تجنبت الرافعة التي تقطع الشارع مثلي، رأيت واحدة أخرى عند شارة المرور وكانت ثالثة بعيدة جدا، تشبثت بمقبض بابها وهي تمضي متمايلة، مد رجل يده إليَ وأركبني كان يجلس تقريبا خارج حدود الحافلة، مالت الحافلة نحو اليمين فملنا معها و تخطت يدي الاسطوانة التي تتوسط السقف طولياً وتتدلى منها انشوطات جلدية....مددت يدي ثانية، فمالت الحافلة جهة اليسار...فقدت توازني ووقعت إلى سطحها...كانت المقاعد ممتلئة بالركاب ونصف انشوطات الاسطوانة ُممسكٌ بها، تخطت نظارتي وجهي في الاهتزاز الحالي، أردت اللحاق بها، فانزلقت الأوراق من تحت إبطي، مد راكب يده تحت كرسيه ليساعدني في التقاط نظارتي قبل أن يهشمها شيء، ومد آخر يده ليلاحق أوراقي أسفل مقعده، انزلقت هويتي تحت قدم رجل من الريف، لمحت صرصاراً يمر سريعاً فوق القدم إلي فجوة ظهر منها الحشو الجانبي للحافلة، مالت الحافلة فضغط الريفي ظهر المقعد الذي أمامه برجله ليقي نفسه الوقوع، سال ماء طيني من حذائه المعصور، كانت تربته مختلفة، تلطخت هويتي ثم اختفت عن عيني، كنت ما أزال أحاول استعادة توازني للوقوف، ارتطمت بالمقاعد... اتسخت بدلتي الجديدة والتوت ربطة عنقي علي عنقي، ضج الركاب الذين ارتطمتُ بهم، دفعني بعضهم عنه لأنه بالكاد يقف وحاول عدد منهم تمكيني من الاسطوانة..صرخت بالسائق:

هيه يا...... خفف السرعة.

رد فورا منعطفاً بالحافلة المحتشدة:
مانيش على فص خاتمك و لا خاتم أمك.

ليدور حول جزيرة دوران كما خمنت من حركة الحافلة، لكن السرعة مازالت كما هي لا تنخفض ! أمكنني أخذ نظارتي لتستقيم المشاهد أمامي، وضم اضبارة المستندات تحت إبطي أقوى مما سلف، بدأت نفض التراب الملتصق ببذلتي وقد نجح شاب ماشياً بواسطة الاسطوانة في الاقتراب مني ورفعي عن سطح الحافلة المسرعة، كانت يده قوية، أجل قوية وحارة لم أتركها رغم استعادتي وضع الوقوف وتمكني من الاسطوانة، صاح السائق وهو يوقف الحافلة فجاءة :

يابن الكلب كسرتني..... يا ولد الذين.......يلعن أبوك وبو اللي خلاك أتسوق...........

ظننت أنا وصلنا حين توقف عن القيادة ونزل يعارك سائق الحافلة الأخرى، مخرجاً عصىً غليظةٍ من تحت كرسي القيادة لاستكمال الحوار. أدركت أننا لولا الحافلة الثانية ما توقفنا عن الاهتزاز، ارتفع صياح السائقين واخفض معظم ركاب الحافلتين رؤوسهم أسفل الكراسي مفتشين عن محافظ ورخص وأوراق وهويات وأشياء أخرى سقطت منهم أو ممن سبقهم. شعرنا بالحافلة ترفع رأسها بكبرياء وتسير سيراً هيناً، كان السائق الجديد رافعة البلدية التي ما ارتحنا على مقاعدنا وسررنا بوقف الاهتزازات حتى ألفيناها تتوقف في المنطقة المخصصة للخردوات، بالطبع لم نكن هناك لوحدنا فخلفنا الحافلة الثانية وأمامنا مئات الحافلات الوادعة كما لم تكن يوما، تلك التي لم يأكل الصدأ ولا الخراب ولا النسيان حرفاً من أسماء المناطق والبقاع التي حملتها !

[email protected]