانت على وشك الولادة وهي تنطلق مذعورة، وكل من روبن وأويشا يقذفانها بالحجارة بينما رأس صغيرها لا يزال داخل رحم الأم المذعورة.
كان باول أشرس الصبية في عرفة. يخشاه جميع الصبية. لم يكن ضخما ولا مخيفا، لكنه كان يستقوي بأشقائه الذين كانوا يناصرونه ظالما ومظلوما.
كان عصبي المزاج على الدوام، يمطر الجميع بشتائمهم المقذعة، يصمت ازاءها جميع الصبية الذين كانوا شرسين وقساة على الشجر والأسماك والحيوانات ومياه الساقية الوديعة، لكنهم كانوا يصمتون كالأصنام أمامه وهو ينهال عليهم ضربا لأتفه الأسباب على الرغم أن لكل منهم اشقاء كثيرون.
حدثه زافين كثيرا عن شراسة باول، بل وعن قوته وكونه الشقي الذي لا يبارى. كان الجميع يتفادونه.وكان يستغل مباريات كرة القدم ليصب جام غضبه، ويكشف عن ناب شراسته ضد كل صبي لا يمنحه الكرة أو ضد كل من يصدها حتى لا يسجل هدفا.
أختاروه في يوم حاميا للهدف في مباراة يخوضها ضد فريق باول. ابلى في المباراة بلاءا حسنا، وقد اعيت الحيل باول في اقتناص هدف يصيب مرماه ليرضي بذلك غروره ولكن دون جدوى. كان يتصدى لضربات باول بمهارة استغرب هو لها شخصيا. في النهاية اصطدم به وهو يحاول انقاذ هدفه فسقط باول على أثرها..لكنه سرعان ماقام هائجا واندفع مثل ثور جامح، يريد أن ينهال عليه بالضرب كما هي عادته في مثل هذه الحالات. توقف اللعب وتطلع الجميع لباول ليروا ماذا سيفعل دون أن يجرؤ احد منهم على التدخل للحيلولة دون وقوع المعركة. فوجيء الجميع بالصبي يمسك بياقة باول، دون أن يمنحه فرصة ضربه صارخا في وجهه بتحد :
ـ أخ الكلب ماذا تريد ؟ هل تريد ضربي ؟ هيا افعله لو كنت رجلا !
توقع الجميع ان كارثة ستقع، وأنه سيدمي رأسه وينهال عليه بالركلات بعد أن يسقطه ارضا بلكمة منه كما جرت العادة.
لكن باول تجمد في مكانه، وتوقف عن الهجوم، ولم تخرج من فمه الشتائم التي اعتاد على صرفها ضد خصومه في مثل هذه الظروف. وكأن يدا سرية منعته من ذلك ؟ أو كأن دلوا من الماء البارد اندلق على قفاه من مكان ما، فامتص سخطه.
فوجيء الجميع بباول يقول بهدوء وكأن أن شيئا لم يكن :
ـ كورنر.. ضربة زاوية. هيا يا وليم اضرب الكرة !

(مقطع من رواية تحمل نفس الاسم)