راغدة درغام

ما تتطلبه استراتيجية الخروج الأميركي من العراق ليس الجداول الزمنية والتدريجية في الانسحاب والانحناء أمام ايران وسورية مقابل التسهيلات، وانما العكس تماماً. فقد حان وقت تبني استراتيجية تعطي الانسحاب نفسه زخماً فعالاً للتأثير في مواقف العراقيين أنفسهم والدول المجاورة لهم. ما يجمع عليه اللاعبون المحليون والاقليميون هو تمنياتهم ببقاء القوات الأميركية في العراق، كل لأسبابه وأهدافه وأغراضه. وما يجب على الأميركيين، جمهوريين وديموقراطيين ومستقلين، هو التوقف عن الوقوع في غرام تقرير بيكر - هاملتون وكأنه المنقذ المنزل لأن معظم التوصيات فيه حقيقة، هراء وتظاهر. فليس هناك انسحاب أميركي مشرّف إذا اتخذ قاعدة له المساومات والصفقات مع دول صنفتها الولايات المتحدة راعية للإرهاب، ولا مجال لانسحاب تدريجي من العراق. الأميركيون يتهربون من مواجهة الواقع المرير وهو أن الانتصار العسكري التقليدي في حرب العراق يستدعي بالضرورة أمرين: التجنيد الإجباري ورفع الضرائب لتغطية التكاليف المذهلة التي تبلغ 10 بلايين دولار شهرياً. بهذا الموقف، ما يريدونه، عملياً، هو laquo;هزيمة مشرّفةraquo; تكفل التخلص من مستنقع العراق حتى وان تركت وصمة على الجبين الأميركي. هذا الهوس بالانسحاب بات يعمي من يعارضه ومن يدعو اليه على السواء، فيما هناك إمكانية لجعل الانسحاب مفيداً لاستعادة زمام الأمور، وإعادة خلط الأوراق الاستراتيجية، واحتفاظ الدولة العظمى الوحيدة بمرتبتها. وكي يكون الانسحاب جزءاً من الحلول في استراتيجية متكاملة ومدروسة، يجب أن يكون بنداً أساسياً وضرورياً في التوصل الى حلول. هذه الاستراتيجية، إذا كانت ذكية وحازمة وحذقة، تتطلب أن تكون أطراف اقليمية وأطراف دولية شريكة فيها ليكون مشروع الخروج من العراق عملاً جماعياً عكس دخوله بقرار أميركي انفرادي. وكما قال السفير السعودي السابق لدى واشنطن الأمير تركي الفيصل أثناء ندوة في laquo;المنتدى الاقتصاديraquo; في البحر الميت ادارتها كاتبة هذا المقال: لقد حان الوقت لإرسال دعوة خروج للولايات المتحدة من العراق.

قبل سبعة أشهر، وفي نهاية السنة الماضية، دعيت في هذه الزاوية الى الانسحاب الأميركي laquo;الفوري والكاملraquo; من العراق، عكس ما يدعو إليه المغرمون بتقرير بيكر - هاملتون من انسحاب تدريجي ببرامج زمنية. جاء فيها ان أمام الإدارة الأميركية laquo;خيار الانسحاب الفوري والكامل بما يترك العراق جاراً مخيفاً جداً لايران ويترك وراءه ورطة ايرانية داخل العراق. فغزو العراق واحتلاله شكلا هدية أميركية ثمينة لايران سيما وأن سلطات الاحتلال الأميركية دمرت الجيش العراقي بعدما أطاحت بنظام صدام حسين، وقوّت حلفاء إيران داخل العراق، وجعلت من مناطق عديدة في العراق ساحة آمنة للنفوذ الايراني القاطع. فإذا انسحبت القوات الأميركية بأسرع ما يمكن من العراق، فإنها ستترك ايران في مأزق، وستحرر الولايات المتحدة من مستنقع العراق لتتمكن من استعادة الهيبة والعظمة. ستتمكن الإدارة الأميركية عندئذ من اتخاذ مواقف صارمة من طهران بلا خوف من انتقام ايراني ضد القوات الأميركية في العراقraquo;.

المقال ذاته دعا الى الانسحاب الى القواعد البحرية الأميركية علماً أن الأساطيل الأميركية وحاملات الطائرات متفوقة جداً (لدرجة ان الصين تحتاج الى 20 سنة لتعادلها) والى ضرب حصار في مضيق هرمز لتطبيق laquo;الحرمانraquo; في الحروب النفطية، إذا برزت الحاجة. أي أن الولايات المتحدة ليست في حاجة الى غزو ايران للتعويض عن خسارتها العراق في الاعتبارات النفطية وانما الأرخص لها ان تنسحب من العراق وتضرب حصاراً بحرياً يشل ايران ويحجّم طموحاتها الاقليمية والنووية، إذا أرادت أن تواجه التصعيد الايراني بحزم.

كذلك، ان الانسحاب الأميركي الى البحار يحرر القوات الأميركية من قبضة laquo;القاعدةraquo; وأمثالها في العراق بقدر ما يحررها من الجلوس بطة جاهزة للاصطياد في الحروب العراقية المتعددة.

