تفشى الموت بين الحيوانات، نفقت القطط والكلاب، وهاجرت الطيور والنوارس الى مناطق قصية، نائية لا يعرف بها الا الله واضحت الابقار والجواميس والخراف والماعز على حافة الهلاك، لولا ان تداركت السلطات المحلية الأمر، فأصدرت تعليمات واضحة تقضي بالسماح لها بدخول المساحات الخضر والحدائق والمتنزهات، فصارت هذه تخلو من العشاق وطالبي الراحة ومحبي الهواء الطلق.. فصرنا نراها، تسرح وتمرح هنا وهناك، وخلال شهور قلائل تحولت مرابع الصبا والشباب الى ارض جرداء تذروها الرياح الصحراوية الخانقة، المشبعة بالأتربة. في تلك الأثناء ضم الموت اصابعه الدامية حول بلدتنا، وحاصرت مخالبه القاسية أعناقنا السمر. غدونا نلهث وراء كسرة الخبز وقنينة الدواء. لكن بعضنا تنهد باترياح وقال : هو ذا الموت، جاء اخيراً ليخلصنا. وذات مساء صيفي، بينما كنت اقرأ لأبي، الذي لم يقرأ شيئا غير القرآن الكريم والاحاديث النبوية وسير الصحابة، بعض الصفحات من جمهورية افلاطون لفظ ابي انفاسه الأخيرة. حلت بي كارثة اذاً.. شعرت ان صاعقة نزلت عليّ من السماء. ربي لم اخذت روحه في هذه السنة الرهيبة لماذا اصطفيته من بين عبادك في هذه الحقبة الجهنمية من تاريخنا .. من أين سأسدد تكاليف الدفن، ومن الذي سيقرضني المال، بل من الذي يسدي لي العون في زمن تتقطع فيه أنفاس الناس بغية الحصول على لقمة العيش. وقبل أن تتفسخ جثة والدي تقدمت بالتماس الى السلطات الصحية أطلب فيه حفظ جثمانه فترة من الزمن في احدى ثلاجات حفظ الجثث ريثما استطيع توفير المبلغ اللازم للدفن وأجور نقل النعش الى المقبرة التي تبعد مئات الكيلومترات عن بلدتنا كانت ثلاجات حفظ الجثث قد غصت بجثث الموتى، موتى مشردون يلفظون أنفاسهم في الأزقة، وعلى الأرصفة، وتحت هياكل الكونكريت العملاقة، موتى مشردون لا أحد يعرف عنهم شيئاً، ربما سيكون مآلهم قاعات التشريح في كليات الطب.

وفي بحر يوم واحد، يوم واحد لا غير، جاءني الرد سريعاً: حصلتْ الموافقة على حفظ جثة الموما اليه على ان لا تتجاوز فترة الحفظ اسبوعين" وفعلاً تم حفظ جثمان والدي في ثلاجة أحد المستشفيات الواقعة في أطراف المدينة، الواقع، كانت تلك فرصة ذهبية كي التقط أنفاسي .. الا انني أُرغمتُ على أن أبتسم مئات الابتسامات الكاذبة، وأن أربت على أكتاف الكثير من المضمدين والمضمدات، وأمتدح رقة وأنوثة وجمال العديد من الممرضات، كي أسهل عملية الحفظ، لكنني، والحق يقال، شاهدت ما لم يخطر لي على بال. شاهدت مخلوقات عجيبة يجري نقلها من علب زجاجية مليئة بمحاليل مضادة للتعفن الى ثلاجة المستشفى .. تبين لي، وبالحظي العاثر، ان تلك المخلوقات ما هي الا أجنة مشوهة، أو أجنة اسقاط. اسقاطات بغايا ما بعد الحرب. رحتُ أسأل نفسي : ما هي قصة التشوهات الخلقية؟ بل ما هي حكاية الاجهاضات المتكررة في العالم أجمع؟

