إزدهرت في العراق وحملت معاناة الناس بسخريتها1-2
النكتة طائر جميل يحط فوق الرؤوس


عبد الجبار العتابي من بغداد:هل سمعت آخر نكتة؟، أعلم بأنك ستجيب بـ (لا..)، ومن ثم تصعد إلى محياك ابتسامة مشوبة بالإنتظار والتلهف للسماع، حتى وإن كنت قد سمعت آخر نكتة قبل... لحظات!!، تلك حالة عفوية يخلقها فيك الشعور الداخلي الذي لا يستطيع أن يقاوم رغبة الاستماع إلى نكتة جديدة، السؤال يستفز كل خلاياك الحسية ويجعلك تنتبه كليًا للأداء والفكرة ويتقطر من شفاهك اللعاب الحلو، ليس لك القدرة على امتصاصه ثانية إلا بالإستماع وانت تتهيّأ لمفاجأة ظريفة.وكل يوم لا بد من أن أجد من يقول لي (هل سمعت اخر نكتة؟)، في ساعات النهار والليل، في الشارع ومكان العمل والبيت، ولا اجد ابدًامن قول (لا)، وعبر كل وسائل الاتصال المختلفة، تأتيني نكات شتى لم اسمعها من قبل وهي تركض في شتى ارجاء الحياة العراقية، حيث النكتة الآن مزدهرة في العراق بشكل لا يصدق، ولا ابالغ إنْ قلت ان عشرات النكات (تبتكر) يوميًا، تولد من رحم الاحداث وتكبرعلى الالسنة، ونراها تتناثر على المسامع بأشكالها المختلفة، التي تتناول الواقع العراقي بكامله، الاحداث والوقائع والاسماء، ولا يمكنك ان تكون في مكان دون ان يباغتك احدهم بنكتة لم تسمعها من قبل، او تسمع اخرين وهم يلقون النكات، وتتطاير الضحكات من افواههم، كل مجلس لا بد أن تكون النكتة حاضرة فيه، مع اي حديث تظهر لتخلق جوًا من المرح وتوخز المعاناة من خاصرتها. وقبل ان اكتب هذا الموضوع جاءتني رسالة عبر الهاتف النقال نكتة هي: (اصطاد عراقي سمكة..، فسارع بها الى زوجته طالبًا منها ان تقليها..، لكن الزوجة اعتذرت لعدم وجود زيت..، فقال لها: اشويها..، فاعتذرت الزوجة لعدم وجود حطب للشوي..، فطلب منها ان تسلقها..، فصرخت فيه الزوجة: لا نملك غازًا..، فحمل هذا العراقي المسكين السمكة وراح الى النهر وألقاها في الماء..، فهتفت السمكة: (تعيش الحكومة)!!! وهذه النكتة واحدة من نحو عشر سمعتها خلال اليوم الذي انا فيه، تسخر من الوضع الذي يعيشه المواطن العراقي بشيء من المبالغة لكنها دلالة على وجود معاناة، وهي ما بين تناول للقديم وللحديث، ما بين السياسة والمجتمع، تسخر من النظام السابق والنظام الحالي وصور عديدة من النكات، كل ازمة ولها نكاتها التي تهرع مسرعة للانتشار، كل حادثة ولها غلاف ساخر، والطريف ان احد الاشخاص اخبرني ان اكثر من الف نكتة وصلته خلال الايام الماضية عبر (الايميل)، وقرأ لي بعضًا منها وهذه واحدة (ذهب احد الاشخاص ليعزي صديقًا له بوفاة والده، وسأله: كيف مات والدك؟، فأجابه ابن المتوفي ان رصاصة طائشة اصابته في رأسه، فما كان رد الاخر، إلا: الحمد لله.. زين ما اجت بعينه جان اشخلت بيها)!.

