في إطار الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المقبلة في الجزائر، قرَّر مجلس الوزراء في جلسة عُقدت برئاسة عبد المجيد تبون يوم الأحد الماضي، إعادة النظر في منح التقاعد على مستوى الفئات كافة في البلاد.
ويُلاحظ أنّ اجتماع الحكومة لم يقدّم المعلومات التي تتعلق بعدد المتقاعدين الجزائريين حتى الآن، كما أنّه لم يوضح بالأرقام قيمة منح تقاعد كل فئة على حدة، ولم يُشر لا من قريب أو من بعيد إلى نسبة الفروق الهائلة التي تفصل بين منح تقاعد الموظفين الساميين التابعين لصندوق رئاسة الجمهورية، وبين قيمة منح تقاعد الفئات المتوسطة والأقل منها، والتي ما فتئت تعاني مادياً واجتماعياً، بخاصة فئة أساتذة التعليم الابتدائي والاكمالي، والممرضين، والعمال الصغار في شتى المؤسسسات الصناعية والادارية والاقتصادية والثقافية وغيرها.
يدرك العارف بواقع نظام التقاعد الجزائري، انعدام العدالة في توزيع مبالغ التقاعد على نحو يضمن التقارب المادي النسبي على الأقل بين مختلف الشرائح الاجتماعية التي يمثلها مختلف المتقاعدين. وفي الواقع، فإنّ مبالغ منح التقاعد التي يستفيد منها العمال والموظفون الجزائريون انطلاقاً من فترة السبعينات لغاية عام 2000 من القرن الماضي، ووصولاً إلى الوقت الراهن، متباينة من حيث قيمتها المالية.
وأكثر من ذلك، فإنّ الزيادات التي رُصدت مراراً وحتى الآن من طرف الدولة لمنح مختلف فئات المتقاعدين، لم تغلق الهوة الخرافية التي تفصل مثلاً بين منح تقاعد معلمي السلك الابتدائي والاكمالي أو عمال القطاع الطبي مثل الممرضين والممرضات، والصحافيين والموظفين الاداريين الصغار، وبين قيمة منح تقاعد كبار موظفي الدولة مثل أعضاء البرلمان والوزراء والسفراء والقناصل والملحقين الدبلوماسيين، والمديرين العامين ونوابهم ورؤساء الأقسام، والولاة ونوابهم والأمناء العامين على مستوى الدوائر والمحافظات وسلك المكلّفين بالمهمّات والمستشارين على المستوى المركزي والولائي والضباط الكبار في أجهزة الجيش والأمن... وهلمّ جرَّا.
ففي الفترة الممتدة من سبعينات القرن الماضي حتى عام 2007، كان المبلغ الشهري لتقاعد فئات الصحافيين والمغنين والموسيقيين والمعلمين تتراوح بين 100 دولار و 140 دولاراً لكل فرد على الأكثر، ويعني هذا أنّ دخل هؤلاء لا يكفي حتى لدفع إيجار الشقة شهرياً، أو لضمان شراء الخبز والماء.
وتفيد الوقائع، أنّ الزيادات التي أضيفت على مدى 17 سنة إلى مبلغ منحة التقاعد الشهرية لأفراد هذه الفئات، لم تجعل دخل تقاعدهم الشهري يتجاوز حتى اليوم سقف 200 دولار، الأمر الذي جعل هذه الفئات تغرق في الديون. وقد تسبّب هذا الوضع المزري في تفكّك العلاقات الزوجية وظهور مختلف ألاعيب التحايل داخل الأسر، وعلى مستوى المجتمع ككل، وفي تعاطف المواطنين مع الحراك الشعبي.
وللتوضيح أكثر، فإنّ الملاحظ أنّ الفرق في قيمة منح هذه الفئات لا يُقاس بالنصف أو بثلاثة أضعاف، بل هو يُقاس بعشرات الأضعاف، حيث يمكن القول إنّ التشريعات الجزائرية ذات العلاقة بالتقاعد قد بدأت تؤسس فعلاً لمجتمع طبقي يتكرّس فيه التفاوت الاجتماعي الذي يغيّب المساواة والعدالة الاجتماعية.
وللقضاء على هذه الفروقات بين الفئات المتقاعدة، فإنّه ينبغي إعادة النظر راديكالياً في أسلوب وقيمة الزيادات التي تُضاف من حين إلى آخر لمنح التقاعد.
وفي هذا الخصوص، يُلاحظ أنّ مصطلح "منحة التقاعد" غير مطابق للواقع، وذلك لأنّ الدولة لا تقدّم هبة "المنح" للمتقاعدين، وإنما تدفع لهم حقهم الشرعي الذي يتمثل قانونياً في إعادة الأموال التي دفعوها على مدى سنوات العمل، والتي تقدّر عموماً بحسب قوانين العمل في الجزائر بـ30 سنة، إلى صندوق التقاعد الوطني في إطار سلك التوظيف العمومي. ولهذا السبب، فإنّ المصطلح المطابق للواقع هو "راتب التقاعد" أو "دخل التقاعد".
هناك نمط آخر من التقاعد المدعو بالجزئي، وهو يُقدّم في الجزائر لأولئك الذين لم يستوفوا شروط العمل لمدة 30 سنة كاملة، ولكن أخلاقيات العدالة الاجتماعية تقتضي أن تجد وزارة العمل والجهات التشريعية المسؤولة حلاً يضمن لهذه الفئة من المتقاعدين العيش الكريم، بعيداً من خط الفقر الذي يطحن راهناً أغلبية المتقاعدين الجزائريين الذين لا تنطبق عليهم صفة الموظف السامي، أو صفة الموظف المنتمي إلى فئة الموظفين الكبار مثل المدير الجهوي الخ...
في هذا السياق، ينبغي التوضيح أنّ الموظفين العامين التابعين لمختلف الوزارات ومؤسسات الدولة مثل المجالس العليا، والهيئات التابعة للسلك الدبلوماسي، والرئاسة وغيرها، تحصل على تقاعدها الباذخ من الصندوق التابع لرئاسة الجمهورية، وبقوة القانون يحق لهم الحصول على القروض ذات القيمة المالية الكبيرة في حال حاجتهم إليها. وإلى جانب ذلك، فإنّ القانون الجزائري يخوّل لهم أيضاً ممارسة عمل إضافي بعد التقاعد في مختلف أجهزة الدولة، مقابل راتب يُضاف إلى مبلغ التقاعد، حيث تتجاوز قيمة هذا الراتب الإضافي وحده قيمة مبلغ تقاعد العامل البسيط أو الموظف الصغير بأكثر من الضعف في أغلب الأحيان.
ويعني هذا أنّ الهوة الاقتصادية بين الموظفين الساميين بمختلف رتبهم وبين هؤلاء الموظفين والعمال الصغار المتقاعدين تزداد اتساعاً كلما صدر قرار بالزيادة في مبلغ التقاعد الشهري، والسبب في ذلك هو أنّ هذه الزيادة لا تتمّ على أساس إعطاء الأولوية لرفع مستوى دخل تقاعد المتقاعدين المنتمين إلى فئات الموظفين والعمال الصغار أكثر، ليقترب من مبلغ تقاعد الموظفين الساميين والأدنى منهم بقليل، وإنما تتمّ على أساس إضافة زيادة أكبر إلى فئة الموظفين الساميين، وإلى فئة الموظفين الكبار، على نحو يعمّق هوة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية اتساعاً بينهم وبين المتقاعدين البسطاء الذين يعيشون غالباً تحت خط الفقر مع الأسف.
التعليقات