رحت أجوب الشوارع والأزقة بحثاً عن أصدقائي القدامى ومعارفي الأعزاء. مررت بشارع خلفي تمر في وسطه ساقية ماء آسن، وتتقابل على جانبيه دور ذوات طابق واحد .. كان اخي الأكبر يأخذني، عصر كل يوم، على دراجته الهوائية الى دار العجوز التركمانية في هذا الشارع .. كانت دارها واقعة الى اليسار قبالة دار نصف مهدمة. كنت، آنذاك، في السابعة من عمري. نحيل الجسم، بارز العظام، أجلس قبالة العجوز التي تلف رأسها بفوطة بيضاء من قماش خفيف. تضع العجوز اللبخة العشبية على خدي الأيمن، فوق موضع القرحة الصديدية. تهز رأسها وتبتسم لي ابتسامة عريضة وتنصحني بالمحافظة عليها. كانت تلك قرحة لعينة، أورثتني ألماً وغماً، وجعلتني عرضة للتساؤل والسخرية. لا أعرف شيئاً عن أخي الأكبر .. كما انني حين سألت عن المرأة التركمانية أنبئوني بأنها الآن تعاني من الشلل النصفي. تجلس على كرسي ذي عجلات، يدفعها كل يوم حفيدها حليق الرأس الى ضفة النهر، كي تتذكر أيام شبابها، حين كانت زوارق الصيد تأتي محملة بالاسماك، تتذكر ضحكات الصيادين، أذرعهم القوية، صدورهم العريضة كثيفة الشعر، عضلاتهم البارزة التي نقشت عليها رسوم وأحرف وكلمات بطريقة الوشم.

مررت من شارع الأطباء، ورفعت بصري الى نافذة عيادة طبيبة الأسنان الشابة. كانت في الخامسة والعشرين او السادسة والعشرين، مبرومة الجسد، ذات شعر كستنائي مجعد، أجلس على كرسيها المائل قليلاً الى الخلف، استسلم لآلاتها، فيما هي تلفني بغلالة عطرها الفواح أغمض عيني وأحلم، فاتحاً فمي، مستسلماً لآلتها الاستكشافية المدببة، وهي تفتش عن الضرس الذي سبب لي وجعاً لا يطاق، حرمني من النوم ليال عدة. وبعد أن تزرقني بتلك الحقنة اللعينة أتصنع الاغماء فترد رأسي الى الخلف. تجلس جنبي.. رأسي قريب من الأرض.. أنا معلق بخيط رفيع بين السماء والأرض أستسلم للنشوة المنداحة في كياني بينما أنا أتنشق عبق جسدها الباذخ ، واستقبل عصير انوثتها الطاغية.. ذلك العصير اخاله يقطر في فمي مثل حبات مطر لذيذة منعشة. هل كانت تتعمد الاثارة والاغراء؟ هل ساهمت انا الشاب الحالم لاستفزاز أنوثتها وجمالها؟ أفتح عينيي وأغمضهما احدق في وجهها الأبيض الصافي ونهديها المكتنزين. وحين أفيق من إغمائتي اهتف كالحالم، إشارة مني الى ثدييها النافرين، اللذين كدت أمد يدي لأمسهما، كما فعل نيوتن قبل مئات السنين، أهتف.. (التفاح) فتسألني باستغراب أي تفاح ؟ أرد عليها متصنعاً الاعتذار (عفواً ، دكتورة كنت أحلم بالتفاح).

