عن تجربتي في العراق... انتاج مسرحي عراقي بلجيكي (2-2)

لقد تقرر في الأسبوع الأول أن لا نجري التمارين المسرحية في ذلك المبنى الكبير (العصري) للمسرح الوطني في ساحة الفتح. فبالاضافة إلى ما سبق، تشعر أنك إذا ما دخلت المبنى أن ثمة قوة متسلطة كبرى في ثنايا معمار المبنى: ديكتاتور! ديكتاتور يرى كل شيء كبير ما عدا البشر! المبنى يبعث فيك احساس متطرف بأنك صغير وهو واسع، وهو احساس يشعرك بانك صغير امام المبنى أو يشعرك بانك لست اكثر من قطعة صغيرة من قطع المبنى، قطعة زائلة وقابلة للاستبدال. ذلك المبنى كان قد تعرض لتخريب كبير حين دخلته في المرة الاولى. كانت المكاتب محترقة، الابواب مكسرة أو مقتلعة أو محترقة أو مسروقة أو مفتوحة عنوة. لقد تمت سرقة معظم الاشياء هناك من قبل اللصوص (ما يسمى الحواسم وأنصار صدام حسين)! وبدلا من أن نبقى في تلك البناية قررت بعد خمسة أيام من وجودي هناك أن أبحث عن مكان آخر للتمارين. إن عملي لا يتناسب مع هذه البناية الهائلة الحجم والتي تضيع فيها ملامح الفرد مهما كبر أو صغر. عملي يحتاج الى مكان طبيعي حميم يشعر الانسان عند الدخول اليه بالالفة لا بالاغتراب، يشعر فيه بالتفاعل لا بالاستلاب. احتاج الى مكان حميمي له نكهة أقرأ فيه تاريخي وملامح نفسي لا مبنى بدون تاريخ واسلوب معماري لا ينتمي الى عصر سوى عصر البرابرة الاسمنتي، مبنى يحتضنني كالأم. وهكذا رحنا نبحث فوجدنا منتدى المسرح الذي كان مخربا بدوره. والمنتدى يقع على ضفة نهر دجلة في الرصافة، في شارع الرشيد.

منتدى المسرح مبنى صغير، كان فيما مضى بيتا بغداديا ثم صار متحفا ثم مسرحا تجريبيا. هناك رحنا نجمع الاشلاء المخربة والمحترقة والمتروكة من المسرح الوطني، خشب محترق أبواب مكسرة وتالفة مكاتب مهشمة الاوصال وكل ما وجدنا أنه مدمر ومخرب.. ومن تلك الأوصال المتبقية، من خراب قائم بنينا بمرور الايام خشبة مسرح في باحة المنتدى.

المعالجة

لقد تعلمنا في المرحلة الاولى والثانية من العمل أن نفكر بطريقة التداعي أو التأليف associative لا بطريقة التسلسل chronologic والتركيب constructive والتوليف combinative. نعمل من خلال الابعاد وليس فقط عن طريق البعد الواحد. المخرج يعتبر هنا جزءاً من العملية المسرحية ومرحلتها الحاضرة وليس ربا يحكم! كان ثمة تفكير وعمل جماعي، مستقل عن العملية الاخراجية. وقد كنت أشدد دائما على أننا نعمل بطريقة غير انتاجية، أي أننا لا نضع النتائج نصب أعيننا ونحن نتمرن. لقد سمحنا للمرحلة المسرحية الجماعية أن تقود نفسها بنفسها لا أن نقودها نحن بطريقة انتاجية قسرية.

