نحن شعوب الشرق الأوسط التي تعيش بتماس مع إيران وتركيا، تماس جغرافي وتماس عقائدي… قبل خمس أو ست سنوات سمعت خطاباً ألقاه الرئيس رجب طيب أردوغان، كان يتحدث فيه بمرارة عن المكاسب الإيرانية التي تحققت في الدول العربية الشرق أوسطية. وجاء في خطابه ما معناه أنَّ "إيران استغلت المذهب لتتوغل في بعض الدول العربية الإسلامية دون أن تعير الاهتمام لدور تركيا، وبذلك فهي غدرت بنا".

هذا التصريح بقي عالقاً في ذهني وتساءلت حينها: أيقصد أردوغان أنَّ لتركيا حصة في كل نكسة تصيب دولة عربية أو إسلامية؟ وهل أن تركيا لها نسبة مئوية أو "خُمس" المكاسب؟ وهل أن تركيا ستنتقم من إيران لتجاوزها الخط الأحمر؟ يومها فهمت أن الأتراك والفرس ما زالوا يعيشون حلم الإمبراطورية، وما زالوا يشعرون بأن دول الشرق الأوسط تشكل جزءاً من ممتلكاتهم، ولا يحق لأحد العبث بأي جزء إلا بعد أن يعطي حصة للطرف الآخر.

بعد يوم واحد من طوفان الأقصى الذي بدأ بهجوم حماس المباغت على إسرائيل وقتل وأسر حوالى 1500 إسرائيلي، أعلن الأمين العام السابق لحزب الله حسن نصر الله عن دعم حماس ومساندتها، في تأكيد على وحدة الساحات، وقد أدركت حينها وجود ترابط خفي للأحداث يتجاوز المعلن. وعادت بي الذاكرة إلى تصريحات أردوغان، وتيقنت أنَّ المخطط والتدبير لهجوم حماس على إسرائيل كان تركياً بامتياز وبدهاء أردوغاني. لكن، وقبل الشروع في التدريب على الهجوم، دفع حماس الإخوانية إلى أن تتواصل مع حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني وتخدعهم للمشاركة بالمخطط والدعم والإسناد. وفعلاً، بلعت إيران وحزب الله الطعم وتحالفوا مع حماس.

في الأشهر الأخيرة قبل وقوع طوفان الأقصى، حاولت تركيا أن تظهر في الإعلام غير راغبة في التواصل مع حماس، لتوهم الجانب الإيراني أن حماس كنز قد وقع بيد إيران لتثبت بها قدرتها على هزيمة إسرائيل. كان غباءً من إيران غير معهود أن تصدق جماعة الإخوان، حلفاء تركيا. ومما زاد الطين بلة إعلان حسن نصر الله عن مبدأ وحدة الساحات ليورط لبنان.

هذا السيناريو يعطي صورة واضحة لتفسير الأحداث تباعاً. حماس لم تكن لتفعل ذلك لولا الأوامر التي صدرت إليها من أنقرة. لأننا جميعاً نعلم أن حماس مرتبطة عقائدياً بالإخوان المسلمين، والكل يعرف أنهم حركة تخضع لإدارة المخابرات والحكومة التركية. تركيا لم تتخلَّ عن حماس أبداً، ولكن لمصلحتها القومية العليا ومن أجل كسر ظهر إيران اضطرت أن تضحي بحماس في هذه اللعبة القذرة. تركيا فعلت ذلك لتوريط إيران ولكي تنتقم منها على ما تعتبره غدراً بحقوق تركيا في دول المنطقة. طوفان الأقصى كان مخططاً تركياً خبيثاً نالت به تركيا من غريمتها إيران ونجحت.

تركيا تعرف قوة إسرائيل وإمكانياتها الهائلة، وتعرف قوة إيران وإمكانياتها المتواضعة. فظلت المخابرات والحكومة التركية تعمل على السيناريو لفترات طويلة، وكان الإعلام التركي في ظاهره نداً "للعدو الصهيوني" ومدافعاً شرساً عن حماس وعن جبهة المقاومة والطعن بإسرائيل لتغطية التعاون التركي الإسرائيلي الخفي الذي انتعش خلال هذه الفترة. ولم يكن هدف تركيا سوى إسقاط المشروع الإيراني برمته والانتقام من إيران. طبعاً، إسرائيل تعرف هذا التنافس الإيراني التركي وجذوره، فهي أذكى وأدهى من الطرفين، فعملت على استثماره خدمة لمصالحها القومية. وتعرف أنَّ المعلومات التي تصلها من تركيا حول إيران ولبنان وسوريا وحماس كلها دقيقة، لأن المتطوع للخدمة المجانية يكون أنصح من العميل، وكلنا نتذكر في دولنا ما كان يفعله الوكيل الأمني بالناس مجاناً للدوائر الأمنية ليرعب الناس ويبتزهم، (وهذا ما يبدو لنا من خلال هذا السيناريو المترابط)، ودائماً الخبيث لا يسقطه إلا الأخبث. لم تنتهِ تركيا بعد من لعبتها مع إيران، فأقنعت الغرب وإسرائيل والعرب بضرورة إسقاط نظام بشار الأسد من خلال دعم المعارضة السورية، واختارت التوقيت المناسب بعد انتهاء إسرائيل من حرب لبنان.