كانت النافذة مسدلة الستائر، ولم أعرف ان كانت هي في عيادتها أم لا، لكنني اكتشفت أن اسمها غير موجود في اللوحة الخشبية العريضة في مدخل العمارة، كما لم أعثر على إعلان النيون الذي كان يشع بأسمها الجميل، المكتوب بخط الرقعة. كان يوماً من أيام الصيف الحارة حين توقفت لأروي ظمئي... شربت الماء من حنفية في حديقة ثانوية البنات.. كانت صديقتي الشقراء تبعث كتبها ودفاترها بيد صاحبتها، وتلح عليّ أن اصطحبها معي الى دار السينما. كانت تدخل صالوناً للحلاقة النسائية، تخلع تنورتها المدرسية وترتدي سروال الجينز الأزرق. صديقتي الشقراء مولعة بالأفلام العاطفية. تشتري لي المرطبات قبل دخولنا صالة السينما.. وما أن تطفأ الأنوار حتى تبدأ بحك ساقها بساقي وتضع رأسها على كتفي. التحقت هي بجامعة بعيدة، وصرت لا أشاهدها الا في محطة القطار المزدحمة حين تتوجه اليها قبل بدء العام الدراسي أو بعد العطلة الربيعية. في السنوات التالية رأيتها وكدت لا اتعرف عليها. فقد أصبحت ممتلئة الجسم شعرها مقصوص بهيئة "كاريه" عيناها بدتا وقحتين، جريئتين، وفقد وجهها براءته وبياضه، وأصبحت بشرتها تميل الى سمرة خفيفة. حاولت اللحاق بها، لكنها دخلت العربة مع الزحام.. وحين انطلقت صفارة القطار وبدأت العربات تقعقع على السكة، انسحبت الى الوراء و وقفت وحدي الى جوار كشك مغلق.. حين التفتت الي ميزتني في الحال، لوحت لي بمنديلها الصغير، وابتسمت لي ابتسامة خفيفة.. لم اخمن، حين ذاك، مشاعرها نحوي .. لم ارها بعد ذلك اللقاء العابر، الصامت .. ما زلت حتى الآن، اتخيلها، تلوح لي بمنديلها الملون من نافذة القطار، وتبتسم لي ابتسامة مشوبة بالحزن والعاطفة.

عقب تخرجي من الجامعة، أصبحتْ مأساتنا لا تطاق، وازداد عدد المشردين والمتسولين واللصوص وقطاع الطرق واللوطيين والبغايا.. كل ما كان يشغلني ابان تلك الحقبة هو التغيرات البادية على سحنات أبناء بلدتنا. شرعت البسمات تختفي رويداً رويداً، وامست ابتسامة صديقتي التي لوحت لي من نافذة القطار تنطق بالمرارة، المرارة التي لم يسبق لي ان أحسست بها طوال سني حياتي.

كنت أزور المستشفى بين يوم وآخر لأطمئن نفسي، فقد خشيت على جثة والدي من الضياع.. لكنني فوجئت بعد ثلاث زيارات متتالية بأن التيار الكهربائي كان ينقطع باستمرار وعلى مدى ساعات طوال عن المستشفى، وان المولدة الكهربائية الوحيدة عاطلة من زمن طويل. وحين بدأت بالتفكير بصورة جدية في انتشال جثة والدي من العفن الذي وضعت فيه، وايجاد حل عاجل لمسألة الدفن، بوغت في أحد الأيام، كان اليوم السادس، على الأرجح، بأن إدارة المستشفى استحصلت موافقة اصولية بدفن الجثث المتفسخة، وبينها جثة والدي في الصحراء. الواقع، لم تكن صحراء حقيقية، بل أرضاً بوراً، لم يتم استصلاحها، اتخذتها السلطات المحلية موقعاً لرمي النفايات.. وهكذا اصبحت الجثث البشرية في السنوات الأخيرة من قرننا العشرين، شيئاً من النفايات، أمسى والدي نفاية.. يا للعنة .. والدي يتحول الى نفاية.. أي جريمة لا تغتفر هذه التي يرتكبها العالم ضدنا؟! ما أبشع أن يدفن آباءنا في أرض النفايات.. ضاع والدي هناك بين هياكل السيارات الصدئة، بين المعدن الخردة، بين سقط المتاع الذي تلفظه البلدة على مدار اليوم، على مدارالسنة.. ضاع والدي بين أجنة الاجهاضات.. الواقع ان بغايا البلدة اهتدينا الى أرض النفايات من سنوات عدة.