كذلك قررت أن لا أعمل مع ممثلين مشهورين ومن الطراز الاول. وكان لدي العديد من الدوافع التي جعلتني أتخذ مثل هذا القرار أهمها أنني عرفت أن من أصبح لامعا في ذلك الزمن يندر أن يكون بريئا من تهمة التواطؤ مع النظام السابق، بل حتى أن بعض الأسماء تستطيع أن تبوبّها في خانة المجرمين العاديين ذوي الجنح. كما أن ثمة من أسهم بشكل كبير في تجهيل المسرح العراقي وساهم بحيوية عالية في دفع عجلة المسرح إلى الخلف بحيث يبقى اسمه لمسة متميزة في الساحة وهو الملاذ والانقاذ. وأنا لا أعني الجميع بالطبع! أنت تعرف وأنا أعرف أن ثمة قديسين أحياء يستحقون التخليد. لقد رأيت بعضهم وشكرتهم على قداستهم.

لقد أصبحت أنقاض الخراب والولادة من الهشيم عنوانا لمشروعنا المسرحي ومنطلقا له حدد الفلسفة العامة للعرض. ولهذا كان واضحا أن عناصر العرض مكونة ممن هو قادم من المسارح (الشعبية) ومن المسرح الشعاراتي لسلطة صدام حسين، ممن كان موضوعا على الرفوف ومبعدا ومن كان جادا حارب ضد النظام السابق، وممن عاد من المنفى الذي فرض عليه...

بالاضافة إلى الممثلين الذين يتمتعون بقدرات جسدية جيدة أو طبيعية كان ثمة ممثلون غير قادرين على أداء افعال تحتاج لمرونة عالية بسبب كوارث صدام التي اعطبت كعب قدم أحدهم في حرب منسية واستبدلت عظم ساق آخر بعمود حديدي منبثق من حرب أخرى أو.. أو.. ومع ذلك فقد كان واجبي الترحيب بالتعاون معهم جميعا منطلقا من حقيقة أن (العمل في الخراب، أو الرماد يوقظ فينا طائر الفينيق) بالاضافة الى المنطلق الأول.
أعتقد أن على العمل المسرحي أن يقوم بما هو كائن من معطيات واقعية وليس انطلاقا من اختيار النموذج الأفضل بغرض تحقيق نتائج فنية مثالية! لا وجود في علمنا لنتائج مثالية، بل ثمة وجود لجودة نسبية في العرض المسرحي قوامها انها تمثل نتائج صورة واقعية عن العمل الجماعي المرتكز على اللا تسلط وليس على اختيارات وقرارات (إله) ما سواء كان ممثلا او مخرجا او مؤلفا.. او.. او... المقطع العرضي هو الممثل لحقيقة مرحلة تاريخية ما وليس النموذج الأمثل. وهنا يبتعد موضوع التمثيل عن موضوع المثال (الذي يمثل جماعة بشرية ما، أو يتمثلها!). انت تعرف أن التمثيل في أحد معانيه الكلاسيكية هو اعادة انتاج النموذج أو النمط بحيث يتعرف كل فرد يراه على جانب من جوانب نفسه في العملية المسرحية.

وقد كان سبب اختيار الممثلين المغامر هذا هو اعتقادي بأن ما خلفته سلطة صدام هو متنوع وشامل في الخراب والتراجع ويحمل كل النماذج التي تحدثت عنها. فلم يترك صدام لنا بشرا أسوياء بعد 35 عاما من الخراب الا الأبطال الأسطوريين، وهم ليسوا غائبين، ولكنهم ليسوا كثيرين. إن نظام صدام حسين لم يسمح بدخول المعارف المسرحية إلى العراق، كأي سلطة فاشية تشهر مسدسها اذا سمعت كلمة ثقافة، ولذلك بقيت المعرفة المسرحية متوقفة عند حدود (ستانسلافسكي، بريخت، مايرخولد، "ستراسبورغ؟"، جروتوفسكي "بشكل نظري"، يوجينو باربا "بشكل نظري" وبيتر بروك "بشكل نظري") وهؤلاء رواد عظماء للمسرح المعاصر فتحوا آفاقا رائعة أعطت المجال بتطوير مفاهيم العملية المسرحية بنهاية أعوام السبعينات إلى مجموعة كبيرة من المعلمين من مثل اتيان دوكرو (المايم الجسدي)، جاك لوكوك (القناع المحايد)، هيجيكاتا (البوتو)، مينتاناكا (أنواء وأجواء الجسد)، ميخائيل تشيخوف، بيتر شتاين، بوب ويلسن، بيتر سالرس، رضا عبدو، جوزيف ناتشي..

