ترجمة وتقديم عبدالقادر الجنابي: عندما طلبت دار نشر من بيير ريفيردي ( 1889-1960)معلومات عن حياته كان جوابُه:
quot;وُلدَ في... مات في ...
لا توجد أحداث
لا توجد تواريخ
لا شيء
وهذا أمرٌ رائعquot;.
وعلى سؤال quot;جريدة الشعراءquot;: quot;لماذا تكتب قصائد؟quot; (1923)، أجاب ريفيردي بما يلي: quot;لا أكتب إلاّ قصائد، إذ لا أرى كيف يمكنني العيش مع أشخاص آخرين، حتى لو كانوا من اختراعيquot;.
لريفيردي مفهوم تبنّته السوريالية توسيعاً لشعريتها المغيِّرة، يكشف عن قوة الصورة في قصيدة النثر: quot;كلما كانت علاقات الشيئين المقرّب بينهما بعيدة وصائبة، قويت الصورة وقوي تأثيرُها في تحريك العاطفة وأشتد انتماؤها إلى الشاعريّةquot;. quot;فالمقصودquot;، في نظر ريفيردي، quot;ليس التعبير عن حالة شعرية، ولا حتّى إيصالها، وإنما المقصود إثارتها. فالشاعر هو الذي

بيير ريفردي بريشة موندلياني

يعْلَم، وعليه أن يعْلَم، بواسطة القصيدة، كيف تُثار هذه الحالة. فهو يعرف هذه الحالة، لكن تجربته عنها لا تتطابق مع الحالة التي يوجد فيها حينما يكتب. فهو يتلقّى بلا إرادة عندما يكون في حالة شعرية، ويسيطر أو يحاول أن يسيطر، عندما يعمل على إثارة هذه الحالة بواسطة القصيدة؛ ولعلّ هذا هو كل الاختلاف، البالغ حدّ التناقض، بين الطبائع البشرية والشعراء، فالطبائع الشعرية تحسّ أكثر مما تستطيع أن تعبّر، بينما الشعراء يعبّرون أو يبتغون أن يعبّروا أكثر مما تحسّ الطبائع البشريةquot;
جمع ريفيردي معظم قصائده النثرية في أربعة دواوين: quot;قصائد نثرquot; (1915)، quot;نجوم مرسومةquot; (1921)، quot;انتهاز الفرصةquot; (1928) وquot;بُرَكٌ زجاجيةquot; (1929). والمواضيع تتغير من مجموعة إلى أخرى. ففي الأولى يهتم بتصوير طبيعة الأشياء الميتة بلغة الحركة التكعيبية وألوانها. بينما في الديوان الثاني ينتقل من الوصف الموحي المجرد تكعيبياً إلى المشهد الشعري للأشياء حيث شيء ما يحدث، أشبه بلوحات من داخل الحياة يتساطر فيها كل شيء بطريقة غرائبية تشك بما تراه العين: quot; إنه جيش حقيقي يسير أو يحلم، الطفل ينام أو يبكي. ينظر أو يحلم.quot; في الثالثة يتراءى العدم: الأيام تمر بسرعة حيث الخطى المسرعة لا تحيط إلا بالفراغ، بينما الخطى البطيئة تؤدي بالضرورة إلى الموت. أما في ديوانه الرابع فالزمن يتوقف، لا تعود له أية أهمية. العتمة والنور، النهار والليل واحدهما يجاري الآخر ويسيران بالسرعة نفسها. يعتبر بيير ريفيردي أول شاعر قصيدة نثر خلط في دواوينه بين أشكال البيت الحر( Vers libre الشعر الحر بالمعنى الأوروبي للكلمة) والنموذج الكلاسيكي لقصيدة النثر. إذ حاول أن يكسر إطار الأخيرة ويعطيها شكلاً يتراوح بين الكتلة المفككة والتشطير الحر، كما أن قصائده النثرية تعتمد كثيراً على تقطيع الفقرات. على أنه يبقى هو وماكس جاكوب، أفضل من ثبت قصيدة النثر نموذجاً خاضعاً كلياً للمثلث: إيجاز، توتر، لاغرضية. وهاهنا نماذج كلاسيكية له.

الموسيقيون

الظل والشارع في الزاوية حيث يحدُثُ شيءٌ ما. الرؤوس المتجمّعة تسمع أو تنظر. العين تمر من الرصيف إلى الآلة التي تعزف، التي تقرع، وإلى السيّارة التي تعبر الليل. بُروقُ مصباح الغاز تقطع الحشدَ بلا هدف وتفصل الأيدي المتصافحة، كلَّ النظرات المعلقة والضجيج. الناس هنا والكل في الساعة نفسها، عند ملتقى الطرق. الأصوات الموزعة تقود الحركة على الوتر الذي يصرُّ ويموت كل دقيقة. وإشارة السماء، الإيماءة التي تُلمْلم فيختفي كل شيء في ذيل الملابس، في جزء من حائط يخرُّ. كل شيء يتزحلق فيما الضباب يلفُّ العابرين، يبعثر الأصداء، يحجب الإنسانَ، الفرقةَ والآلة.