من الذي دفنه؟ أي آلة دفنته؟ ربما لم تمسه يد بشرية.. أي رجل يجرؤ على مس جثة بشرية متفسخة؟ الحفارة هي التي حفرت القبر الجماعي، والكاسحات (الشفلات) هي التي رفعت الجثث والأجنة والقتها في الحفرة الواسعة الكاسحات هي التي ردمت الحفرة، هي التي هالت التراب فوق جثث موتانا وبعدها جاءت الحادلات وساوت الأرض. أردت نبش قبر والدي، القبر الجماعي، وان انتشل جثمانه من تلك البقعة القذرة من الأرض. كنت امني نفسي بالعثور على تلة صغيرة أدفنه فيها كي لا تدوس عليه عجلات المركبات المحملة بنفايات البلدة. وكي استطيع زيارة قبره بين حين واخر كلما يعصف بي الحنين. الا ان موجة الأمطار الغزيرة التي اجتاحت بلادنا من أقصاها الى اقصاها حالت دون تحقيق رغبتي هذه. كان الوقت ليلاً، سمعت نواحاً مؤلماً يقطع نياط القلب.. اقتربت .. كانت امرأة متلفعة بالسواد تشعل شمعة.. ومع ان الضوء كان شحيحاً الا إني استطعت تمييز صاحبة الشمعة من خلال هيأتها الخارجية وبعض ملامح وجهها الأسمر. كانت معلمة النشيد في مدرستي الابتدائية. تلك المعلمة التي أحببتها حباً جمّاً وتمنيت ان تأتي الى صفنا في السنوات اللاحقة، كانت تجري هنا وهناك حول حلقات الطلبة المتهللين، تصفق بيديها مرحة، رافعة صوتها بالغناء. : ((الثعلب فات فات، والذيل سبع لفات، والدبة وقعت في البير، وصاحبها واحد خنزير)). جاءت معلمتي الى هنا موقع رمي النفايات، حيث ترقد جثة زوجها مع جثة والدي، بكت بحرقة.. اقتربت منها وقلت بصوت دامع، (أما يكفيك نواحاً يا معلمتي العزيزة؟ ) التفتت ، رفعت بصرها اليّ .. ذرفت دمعتين ساخنتين ثم اخفت وجهها بيديها وتابعت النواح.

في تلك الآونة شع خط متعرج في السماء المعتمة، وسمعنا رعداً هائلاً أدخل الفزع الى فؤادينا.. وبعد دقائق أنهمرت سيول المطر بشكل لم يسبق له مثيل .. هطلت أمطار غزيرة، ما يكاد يستبشر المرء بزوال كتل الغيم حتى تدلهم السماء ثانية وتبدأ موجة اخرى من السيول.. لم تكن سيولاً اعتيادية بل طوفاناً.
وعاشت بلدتنا أياماً رهيبة، طفت مياه المجاري، وتعطلت حركة المرور، وصرنا نرى البط و الوز ودجاج الماء يسبح منتشياً، وأصبح الناس يخوضون في الأوحال، وهكذا ضاع والدي من جديد. في كل القصص التي سمعتها وقرأتها في طفولتي وصباي كان الأولاد والبنات هم الذين يضيعون. في حكايتنا هذه، الأمر مختلف. والدي هو الذي ضاع. لم اضع انا، لم يضع أخي، لم تضع اختي، ابي هو الذي ضاع.

صرت ارى اطفالاً بيض البشرة، سمراً، سوداً، أطفالاً يموتون على الأرصفة، أرصفة الشوارع الرئيسة، والشوارع غير الرئيسة، وجوههم شاحبة، صفراء كالخريط (1)، {هل كانوا مصابين باليرقان، بالثلاسيميا (2)}. أطفال نحيلون، منتفخو البطون بوجوه ذابلة لم يستطع المرض اخفاء ملامحهم العربية، لم يستطع، حجب ملامح آبائهم وامهاتهم الذين شنقوا انفسهم بالحبال أو الجوارب، أو ماتوا غرقاً في النهر، أو أحرقوا انفسهم. لم يستطع حجب ملامح ذويهم الذين فروا الى الصحراء كي لا يرو المأساة الفظيعة لموت أولادهم، فلذات أكبادهم، فوق أرصفة الشوارع الآثمة وفي الأزقة القذرة النتنة.