ولم يقتصر تحديد الاسلوب الفني على قضية الولادة من رماد الحريق (الفينيق) من حيث هو ممثل أو فضاء، بل تركناه يتغلغل في السينوغرافيا والموسيقى. لقد اعتمدنا موضوع اعادة التصنيع من الخراب القائم آلية لعمل حاولنا أن يكون متكاملا. قام بعض المهندسين بتجميع مواد مختلفة (خرده) صنعوا منها جهاز (اضاءة) واستخدموا الشبابيك لتكون جسورا للبروجيكتورات. وعندما لم ننجح في الحصول أو على محول كهربائي مناسب قررنا أن نغير اسلوب الاضاءة، فقررنا أن نعمل مع النار باعتبارها مصدر اضاءة بدلا عن الاضاءة المسرحية أو منافساً لها. بدلا من (الديكور) تعاملنا مع مبنى المنتدى باعتباره فضاء شاملا لعرض حي. فتم التعامل مع مختلف الفضاءت المتنوعة في المنتدى حتى المرافق الصحية. (الازياء) تم الاستعاضة عنها من خلال ما تبقى في المسرح الوطني من أزياء عتيقة وجدناها في االمخازن بالاضافة الى اعتمادنا على موهبة (اللنكات) وما قدمته لنا من ابداع! على صعيد (الموسيقى) وجدنا بعد طول تفكير وتدبير بيانو عتيق مهشم ويعمل بطريقة نشاز! واستخدمنا بعض الاصوات واصداء الاصوات في المبنى القديم، بعض أصوات الفضاء نفسه، بعض من أصوات الابواب، الخطوات فتح الشبابيك وغلقها وبعض أصوات الفجوات السرية الحية. وتعاملنا مع موضوع المشهد المختفي باعتباره مشهداً حاضراً وتأثير المشهد المختفي في العملية المسرحية ومن ثم بعملية اللقاء مع المشاهد. كان ثمة مشهد في شناشيل المنتدى حيث لا يرى المشاهد، ولا الممثلين ما يجري هناك. نحن نستقبل فقط مجموعة كودات صوتية باعتبارها حضورا صوريا في الزمان. تعاملنا مع أصداء الفضاء في المشاهد المختفية، مع السلم، مع الممرات العليا، مع ما هو داخل الغرف المغلقة، مع حديقة المنتدى الموجودة خارج فضاء العرض المسرحي.

المحتوى

لقد كانت أسئلتي التي تحملها المسرحية قبل قدومي إلى بغداد ليست سوى التباسات فنان منفي يعيش في بلجيكا! وكانت تتركز معظم الاسئلة (الفكرية) على ثيمة الجلاد. على آلية شخصية الديكتاتور. علاقة التابو بأشكاله المختلفة بالديكتاتور منطلقا من مبدأ أن السلطة هي فن القتل! هكذا هي منذ مطلع التاريخ حتى اليوم!
أما الأسئلة (الفنية) فكانت موجهة إلى نفسي وإلى المشاهد أو الشاهد البلجيكي وهي اسئلة من قبيل ما هو الدور الذي يمكن أن تلعبه أساليب العرض البدائية أو الماقبل مسرحية (الحكواتي كمثال) في عالم ما بعد الحداثة؟ إلى أي درجة يمكن أن يكون أسلوبا فنيا ما خالدا؟ هل من الممكن أن (يموت) أسلوب تمثيل أو طريقة عمل ما؟ هل تتقادم الأساليب ويتجاوزها التاريخ؟ من يحدد تقادم أسلوب ما وتجاوز التاريخ له؟ من يؤرخ لقوانين العمل الفني ويمنح هذه الطريقة في العمل لا تلك حق الخلود؟ من يحدد التطور الفني لفترة زمنية معينة؟