بالطبع، هناك خيار الانسحاب أيضاً الى القواعد الأميركية في المنطقة، الكبرى منها والصغرى، الناشطة منها والنائمة حالياً. هذا اضافة الى الرغبة العارمة لدى أكراد العراق بترغيب الولايات المتحدة بأن تتخذ لنفسها قاعدة كبرى وأساسية في كردستان تكون بمثابة صمام الأمان لا سيما إذا تدهورت الأمور الى درجة التقسيم ما بعد الشرذمة.

الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش يحتاج أن يجعل من الانسحاب أساساً لاستراتيجية جديدة تضعه في موقع القيادة عسكرياً وديبلوماسياً وسياسياً. وهذا يتطلب منه أن ينظر الى الانسحاب من العراق بأنه فرصة لاستراتيجية عسكرية جديدة، وليس تقهقراً. مضاعفة عدد حاملات الطائرات في المنطقة والعمل على إنشاء قاعدة بحرية ضخمة بأساطيل لا مثيل لها قادرة على استئناف الحرب ضد الإرهاب وعلى تقليم أظافر ايران وسورية اللتين سترثان جيرة تهددهما بعدما استثمرتا فيها التطرف ولتسريب المتطوعين المسلحين لمحاربة القوات الأميركية في العراق.

جورج دبليو بوش على حق عندما يقول: laquo;اننا في حالة حربraquo;، لكنه يخطئ عندما يقاوم فكرة الانسحاب من العراق بشراسة كسبت له العداء والكراهية حتى في صفوف كبار القيادات في الحزب الجمهوري. ان الانسحاب فرصة إذا تفاهم عليه الأميركيون منطقياً بعيداً عن المزايدات في المرحلة الانتخابية وأقروا أن الانسحاب يجب أن يكون فورياً - بالدرجة التي تسمح بها الواقعية - لإعادة الترمكز في الأساطيل البحرية والقواعد البرية.

حتى إذا أراد الداعون الى الحوار مع سورية وايران، فإن حواراً استراتيجياً صارماً ممكن فقط في ظل الانسحاب من ورطة ومستنقع العراق بما يعطي الولايات المتحدة القوة الأكبر.

ولأن هناك مخاوف من انهيار الاستقرار في المنطقة نتيجة الانسحاب الأميركي من العراق، قد تستفيق دول كبرى مثل الصين وروسيا الى ضرورة ملء الفراغ بوعي جماعي وبعمل جماعي كي لا يؤدي نسف الاستقرار الى انهيار الاقتصاد العالمي. فمثل هذا الانهيار يؤثر مباشرة على المصالح المباشرة لروسيا والصين كما لأوروبا واليابان والهند ودول أخرى. وبالتالي، أمام الإدارة الأميركية فرصة لبدء حديث مختلف نوعياً واستراتيجياً مع روسيا والصين اللتين لهما علاقات تحالفية مع ايران لأسباب نفطية واستراتيجية.

أمام اميركا فرصة لتحويل الانسحاب الى أداة تخويف من عواقبه بدلاً من ترك الانطباع بأنه تقهقر وهروب من العراق. انما في الوقت ذاته، انه قرار حيوي أن تتقدم الادارة الأميركية بمبادرة تأخذ التواضع أساساً لها تنطلق من الاستعداد الصادق للإقرار بأخطاء استبعاد روسيا عن العراق وأخطاء الاستراتيجية الفاشلة التي حملت عنوان laquo;الاستباقيةraquo; وكان أحد أهم أهدافها الاستفراد بالعظمة ومنع الصين من المنافسة بأي ثمن كان.

هذا الحديث يمكن أن يدور ثنائياً وأن يرافقه حديث أوسع بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ودول أساسية في المنطقة العربية أبرزها المملكة العربية السعودية.

يمكن لبان كي - مون، الأمين العام الجديد للأمم المتحدة، أن يقوم بدور استراتيجي للم الشمل الدولي إزاء العراق بدءاً بتفاهمات وراء الكواليس بين الكبار تفتح الباب لتدشين تفكير استراتيجي جديد.

ازدياد الضغوط الأميركية دفعاً الى انسحاب قريب وسريع يوفر فرصة للأمين العام لتعجيل التفكير بدور له يخدم الحوار في النظام الاقليمي والنظام الدولي اللذين سيفرزهما الانسحاب الأميركي من العراق. أي أن على بان كي - مون أن يساعد العراق بتفكير تجددي يتعدى الحديث عن مرارة ما حدث عندما غامرت إدارة جورج دبليو بوش بحرب غير شرعية عارضها مجلس الأمن الدولي والشماتة بما أسفرت عنه الحرب من تحجيم للولايات المتحدة الأميركية وغطرستها. عليه أن يقنع جميع الدول الفاعلة أن التحدي الآن يتطلب مد حبال الانقاذ للعراق والمنطقة ولمصالح هذه الدول نفسها لأن الانسحاب الأميركي الآتي يلغي مقاومة مد حبال الانقاذ لأميركا من المستنقع العراقي.