الجميع (وأقصد الشعب السوري وإسرائيل والمحيط العربي والدول الغربية) التقت مصالحهم مع مصالح وأهداف تركيا بضرورة إسقاط نظام الأسد، فكان التوقيت التركي مثالياً للغاية. أيضاً، إسرائيل تعلم النوايا التركية وأهدافها بإسقاط الأسد، فقبلته واستثمرته بشكل كبير جداً، فلم تتردد مع الساعات الأولى لسقوط دمشق في الإجهاز على ما تبقى من سلاح الجيش السوري وتدمير منظومته العسكرية البرية والبحرية والجوية بشكل مطلق، واحتلال جبل الشيخ الذي يطل على دمشق ولبنان مباشرة، فأصبحت حصة إسرائيل من المكسب التركي تزيد عن النصف (هكذا يلعب الكبار).

إقرأ أيضاً: توقعات حول نهاية الأزمة السورية

هل سيكتفي أردوغان بهذه الضربات الموجعة لإيران وإفشال مخططاتها بسبب عدم مشاركتها الأرباح مع تركيا منذ البداية؟ أكيد لا. بل إن تركيا تسعى لأكثر من ذلك، وهو إزالة النظام الإيراني أو على الأقل تحجيم قدراته وإضعافه وأخذ الفريسة الكبيرة من بين فكيه، وهي العراق. فالعراق بالنسبة إلى تركيا يعدّ الفريسة الأطيب والأدسم، خاصة أن في العراق مركز الثقل الأكبر لجميع أجزاء كوردستان الأربعة. فإقليم كوردستان العراق هو أمل الشعب الكوردي في جميع بقاع الشرق الأوسط، وتركيا تريد التخلص من هذا الكابوس الكوردي… صحيح أنَّ أردوغان لعبها بذكاء مع إيران، لكني أظنه سيخطئ إذا تناسى أن إسرائيل والغرب يعرفون بواطنه. لذلك كل الظن عند حدود العراق وحدود كوردستان ستتضارب المصالح التركية مع المصالح الإسرائيلية والغربية، فهنا قد يسمع أردوغان عبارة "هذا فراق بيني وبينك"، التي سترميه خارج الحلبة.

لا أستطيع القول إنَّ هذه هي الحقيقة الكاملة لما حدث ويحدث في المنطقة، لكن ذلك يمثل على الأقل جزءاً من الحقيقة. تركيا لها مساندها الراسخة، وهي أكثر ثباتاً من إيران بحكم عضويتها بحلف الناتو وبحكم ارتباطها بالمنظمات الجهادية والإرهابية وبحكم علاقاتها الدبلوماسية القوية بإسرائيل، بينما إيران تستند إلى قوة أيديولوجيتها المذهبية وأذرعها وموقعها الجغرافي المهم عالمياً وقدرتها على المراوغة سياسياً.

إقرأ أيضاً: لماذا تحاول روسيا توريط دول أخرى في صراعها مع أوكرانيا؟

أظن أنَّ إيران قد عرفت الدور التركي الخبيث بكل ما حدث لها من نكسات، ولكن معرفتها جاءت متأخراً بعد سقوط نظام الأسد. والمشكلة في بعض شعوب دول الشرق الأوسط، التي كانت وما زالت مطية العقلية التركية والعقلية الفارسية، ولا تستطيع أن تستوعب مثل هذا الكلام، وتستطيع فقط أن تكون دمى متحركة بين يدي هذا وذاك. لذلك، فمن المتوقع أن تزداد الأحداث سخونة، خاصة بعد أن تكشفت الحقائق لكل الأطراف، فلا مجال للتراجع.

اليوم، ستفكر إيران ألف مرة قبل إيذاء تركيا أكثر مما تفكر بإيذاء إسرائيل، وسيتحول الصراع بالوكالة إلى صراع بين تركيا وإيران بدلاً من إسرائيل وإيران. ولا أستبعد أن تحصل أميركا وإسرائيل والدول العربية الخليجية على تنازلات إيرانية بالجملة مقابل عدم إضعافها كثيراً لتتفرغ ضد تركيا وتصفّي حساباتها معها، لكن الواضح أن المهمة صعبة جداً على إيران.

إقرأ أيضاً: لا اعتراف بالهزيمة

فأيّ مسعى إيراني أو تركي خبيث لأجل المواجهة سيكون الكورد رأس الحربة فيه. وما على الكورد إلا أن يجيدوا إدارة الصراع مع أخبث متنافسين على وجه الأرض، وألا يوقعوا بأنفسهم في شراك هذا الطرف أو ذاك. وعليهم أن يتذكروا أن مكانتهم مهمة ودورهم مهم، وأنهم ليسوا لقمة سائغة، بل وقادرون على استثمار التنافس التركي الإيراني لصالحهم.

ملخص القول: الصراعات الحقيقية لم تبدأ بعد! والمنطقة تنتظر أحداثاً دامية ومؤلمة لأن جميع الأطراف المتورطة في هذه الصراعات لم تحقق أهدافها بعد.