فالنكتة سلاح المهموم، يحملها معه في حله وترحاله بين الطرق المزدحمة بالاكتئاب وفوق الشعور بالمعاناة وتحت (ضغوط) القلق المنبعثة من ركام

احدى الصور المركبة التي اتنشرت في مواقع عراقية كنكته مؤلمة
المتطلبات الداكنة المترامية الاطراف، فيحاول أن يقلل الإصطدام المرعب ويخفف من وطء الهموم على (اديم) الرأس، ولان العراقيين يعيشون ظرفا استثنائيا صعبا فهم يجدون في النكتة وسيلة للضرب على (طبول) السخرية، وقد منحتهم الحرية فرصة كبيرة للتعبير عمّا في نفوسهم على عكس ما كانوا عليه ايام النظام السابق التي كانت فيه النكتة السياسية والتي تتعرض للاحوال الاجتماعية ممنوعة منعًا باتًا وتعرض قائلها للاعتقال، لذلك كانت تقال بالسر وتنتشر مثل (منشور سري)، والكثير من (المساكين) لفتهم ظلمات السجون بسبب نكتة، فالنكات العراقية اصبحت الان تطال رئيس الدولة والحكومة والسياسيين جميعًا، والاطرف ان الرئيس جلال الطالباني يحكي عن نفسه نكات قيلت فيه ومنها النكتة الاتية: (كاكا جلال زعل من العراقيين وراح يعيش بلندن فد يوم وهوه يتمشى بشوارع لندن ويه الجلب مالته، فد واحد صاح عليه كاكا كاكا الله يساعدك..، جلال استغرب وقال له انت شلون عرفتني اني كاكا؟، قال له: مو شاد الجلب من ذيله)، وهذا نوع من الامتياز في حرية حركة النكتة وانتشارها، لذلك هي الان طائر جميل يحط فوق كل الرؤوس ويغرد على شجرة كل قلب.

فهي.. كثيرًا ما نضحك لها، تدغدغ احاسيسنا بهيئتها الساخرة وتتناغم في القلب، تنشر موسيقاها على شرفاته، فهي تتواثب بخفة في الشعور، وتنقر ما (جد) وما تراخى على مسرح الرأس من (منغصات) وتطرد منه غبار الهموم وتزيح ضباب (الشغل) الشاغل او تعالجه بنفحة معطرة من (اوكسجين) الفرح.
انها تولد الضحك، والضحك النابع من القلب (علميًا) يحرك عضلات الوجه ويساعد على اندفاع الدم الى الوجه والرقبة ويوسع الشرايين في المخ والاعصاب ويزيد ضربات القلب وكمية الاوكسجين الداخلة الى الرئتين، فيحدث تجديدًا وحيوية للعضلات وخلايا المخ ويخلص الجسم من الرواسب المختزنة فيه ويعطي الانسان احساسا بالسعادة والمرح.

وبالنكتة.. تنفرج اساريرنا وتعلوها لمحات من السرور، وقد يقابلنا شعور براق للتساؤل (بعد حين) عن كيفية صياغتها بهذا الشكل اللطيف والممتع، وقد يجرّنا تساؤلنا الى ان نتمنى معرفة الحاذق المجهول الذي برع في تكوينها ونفذها بتلك البهجة الغامرة المؤطرة باللهجة الساخرة التي تهرع الى دغدغة احاسيسنا وتحريضنا على الضحك والاهتزاز، ولكن على الاغلب لا نتساءل عن ذلك الفاعل، نتناسى، وتمتطي الفكرة الضاحكة حصانًا جموحًا يبتعد عن خطوط الذاكرة المتسائلة، لان الضحك الذي يتولد فينا من خلال سماعها، وما حوله يلغي فينا فكرة البحث عن الفاعل ولا نجد غير الانطلاق بحرية في اجوائها المرحة متأملين وقعها على النفوس.