رأيتهم ممدين كيفما اتفق، ينامون نومتهم الأبدية، ينامون فرادى وجماعات، ينامون باتساق، ينامون باضطراب، ينامون متعاكسين، مثلما كانوا ينامون في أسرتهم الضيقة في السنين الخوالي. ينامون بأسمال رثة هي كل ما تبقى لهم من متاع الدنيا، أسمال ملطخة بالمخاط بالدم بالبراز بعصير الفواكه التالفة والطماطم الفاسدة التي التقطوها من أرض السوق، أسمال منقوعة بالعرق بالدموع، منقوعة باللعاب الذي سال من أفواههم حين شاهدوا فاكهة السوق الطازجة غالباً يعطلون حركة السابلة، حين يكون اليوم هو الجمعة، العطلة الرسمية لمؤسسة التنظيف، أمر من هناك، أصعد الرصيف تارة ثم أنزل منه تارة أخرى ماشياً الهوينا، مخفضاً بصري، أحدق في الاسفلت اللزج، كثير الحفر.
الجثث الصغيرة أورثتني الاماً مبرحة، القت في قلبي الرعب، حولتني الى رجل عصابي، هستيري، بعد أن كنت بارد الأعصاب، وقوراً بعض الشيء. هذه الجثث البريئة التي ترحل الآن الى ملكوت السماوات، استفزتني، حولتني الى بركان غاضب.

أجثو، الآن، على ركبتي الجريحتين، أرد أثوابهم على أجسامهم، اعدل من وضع رؤوسهم، من يراني أفعل ذلك سيحسبني معتوهاً. فما معنى أن يلجأ رجل مثلي الى هذه الأفعال حين تكون نهايتهم أرض النفايات أو قاعات التشريح. من يراني يحسبني أباً يغطي أولاده إناء الليل حين تكون امهم في المستشفى أو جداً يتفقد أحفاده حين يكون أبواهما قد رحلا الى العالم الاخر.

أجثو، الآن، على ركبتي الداميتين، ربما تبقى في جسمي الهزيل من طاقة أنحني على الجثة تلو الجثة، أغمض عيونهم المفتوحة، يرعبني رؤية العيون المفتوحة للأطفال النائمين، حيث أغمض العيون، العيون السود، البنية، العسلية، الشهلاء، العيون الكحيلة، العيون الواسعة، العيون الصغيرة الشبيهة بحبات الزبيب، أرى اثاراً من دموع، دموع لم تزل ساخنة، حارة، كرغيف الخبز الذي كنا نأكله في الأيام الخوالي. يضعه الخباز في احضاننا هاتفاً بمرح (هيا، عودوا الى منازلكم أيها الشياطين !!). تلك الدموع سالت على خدودهم، سالت على قصابات انوفهم، دغدغت ملوحتها شفاهم المتيبسة، المزرقة. من يكفكف الدمع عن عيون أطفال بلادي؟ من يحررهم من زنزانات أحلامهم؟ من يتكهن باللعب والعرائس والحلوى التي حلموا بها إبان هذه السنين اللعينة القذرة؟

حين أسبل أجفانهم، أرى عيونهم المتوسلة، أرى عيونهم الشاخصة الى الله. ربنا، ماذا نفعل؟ ليس في مقدورنا ان نعيش أكثر. لا شيء، يستر أجسادنا الهزيلة الناحلة، سوى أسمال رثة ممزقة، لا شيء يدخل بطوننا سوى فتات الموائد وحثالات البقالين.. ليس في مقدورنا ان نتحمل الجوع والظمأ والتعاسة والألم. ربنا، نحن الآن نرحل الى عليائك، ربنا أرحم أرواحنا المهشمة وطفولتنا الجريحة.