حياة قاسية

قابع في الظل وفي البرد طيلة الشتاء. عندما تهب الريح، يحرك شعلة صغيرة في طرف أصابعه ويقوم بإشارات بين الأشجار. رجلٌ مسن؛ كان بلا شك مسناً والزمن السيئ لم يقض عليه. عندما يحل المساء ينزل إلى السهل، ففي النهار يختبئ عند منتصف التل في الغابة التي لم نره يخرج منها أبداً. وما إن يبدأ الليل، حتّى يرتعش ضوؤه الصغير كمثل نجمة عند الأفق. الشمس والضجيج يخيفانه؛ يختبئ بانتظار أيّام الخريف القصيرة والهادئة، تحت السماء الواطئة، في الجو الرمادي والعذب حيث يمكنه أن يتجوّل، منحنيَ الظهر، من دون أن ينتظره أحدٌ. إنه رجلُ الشتاء المسنُّ الذي لا يموت.

حقلٌ مغلقٌ

ثمّة هالةٌ على الغرفة الخالية. النباتات التي تحفُّ حواشي السطح إلى أقصى الجذور، وحتّى الأغصان الشقراء تستجلب الظلّ.
الحائطُ الرابعُ يذهب أبعد. وأبعد من الزاوية حيث السّتارة تتنهّد. أعلى من الليل الأسود ومن أدخنة المعمل المتحركة. شخصٌ ما يغنّي بجانب الغرفة الخالية، على الحائط، قريباً من النجمة.
ثمّة هالةٌ ليست بقمر، ثمّة ضوءٌ ليس بمصباح. لكن ثمة مربّع أسود على الأرض الحالكة.
والمربّعهو ذاتهالغرفة الخالية.

عراء

لعلني أضعت المفتاح، والعالم يضحك من حولي وكل واحد يريني مفتاحا كبيراً معلقاً في رقبته.
أنا الوحيد الذي ليس له مفتاح لكي أدخل مكاناً ما. اختفى الجميع. والأبواب المغلقة تجعل الشارع حزيناً. لا أحد. سأطرق في كل مكان.
شتائم تنهال علي من النوافذ فابتعد.
وجدت، أبعد قليلا من المدينة، على ضفة نهرٍ وطرف غابةٍ، بابا. الباب بسيط مشبّك وبلا قفل. لبثت خلفه وفي الليل الذي ليس له نوافذ وإنما ستائر عريضة، بين الغابة والنهر اللذين يحمياني، استطعت أن أنام.

لكلٍّ حصّـتـُهُ

طرد القمرَ، ترك الليلَ. واحداً فواحداً، تهاوت الأنجم في شبكة الماء الحَرِك.
كان صيّادٌ عجيبٌ، خلف الحَور الرَّجْراج، يترصّد نافدَ الصبر بعينٍ مفتوحة، وحيدة، مختفيةٍ تحت قبعته الكبيرة؛ فاهتزّ خيط الصنّارة.
ما من شيء قُبِضَ عليه. لكنّه طفقَ يملأ كيسَهُ بقطع الذهب التي انطفأ بريقُها في السلة المغلقة.
على أنّ شخصاً آخر كان ينتظر بعيداً عن الضفّة. كان يصطاد، بكلّ تواضع، في بركة الوحل التي تركها المطر. الماء هذا، آت من السماء، مفعماً بالنجوم.

المسافر وظلّه

كانت الحرارة جد شديدة مما جعلته يخلع ثيابَهُ طوال الطريق ثوباً تلو ثوب. تركها معلّقةً على شجيرات لكل منها ساق واحدة. وعندما أرتدّ عارياً، كان قد دنا أصلاً من المدينة. انتابه خجلٌ فائقُّ الحدّ، فمنعه من الدخول. كان عارياً، كيف لا يلفت الأنظار؟
التفَّ إذّاك حول المدينة، ودخلها من الباب المواجه. أخذ مكان ظلّهِ الذي، داخلاً قبله، حماه.

الشعراء

اختبأ رأسُه مذعوراً تحت عاكس المصباح. أخضرُ اللون، عيناه حمراوان. ثَمَّ موسيقيٌ لا يتحرّك. نائمٌ؛ تعزفُ يداه المقطوعتان على الكمان لكي تنسياه شقاءه.
سلّمٌ يفضي إلى لا مكان، يتسلّق مدار البيت. لا أبواب ولا نوافذ. نَرى على الأسطح ظلالاً تثبُ هائجةً إلى الفراغ. تتساقط ظلاً فوق الآخر من دون أن تموت. وسَرَعان ما يأخذوا المصعد ثانية ويعيدوا الكرّة، مسحورين أبدا بالموسيقي الذي لا يزال يعزف على الكمان بيديه اللتين لا تسمعانه.

عندما لا نكون من هذا العالم

كان شخص ما يتكلّم، طوال العاصفة، من تحت الغطاء. كان من الممكن، لو دقّقنا النظر، رؤية حروف سوداء كبيرة حول الضوء الذي كانت إصبعه تتقرّاه فوق السماط. وسرعان ما صارت النبرةُ مختلفةً. ولونُ الحائطِ تغيّرَ. بدا الصوتُ كأنّه آت من الوراء. لم نعرف إن كان من خلف الحائط أم من وراء الحاجب. الحروف اختفَت أو بالأحرى كانت قد تلاحمت، وكونّت اسماً غريباً لا يمكننا استشفاره.