لا أدري لماذا يكلـّف الأمريكيون أنفسهم عناء إعداد المشاريع السياسية، ورسم خرائط الطريق، والتفكير في أنجع السبل وأيسرها لتفتيت المنطقة. ولا أدري فيما إذا كانت تستأهل منهم تلك المهمة كل هذا الجهد والتعب والتخطيط. فإحدى أهم أهداف السياسة الأمريكية قائمة على تفتيت هذه المنطقة، وتحويلها إلى كانتونات، وغيتوهات طائفية، وإثنية، ومذهبية. فمن ينظر إلى خريطة هذه المنطقة، وسلوك سياسيها يلاحظ أن هذه المنطقة قد تحولت وبعد حوالي القرن على ولادة المشروع القومي العتيد إلى دويلات مسخ، تسهل جداً على المسؤولين الأمريكيين مهمتهم التفتيتية، وأن المشروعalreadyquot; quot; موجود ولا داعي البتة لبذل الجهد من أجله.

فاتفاقيات quot;المغفور لهماquot;، وزيري الخارجية، مارك سايكس الإنكليزي، وجورج بيكو الفرنسي، تعتبر وفق ما آلت إليه الأمور، ومن منظور جيو- استراتيجي بحت، واحدة من أنجح المشاريع القومية العربية في التاريخ على الإطلاق، وأكثرها قرباً من الحلم القومجي الموعود. حيث لم يكن هناك في الواقع أي كيان سياسي عربي تاريخياً موحد، وقائم وفق المنظور والأسس التي تقوم عليهما الدول الحديثة. ولا تشكل دولة الخلافة، هنا، أوالتجمعات الهيراركية والمشيخات القبلية المعروفة أي شكل من أشكال الدول المدنية الحديثة والمتقدمة التي يعتد ويؤخذ بها. وعلى القوميين العرب، ومن والاهم، ولف لفهم من أجاويد ونشامى الفحيح القومجي المؤرق، أن يقيموا النصب التذكارية في الساحات العامة لطيبي الذكر سايكس وبيكو، بسبب رؤيتهما القومية الفذة، وشكرهما، في الحقيقة، على إيجاد ذلك الأنموذج الراقي للحد الأدنى من شبه الدولة العربية التي أصبحت مستحيلاً وحلماً وسراباً في ضوء كل المعطيات والمستجدات الحديثة.

ومن هنا يجب أن تتم إعادة الاعتبار لهذين quot;الرائدينquot; القوميين الفذين، واعتبارهما من أبطال الفكر القومي العربي، قولاً وفعلاً، وجنباً إلى جنب مع كل من ساطع الحصري، وميشال عفلق، وزكي الأرسوزي، من حيث عدم التفريط بالتراب والجسد العربي قياساً بما نراه اليوم من تفريط من صناديد القومجيين والإسلامويين المستعربين الذين يعملون بتؤدة وثبات على تفتيت الجسد العربي مع جورج بوش وجوقة المحافظين الجدد. وعلى أن تكون أيام ميلادهما أيام عطل رسمية ومناسبات قومية وفرح شعبي عام. وأن تطلق أسماؤهما الخالدة على كافة شوارع المدن العربية الرئيسية التي بقيت على قيد الحياة من طنجة إلى خورفكان. فكم كان هذان السياسيان ثاقبي النظر ورؤوفين جداً وهم يقوما بتمزيق أوصال الجسد العرب الرث الموروث عن خلافة بني عثمان البائدة إذا ما قورنا بما يقوم به ورثة القبائل القومجية من تقطيع لأوصال هذه المنطقة المسماة زوراً وبهتاناً بالوطن العربي عبر الاقتتال والاحتراب ورفع المصاحف والسيوف والرماح؟ وكم كانا على درجة من الاستحياء والخجل والرؤية القومية الفريدة وهما يفتتا جسد الكيان العربي إلى جمهوريات، ومشيخات، وممالك لم تفتأ هي الأخرى أن انشطرت لاحقاً فيما نراه من تهافت وانهيار للمشروع القومي، الأمر الذي يؤكد أن فكرة القومية العربية لم تكن سوى واحدة من خزعبلات وأزعومات وهلوسات القوميين العرب الكبرى.

وستبقى الخريطة التي بنى عليها سايكس وبيكو هي المثال الأرقى والحلم الأسمى للكيان القومي العربي المزعوم الذي لا يمكن أن تتم إعادة تجميعه على الإطلاق الآن كما رسمه رائدا الوحدة العربية سايكس وبيكو، رحمهما الله؟ فمن يستطيع أن يتنبأ بكم فلسطين سيصبح لدينا في المستقبل؟ وإلى كم لبنان سنشطر هذا quot;اللبنانquot;؟ وكم سودان سيتولد من هذا السودان؟ وهل سنكتفي بثلاث quot;عراقاتquot; أم أن الحبل على الغارب والقادم أدهى وأعظم؟ وهل يستطيع أحد أن يتكلم اليوم عن أي شكل من أشكال الوحدة الوطنية، ولندع الكلام هنا جانباً عن أي نوع من الوحدة القومية العربية، في كل من الجزائر، واليمن، ومصر، والمغرب العربي في ضوء الصراعات متعددة الأسباب الناشبة، والمرشحة للنشوب، في هذه الدول؟ فإن من يتابع حروب quot;الأشقاءquot; اليومية يستغرب فعلاً عن جدوى وحقيقة كل تلك المحاولات الأمريكية والإسرائيلية للسيطرة على المنطقة وافتعال الحروب وإشعالها، والأخوة الأعداء، يتكفلون، وبعون الله، بهذه المهمة المقدسة ودون أدنى تدخل من أمريكا وسياستها، التي أصبحت جهداً وحملاً زائداً، لا حاجة لنا به البتة. وأعتقد أن هذا هو السبب الوحيد الذي من أجله يستنكر العروبيون والقومجيون ومن لف لفهم السياسات الأمريكية في المنطقة ولسان حالهم يقول: quot;جحا أولى بلحم ثوره يا إخوانquot;، فنحن قادرون على تصفية بعضنا البعض، وتفتيت بعضنا البعض، وإبادة بعضنا البعض عن بكرة أبينا وأمّنا، ولا حاجة بنا لأيدي الغرباء أو لأية مساعدة و تدخل خارجي معيب ومرفوض بالمقاييس القومجية والعروبية والإسلاموية للقضاء على هذه الأوطان. وهذا هو السر والسبب الوحيد في حملة القومجيين الهوجاء، وحنقهم، وغيظهم من السياسة الأمريكية في المنطقة التي تنافسهم في نشاطاتهم القومجية؟

ولا أدل على تشتت هذه الأمة، وتفرق كلمتها، والحمد والشكر وكل الفضل لله، سوى مؤتمرات لم الشمل الفاشلة، ومحاولات التقريب بين المذاهب المتناحرة، وفزعات تبويس الشوارب بين القبائل quot;الحردانةquot;، والمتنازعة، التي يكفر بعضها بعضاً، ويدّعي كل منها النجاة والعصمة والحجز المسبق لجميع مقاعد الجنة لأفرادها، والتي تنتهي كلها بشتى أنواع المشاجرات، والتكفير، والتخوين والمهاترات الرخيصة على الهواء، وبرغم كل أدعية وزعيق وتضرع الفقهاء الذي يملأ الأرض والفضاء، ضجيجاً وصخباً وضوضاء.

نضال نعيسة
[email protected]