اقليمياً وعراقياً، ان ما سيخلفه الانسحاب الأميركي من فراغ يخيف الجميع. الدول المجاورة للعراق لا تريد دولة منهارة في العراق وهي تخشى هجرة المتطوعين والتكفيريين والإرهابيين الذين استدعاهم جورج دبليو بوش الى حربه في العراق. تخشى هجرتهم اليها، ولذلك عليها أن تضع استراتيجية متكاملة للتعاطي مع هجرة العصيان والإرهاب والمتطوعين من العراق في مرحلة ما بعد انسحاب القوات الأميركية.

انما المسؤولية العربية أكبر وأوسع وأعمق من مجرد التفكير بحماية نفسها من افرازات الانسحاب الأميركي. انها مطالبة بالتفكير بالعراق بعد الانسحاب وماذا بوسعها أن تقوم به لمنع استنزافه أكثر فأكثر.

على الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، أن يعطي موضوع العراق الآن كامل جهده وأولوياته وأن يتفرغ له بدلاً من الاطلاع عليه بين الحين والآخر. فكما بان كي - مون مطالب بتحريك واستضافة حديث من نوع آخر، كذلك عمرو موسى انما عربياً حصراً. ليس المطلوب منه مبادرات وانما حض الدول المهمة على مبادرات يكون للجامعة العربية دور فيها بصورة أو بأخرى. المطلوب التفكير باستراتيجية عربية في مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي من العراق بصورة جدية وملحة.

المطلوب أن تعمل المنظمات الاقليمية والدولية بصورة لم يسبق لها مثيل في عملية متماسكة تتماشى مع الاستعدادات الأميركية للانسحاب من العراق. منظمة المؤتمر الاسلامي مؤهلة لدور وكذلك الاتحاد الأوروبي شرط ألا تُثقل المهمات ببيروقراطية تقليدية. فهناك فسحة زمنية متاحة تقتضيها عملية الانسحاب ذاتها، وهذه الفسحة هي الفرصة لوضع اطار سياسي وفكري وعملي لديبلوماسية مكوكية باتجاهات عدة.

الانسحاب الأميركي يمهد الطريق أيضاً الى حوار داخل العراق والى الحرص على صيانة العراق من التقسيم، حسب رأي الخبير العراقي يحيى سعيد، مدير مركز مراقبة الدخل النفطي في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. فالعراق الموحد laquo;يوفر ضماناً أمنياً لجميع الأطراف العراقية حتى لتلك التي تسعى للاستقلال إذ انها تشعر بأن هناك فائدة استراتيجية لها ببقائها جزءاً من العراق. ذلك البقاء يوفر لها الغطاء الأمني والبعد الاستراتيجي الأمنيraquo;.

رأيه ان من الخطأ التصور ان لدى شيعة العراق laquo;رغبة أو استعداداً للانضواء تحت هيمنة ايرانraquo; وهو يشير الى البصرة كمثال، حيث جميع النفط العراقي يصدّر الآن من البصرة وحيث يوجد 80 في المئة من الاحتياطي النفطي أو المكتشف سطحياً. قد يبدو منطقياً ان تكون البصرة أكثر طرف مستفيد من تقسيم العراق. واقعياً، ان البصرة laquo;أقل تحمساً من الجميع لمسائل الاستقلال والتقسيم لأن أهالي البصرة يعرفون انهم سيتحولون الى فريسةraquo; في حال تقسيم العراق. وحسب سعيد ان laquo;السيادة العراقية هي التي تمنع التهام البصرة من قبل أي من الجيرانraquo; ولذلك ان وحدة العراق laquo;ضرورة استراتيجيةraquo;.

حتى مقتدى الصدر وجيش المهدي، فإنه قد يخشى الانسحاب الأميركي من العراق لأنه يخلق فراغاً قد يضطر للقتال من أجل ملئه فيما هو الآن شبه حليف للحكومة laquo;ويمثل أقوى حركة جماهيرية في العراق، انما من دون بوصلةraquo; حسب سعيد.

ايران وسورية تدعيان أنهما تريدان الانسحاب الأميركي فيما هما في الواقع في حال رعب منه، أولاً، لأنه يعرضهما لمواجهة مباشرة مع المعروف والمجهول في قوى العصيان والتمرد والإرهاب على حدودهما مع العراق من دون الدرع الأميركية التي قامت بالحرب نيابة عنهما حيناً وضد مرتزقة تابعين لهما حيناً آخر. وثانياً، ان تحرر الولايات المتحدة من العراق يترك لها خيارات حرة تمكنها من ردع المغامرات الايرانية والسورية وكذلك تمكنها من تبني سياسات حازمة تجاه كل منهما.

فالانسحاب الأميركي من العراق ضمن استراتيجية متكاملة ومتماسكة له فوائد تفوق بقاء القوات الأميركية في عراق شرذمته مغامرة جورج دبليو بوش وفريق المحافظين الجدد الذين ورطوا الولايات المتحدة في مستنقع العراق. زيادة القوات بأعداد بائسة استنزاف للولايات المتحدة. فإما أن تجرؤ على حرب جدية تتطلب التجنيد الإجباري وزيادة مئات الآلاف من القوات، والا لتنسحب الى القواعد وتعيد فرز استراتيجية جديدة.