أطبق على قلبي حزن لا يوصف، انتابني قلق غامض من المستقبل المجهول لأبناء بلدتنا، اتمشى الآن كالمخبول، بين جثث الأطفال والصبية المكدسين فوق أرصفة السابلة.
أطبقت قبضة الموت الرهيبة على أعناق الصبايا: صبايا محلولات الشعر، صبايا بمشابك شعر بلاستك، معدن، مشابك شعر مزودة بأشرطة دانتيلا، أو بقطع من التول: بيض أو سود أو بنفسجية، مشابك شعر ذوات بلابل، أو عناقيد عنب، أوشحة من حرير أو ساتان تلتف حول ضفائر هندية أو جمايكية، صبايا معقوصات الشعر كفينوس، صبايا ذوات شعر مربوط من الخلف ينسدل كذيل المهرة، أو مشدود بأشرطة بيض في ناحيتي الراس، تسميه فتياتنا بـ "الستوتات".. صبايا بشعر متسخ، أشعث، مشبع برائحة نتنة.
تمنيت أن أعثر على صبي أو صبية في النزع الأخير، كي انتشله من براثن الموت، أن أحمله بين ذراعيّ وأضمه الى صدري، ,أغدق عليه قبلاتي، أطبع قبلات حارة على وجنتيه، وعنقه.. ان أسقيه ماءا بارداً من طاسة أحد الشحاذين. أن أجعله يموت في حضني، كي أجعله يشعر وهو يودع عالمنا القاسي بدفء الحضن البشري، بحرارة الحضن البشري، بحرارة اليدين البشريتين؛ كي أجعله يسمع وجيب قلب بشري يضمر له العاطفة، كي يشعر بأن ثمة من يحبه ويسعى من أجله. تمنيت أن أرنو الى الله قائلاً له: هاهم أحبابك عادوا اليك مهيضي الاجنحة، مكلومي الأفئدة، أسبغ عليهم نعمتك واشملهم برحمتك الواسعة.

اني الآن، اسير بين الجثث فوق أرصفة بلدتنا، الأرصفة المتسخة الملطخة بالقار بالدم بالبول بالبراز، لا أدري ما الذي ينتظرني، لا أدري ما الذي سأفعله بعد الآن، بعد أسبوع، أو يوم، أو ساعة. تخليت عن آمالي الكبيرة، تخليت عن أحلامي الكبيرة، أصدقائي واخوتي ومعارفي تشردوا، تشرذموا، غادروا الى بلاد الله الواسعة.. لم أعد أعرف عنهم شيئا. لم أعد أفكر بصديقتي الشقراء، صاحبة أجمل شعر ذهبي في العالم؛ لم أعد أحلم بها تعدو بفستان ابيض هفهاف في حقل عباد الشمس؛ هي ترتدي خفين وأنا أعدوا خلفها حافي القدمين بقميص مفكوك الأزرار، لم أعد أهفو الى تنشق عطر شعرها الأشقر، المحلول، المبلول بحبات المطر.. لم أعد أفكر بطبيبة الأسنان التي تمنيت أن أقبل شفتيها المكتنزتين الحمراوين، طبيبة الأسنان التي مسحت جبيني بقطعة القطن المبللة بالماء.. لم أعد أفكر بأن أتصنع إغماءة جديدة.. فقد خبرت اغماءات حقيقية، رهيبة، لا حد لها، فوق أرصفة بلدتنا التي شهدت الكارثة .. اغماءات مصحوبة باللهاث، مصحوبة بالحسرات، مصحوبة بالدموع.

هوامش:

(1)الخريط:- مادة صفراء هشة تصنع من البردي في جنوب العراق.
(2)الثلاسيميا:- فقر دم حوض الأبيض المتوسط.