وحين وجدت نفسي في بغداد، في خضم عالم جديد (!) رميت بالبحوث والتحضيرات الأولية جانبا ووقفت في غابة الالتباس الجديد، وشرعت أقطف الاسئلة:
هل نحن نسير اليوم نحو بناء ديكتاتور جديد؟ لماذا تتكرر اللعنة التي اسمها المستبد في حياتنا، في البيت، في المدرسة، في الدولة؟ هل جلجامش هو وصمة عار في تاريخنا اكتسبت الخلود عن طريق شاعر عظيم؟ هل تمدنا رحلات السندباد بخزين ثري لنواصل الحياة؟ هل لدينا الجرأة على ملامسة التابو؟ هل نستطيع أن نكون ديمقراطيين مع أنفسنا قبل أن نكون ديمقراطيين مع الآخرين؟ هل نجرؤ على النظر إلى أنفسنا لكي نرى الخبايا المظلمة فينا؟ هل لدينا خلاص ما؟
هذا على الصعيد (الفكري)، أما الأسئلة (الفنية) الموجهة إلى نفسي وإلى زملائي المشاهدين وكادر العمل العراقي فقد كانت على صعيد المثال لا الحصر:
هل هناك فرق بين الممثل العراقي والممثل غير العراقي؟ هل يستطيع الممثل العراقي اذا حصل على المعارف المسرحية المعاصرة أن يقف إلى جانب زميله غير العراقي؟ هل يستطيع الحكواتي أن يتشظى فيستحيل كل منا الى حكواتي: مشاهد وممثل ومخرج.. الخ؟ هل يمكن تحول الحكي من موضوعة سردية الى فعل على المسرح دون السقوط في التصويرية والتشخيصية؟ هل يمكن أن تتحول منظومة الصوت الى منظومة صورية؟ هل يمكن لنا ان نوزع مراكز التركيز على الحكاية بطريقة أفقية تداعياتية وليس عمودية هيكلية؟ بمعنى هل يمكننا الغاء نظرية السبب والنتيحة في المسرح؟ هل يمكن لجميع الممثلين ان يكونوا حاضرين في أفعالهم وحكاياتهم الخاصة التي هي رد فعل أو تعليق أو موقف على حدث موجود في ذات المشهد أو وجود مستمر من مشاهد سابقة على المسرح طوال العرض دون أن نفقد زمام العلاقة مع بعضنا ومع المشاهد؟ هل يمكن التعامل مع التكرار العربي بطريقة تأويلية وليس بطريقة تقليدية أو فولكلورية؟ هل يمكن اعتماد الفضاء العاري مركزا لأحداث متنوعة تأخذ قوة حضورها من الفضاء دون أن يتكرر لا الحدث ولا الفضاء؟

De uren nul ساعات الصفر
مسرحية من تحقيق:

اخلاص العزاوي (أزياء)، أسعد راشد (ورشة تدريب)، باسم الطيب (تمثيل)، جاسم وحيد (اضاءة)، حازم كمال الدين (تأليف واخراج)، حسين رشيد (انتاج عراقي)، حميد عباس (تمثيل)، سامر الصراف (موسيقى)، طه المشهداني (تمثيل)، عامر نايف سلطان (اعلام)، عباس خضير (اكسسوار)، عبد الوهاب عبد الرحمن (دراماتورغي)، علاوي حسين (تمثيل وادارة مسرح)، عهود ابراهيم (تمثيل) ويوكا وكاسر (انتاج بلجيكي)

هامش:
قدمت مسرحية ساعات الصفر في بغداد من يوم 17 حزيران 2004 وحتى ال 25 من نفس الشهر. ولقد ظهرت الكثير من المقالات عن المسرحية في الصحافة العراقية اليومية، في صفحات الانترنت وفي محطات التلفزيون المحلي.