جميع التحليلات السياسية التي تم طرحها عن السر وراء سقوط نظام بشار الأسد السريع وصعود نجومية أبو محمد الجولاني كانت تستند إلى معطيات محدودة تخص واقع الشرق الأوسط، ولم يستطع أي محلل سياسي أن يربط أحداث صعود الجولاني بأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) عندما ضربت برجي التجارة العالمية في نيويورك عام 2000.
ذلك اليوم شهد أكبر اعتداء تاريخي على الولايات المتحدة الأميركية والعالم الغربي من قبل تنظيمات إسلامية (سنية) إرهابية متطرفة. قامت بعدها الولايات المتحدة الأميركية والتحالف الغربي مباشرة بتوجيه ضربات عنيفة لبؤر الإسلام السياسي السني في أفغانستان والعراق، وبنفس الوقت أُطلقت يد الإسلام السياسي الشيعي المتمثل بإيران لتدمير ما تستطيع تدميره من الدول السنية ومشاغلتها عن حركة التطور والعبث بالمنطقة كاملة.
تضررت جميع الدول السنية، وحتى تركيا عانت من الركود الاقتصادي وأصبحت منبوذة أمام العالم الغربي. ثم جاء الربيع العربي ليمزق الدول العربية، وتحديداً التي تحتضن حركات دينية سنية قوية. فتمزقت مصر بصعود الإخوان المسلمين، كما تمزقت ليبيا وتونس، وتضررت السعودية ودول الخليج من المضايقات الإيرانية. أصبحت مفردة الإرهاب تعبيراً عن الإسلام السياسي السني، وكل ذلك كان فاتورة الاعتداء على رمز الحضارة الغربية في نيويورك.
بمعنى أن الثمن كان كبيراً جداً، وكلنا نتذكر ما قاله الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بأن الربيع العربي جاء بإرادة أميركية.
في ظل هذا التدهور المريب الذي أصاب معظم دول العالم الإسلامي السني، كانت إيران تعيش فترة ذهبية؛ قامت بتوسيع رقعتها الجغرافية السياسية والمذهبية واحتلال مدن وعواصم عربية وارتكاب إبادات جماعية للمسلمين السنة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وحتى في أفغانستان.
رويداً رويداً، بدأ النجم الإيراني يلمع في سماء المنطقة في ظل سكوت غربي مطبق ومداراة ومحاباة لإيران، ومساعدتها بشكل غير مباشر عن طريق روسيا والصين وعن طريق الشركات الغربية، وحتى عبر تهريب التكنولوجيا لتطوير قدراتها الصاروخية وصناعة الطائرات المسيّرة وتطوير برامجها النووية، لتصبح شبحاً وكابوساً على جميع الدول الإسلامية السنية.
إقرأ أيضاً: نحن والتنافس الإيراني التركي
لكن إيران لم تكن تدرك أن صعودها المدعوم عالمياً بشكل غير مباشر كان لتأدية مهام إقليمية قذرة. تناست إيران هذه الحقيقة وتمادت كثيراً، وظنت أنها دولة عظمى يجب أن يحترمها العالم.
خططت إيران لتوجيه ضربة قاسية لإسرائيل كوسيلة للابتزاز، متناسية أن صعودها كان بإرادة غربية. وقعت إيران في الخطأ الأكبر عندما نفذت ضربة مؤلمة ضد إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2023، عبر ذراعها حركة حماس. كانت هذه الضربة تعادل في شدتها ضربة برجي التجارة العالمية في نيويورك.
أدركت إسرائيل وأميركا والعالم الغربي أن إيران تمادت وخرجت عن حجمها الطبيعي، وأنها على وشك الخروج عن السيطرة. لذا، أصبح لزاماً لجمها وإعادتها خمسين عاماً إلى الوراء، كما فُعل بمثيلاتها من الدول السنية التي تمادت من قبل.
إقرأ أيضاً: توقعات حول نهاية الأزمة السورية
بدأ العد التنازلي للإسلام السياسي الشيعي، وتحفيز الإسلام السياسي السني للقيام بهذا الدور وتكملته. فتم تدمير أذرع إيران واستئناف مد الأواصر والمصالحة من جديد بين الإسلام السياسي السني والعالم الغربي. وكان من علامات هذا التصالح صعود نجم الجولاني، في إشارة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإعادة إيران إلى حالة التخلف كما كانت سابقاً.
بناءً على هذه السردية، فإنَّ سقوط إيران وتمزيقها سيصبح واقعاً خلال الفترة المقبلة، خاصة أنَّ إسرائيل تقود المعركة اليوم. الكل يعلم أنَّ إسرائيل أكثر قسوة من أميركا بعشرات الأضعاف.
إقرأ أيضاً: التحول الجنسي انحراف أم ثقافة
سيناريو سقوط إيران بدأ من اللحظة التي دخل فيها الجولاني دمشق العاصمة، فكانت تلك هي الإشارة الأولية للعد العكسي.
هذه الموجة بدأت من دمشق وستنتهي في طهران. كل ذلك يحدث بسبب الغباء المستفحل في عقول قادة المنطقة، والأحقاد الموروثة في نفوسهم، والتي بسببها تدفع شعوب المنطقة دماء أبنائها ثمناً.
يستمر مسلسل الغباء، ويستمر مسلسل التراجع. بمجرد أن امتلكوا بعض السلاح، الذي هو بالأساس صناعة العقل الغربي، شعروا بأنهم باتوا قادرين على التحكم بالعالم وتقرير مصيره. وعندما يدفعون ثمن غبائهم، سيقولون إن كل ذلك بسبب الحقد الصهيوني الصليبي!
التعليقات