فما هي النكتة؟ النكتة في اللغة جمعها (نكات) والفعل منها (نكت)، اي ضرب الارض بقضيب من حديد فأثر فيها وحطم قشرتها، ويقال (نكت فلانا) يعني ألقاه على رأسه، والباحث التراثي العراقي مظفر بشير يقول: يقال: (اتيته وهو ينكت الارض) اي انه مشغول الفكر، ويقوم بهذا العمل لا لغرض، إلا لانه منصرف الذهن الى قضية، ونكت الفرس اي وثب ونكت الشيء رماه على الارض، ويقال مثلا: نكت كنانته، اي نثر السهام التي فيها، وقد قالها الحجاج عندما ورد واليًا على العراق لعبد الملك بن مروان في اول خطبة له، فقال: (ان امير المؤمنين نكت كنانته فوجدني اصلبها عودًا فرماكم بي)، ونكت العظم اخرج مخه، وفي القاموس المحيط ان النكات تشبه (الوسخ في المرآة) والمقصود: انها تشوه الصورة وتطعن اصحابها وتلطخهم بغير المستحب، وجاء كذلك انها استعملت على طريق المجاز، فيما جاء وسط الكلام من عبارة منقحة او جملة طريفة صدرت عن دقة نظر ولمعان فكر او مسألة لطيفة تؤثر في النفس ارتياحًا وانشراحًا.

ويقول استاذ علم النفس الدكتور جليل التميمي: من الممكن ان نعرّف النكتة بأنها حادثة واقعية او وهمية لا تربط بين اسبابها ونتائجها علاقة منطقية او متوقعة، مما يترتب على ذلك مفارقة تدعو سامعها أو قارءها الى (الاندهاش والضحك) في آن واحد بسبب عنصري (المفاجأة) في النتيجة غير المتوقعة من قبل السامع او القارئ للنتيجة او لا، و (المفارقة) التي تنطوي على غرابة العلاقة بين سبب الحادثة ونتيجتها ثانيًا، ويوضح: ان عنصري المفاجأة والمفارقة تسببان حالة من الاندهاش المقترن بالمتعة التي يعبر عنها المندهش بالضحك، وهو تأثير ايجابي، يعد امرًا مستحسنا ومقبولاً شريطة ان تكون مضامين النكات مؤدبة ولا تتعرض لسمعة الاخرين او تسبب لهم تجريحًا، وذلك مرتبط بأخلاقية راوٍ او ناقل او مؤلف النكتة، فيما اذا كانت مشروعة او غير مشروعة.

والنكتة في مجملها فن من فنون الحياة السامية توظف للسخرية والاستهزاء من شخص او ظرف في مواقف تتسم بالبساطة والقصر، وتنوع اشكال بالظروف اضافة الى سرعة البديهة، وتكون النكتة منتعشة بالوسط الذكي المثقف وعند المجتمع المرهف الاحساس، اما مصدرها فهو الاحياء الشعبية.

ولم تكن النكتة وليدة عصر معين، فهي موجودة حيث وجد الانسان، حيث أن لها تأريخًا طويلاً، بدأت مع الانسان دون تحديد لجنسية معينة أو أصل، فأقدم نكتة مكتوبة وجدت مدونة على ورق البردي الذي يعود تاريخه الى (3200) قبل الميلاد وهاك ما تقوله النكتة: ( كان احد الكتبة يعمل في غرفة بمعبد (تحوت) فأزعجته الجلبة المنبعثة من الغرفتين اللتين تحيطان بغرفته وكان يقيم في احداهما نجار وفي الاخرى حداد، ولما اوشك ان يجن من الضوضاء قصد النجار ودفع إليه مبلغا من المال لكي يغادر غرفته الى غرفة اخرى، ثم فعل ذلك مع الحداد، وقبل الرجلان، وفي اليوم التالي انتقل الحداد الى غرفة النجار، وانتقل النجار الى غرفة الحداد!!).

