لن نجد أبلغ مما قاله الإمام الشافعي في مديح السفر: «تغرَّبْ عن الأوطانِ في طلبِ العُلا/ وسَافِرْ فَفِي الأسفارِ خَمْسُ فوائدِ/ تَفَرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ/ وعلمٌ وآدابٌ وصحـبةُ ماجدِ». وليس شرطاً أن تتحقق في سفرة واحدة كل الفوائد الخمس التي ذكرها الإمام. واحدة منها كافية لكي تكون السفرة جديرة بالعناء.

ليس هذا فقط ما قاله الشافعي عن السفر. هو نفسه القائل: «سافرْ تجدْ عِوَضاً عمنْ تفارقُهُ/ وانْصَبْ فإنّ لذيذَ العيشِ في النَّصَبِ»، ووجب تفسير المفردة هنا، فلا علاقة لها بالنصْب والاحتيال، فما عناه الشافعي بها الجِد والاجتهاد، الذي هو برأيه قرين «لذيذ العيش».

ليس التعلم من السفر وحده هو ما يحضّنا عليه الشافعي، فهو في تعداد فوائد السفر الخمس، بدأ بفائدة «تفرّج همٍ»، ففي طول المقام في المكان نفسه جمود ورتابة، وفي الترحال حركة وتغيير، وهنا أيضاً سيأتي القول اليقين من الشافعي نفسه: «إني رأيتُ وقوفَ الماءِ يُفسدُهُ». هي دعوة لتدفق الماء في مجرى الحياة والنفس عبر السفر، بدل المكوث الطويل في ذات المكان.

وإذا كانت مرحلة الشباب قرينة المغامرة والاكتشاف والتعلم عبر السفر، لتحقيق الكثير من فوائد السفر الخمس، وبلوغ التحقق والنجاح في الحياة اللاحقة، فإن فئة المتقاعدين هي الأجدر بتفريج الهمّ عبر السفر، والاستمتاع بخواتم العمر بعد رحلة العمل المضني الطويلة.

ومن خلال ما أسمعه من أحاديث عن رحلات السفر الجماعية التي تنظمها وكالات السفر، فإن أغلبية المشاركين فيها هم من المتقاعدين، الأحرار من طلب إجازة من أعمالهم، أو رعاية أطفالهم. فالوظيفة أصبحت ماضياً، والأطفال غدوا شباباً وشابات، وربما أسسوا عائلات وأنجبوا أطفالاً.

ليس «تفريج الهم» وحده ما يحققه السفر لكبار السن. هذه جامعة في أستراليا، هي جامعة إديث كوان، وفي نتيجة دراسة قامت بها تفيدنا بأن السفر لا يقتصر على المتعة فقط، بل قد يحمل أيضاً فوائد صحية مهمة، بما في ذلك تأخير علامات الشيخوخة.

وكعادة هذا النوع من الدراسات يستخدم الدارسون مفاهيم ومصطلحات علمية قد لا تعنينا، نحن بسطاء الناس، بقدر ما تعنينا النتائج التي يخلصون إليها، ومما قالته هذه الدراسة أن السفر يجب أن يكون ناجحاً ليحقق المرجوّ من الغايات، أما إذا تخللته المتاعب فإنه سيكون عبئاً..

السفر الناجح، فضلاً عن دوره في تحسين الصحة الجسدية والعقلية، سيجلب للمتقاعدين، فوائد جمة بينها: التفاعل مع الآخرين، تعزيز المشاعر الإيجابية، الفوائد الصحية لمن يقصدون وجهات سياحية غايتها العناية بالصحة، تقليل التوتر المزمن، تعزيز فاعلية نظام مقاومة التآكل، وغير ذلك الكثير.

ألمْ يلخّص بليغ حمدي الأمر بصوت وردة: «قلبي كده. سفر. سفر. والقلب ياناس مشتاق للسفر؟».