وعلى مدى العصور الاخرى، كانت النكتة حاضرة تعيش مع الناس وتعبر عن ظروفهم الاجتماعية والسياسية، ومع تتابع السنين وتعقد الحياة لعبت النكتة دورًا فاعلاً في حياة الانسان ومعبرة عن تفاعله مع الاحداث، فصار بحاجة الى تطهير نفسه والتنفيس عن همومه التي تتكاثر من حيث يدري ولا يدري، لذلك كان يقال (شر البلية ما يضحك)، واخذت النكتة شكل رسوم كاريكاتيرية من دون تعليق كالذي في الصحف الآن، تنتقد الاوضاع السياسية والاجتماعية مرسومة على ورق البردي او الفخار ومن ذلك (صورة حماريلاعب اسدًا الشطرنج) فالحمار كما هو معروف رمز الغباء والاسد رمز الملك، والنكتة كما يقول فرويد (ضرب من القصد الشعوري والعملي يلجأ إليها الانسان في المجتمع ليعفي نفسه من اعباء الواجبات الثقيلة ويتحلل من الحرج الذي يوقعه فيه الجد ولوازم العمل)، وهي ايضا ( لون من ألوان العلاج النفسي والاجتماعي يعالج بها ابناء الشعب ما يجيش في نفوسهم من كبت واحساس تجاه نقص وعيب واختلاف)، والنكات منها ما يكون على شكل اجابات حمقاء او كلام صحيح يستدرك في النهاية بجملة معترضة غير معقولة اذ تكون الحقيقة مقلوبة او معنى توزعه الكلمة (لغة) بشكل مختلف عن المعتى الموقوفة عليه الكلمة والذي يرمي بأشكالها الحركية على شكل تصرفات او بأشكالها الكلامية، خذ مثلا (: سأل احدهم صديقه: هل اللاعبان يونس محمود ونشأت اكرم اخوان؟، فأجابه الثاني: لا.. ولكن تشابه في الاسماء!!)، او حتى ان تكون على شكل شعر لا سيما منه (الدارمي ) مثلا ( لا قصب لا عودان لا عدنه بردي / وفوك القهر والضيم ريسنا كردي) ومؤلف النكات عليه ان يمتلك مقدرة عالية من الذكاء وسعة اطلاع واحتراف لتشكيل نكاته بالشكل الذي يرسم صورة ساخرة مليئة بالمفارقة.

وتبقى النكتة السياسية... اخطر النكات فعلاً، لأنها سلاح ذو حدين بتارين، فمنها ما يكون مع الشعب ومنها ما يكون ضده، فتكون مع الشعب حين تنتقد الاوضاع التي يعيش فيها ويدور في خضمها فتداوي جزء من جروحه وتواسي نفسه الغارقة في هول ما يعانيه وتكون افضل وسيلة لايصال الرأي الى السلطة الحاكمة وتشعرها بأخطائها وعلاقتها بالناس والمؤاخذات عليها، وتكون ضد الشعب حين تأخذ شكل الاشاعة وتكون مجالاً للشك وخلق الفتن، وهذه تقوم بصياغتها ونشرها جهات خارجية من اجل تحطيم ارادة الشعب وتفتيت وحدته وتشويه سلطته الوطنية العليا بما تختلق من افتراءات وتصورها على انها حقيقة واقعة، لتزداد الهوة اتساعًا ما بين السلطة والشعب ومن اجل تقويض اركان الثقة بينهما، وهي اسلوب عدواني يدخل في اطار الحرب الباردة، وقد استخدمت اسرائيل سلاح النكتة اكثر من مرة ضد الدول العربية، ونشرت ما تشاء من النكات العدائية ومن ذلك ما فعلته بعد نكسة حزيران 1967، ومن الجدير بالذكر ان هناك (سفارات) داخل الدول تكرس اغلب وقتها لصياغة النكات كوسيلة من وسائل الحرب النفسية بأساليب عنصرية وطائفية من أجل بث روح الكراهية بين ابناء الوطن الواحد، ومن تلك السفارات (سفارات الولايات المتحدة الاميركية) التي في داخلها (مجلس نكتة) يعتمد على صياغة النكات ونشرها داخل المجتمع الذي تكون فيه، ولا يقتصر ابتكار النكات على السفرات فقط بل هناك احزاب ومنظمات مناوئة لحكومة البلد لها علاقات بأطراف خارجية تمارس العمل ذاته وتقوم ببثها في المجتمع من اجل مصالح واغراض لإصابة المواطنين بالاحباط وفقدان الثقة بالحكومة وتكريس الفتن.

في القسم الثاني سنتناول النكتة في العراق.