محمد الكاظم/ نيوزماتيك /الناصرية: هل تعرفون شادي؟ إنه طفل خيالي غنت له فيروز أغنية شهيرة تتحدث عن ضياعه بعد أن ذهب ليتفرج على المتحاربين عند أطراف الوادي. quot;نيوزماتيكquot; حاولت أن تقتفي أثر شادي بين الأطفال العراقيين في طرقات الناصرية.في الوقت الذي تغني فيه فيروز من مذياع بعيد:

أنا وشادي غنينا سوا
لعبنا على الثلج
ركضنا بالهوا
كتبنا على الأحجار.. قصص صغار
ولوحنا الهوا

تتح أم عباس، 35 سنة، عينيها صباحا على نباح كلب سائب، ثم تحاول إيقاظ عباس ذي السنوات التسع، وتعد له فطورا من الخبز وشاي البطاقة التموينية، ثم تعطيه رزمة من أكياس النايلون ليبيعها في السوق القريب، ليعود لها ظهرا ببعض الطعام.

تقول أم عباس التي تسكن في حي عشوائي بني على مشارف الناصرية، مركز محافظة ذي قار، 380 كم جنوب بغداد، في حديث لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;عباس ترك المدرسة لكي نعيش، لقد توفي والده في أحدى المعارك، وكنا نستأجر بيتا طردنا صاحبه منه، فإضطررنا للسكن في غرفة من الصفيح في هذا الحي، وليس لي من معيل غير هذا الولدquot;.

ترى في أي معركة قتل والد عباس؟ فمعارك العراق كثيرة!.

شادي وعائلته

وفي السوق القريب كان عشرات الأطفال يحملون أكياس النايلون لبيعها على المتبضعين. عادل، 14 سنة، قال لـquot;نيوزماتيكquot; quot;أنا أحصل على 2000 دينار يوميا، أقل من دولارين، من بيع الأكياس. أبيع كل كيسين بـربعquot;. وهذه هي التسمية الشعبية للورقة النقدية فئة 250 دينارا.

ويضيف، عادل، quot;لقد تركت المدرسة منذ ثلاث سنوات، فنحن سبعة أشخاص نعيش في غرفة واحدة، ونعمل أنا وأمي واثنان من إخوتي في السوقquot;. وأشار إلى امرأة تجلس خلف طست فيه القليل من الأسماك الصغيرة.

وقالت والدة عادل quot;أولادي تركوا المدارس وهم صغار بعد أن مات والدهم في حرب بوش عام 2003quot;. وأضافت quot;أنا وأولادي نعيش مما نحصل عليه من العمل في سوق سيد سعدquot;. وهو أحد الأسواق الشعبية في المدينة يشبه سوقا أسريا حيث تجد عوائل كاملة تعمل فيه بمهن بسيطة مختلفة. فالأم تبيع السمك أو الخضروات، والأطفال يبيعون الأكياس أو يدفعون العربات، والأب، إن وجد، فهو يعمل حمالا أو مستخدما في احد المحال.

أمثال عباس وعادل كثيرون، فمنظمة اليونيسيف التابعة للأمم المتحدة تقول في تقريرها الأخير عن أطفال العراق إن هناك خمسة ملايين يتيم في العراق، والقسم الأكبر من أطفال العراق يعيش حياة قاسية، وإن 40% منهم لا يحصلون على ما يكفي من الطعام، وأكثر من 50% تركوا مقاعد الدراسة، وهناك نسبة كبيرة منهم يعملون باعة متجولين أو مساعدين في مهن متنوعة خصوصا خلال العقد الماضي حيث ساهمت العقوبات الدولية التي كانت تفرضها الأمم المتحدة على العراق في تدمير البنية الاقتصادية للعائلة العراقية.

قيس حمزة، 27 سنة طالب، قال لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;الحروب المتتالية خلفت هذا العدد الكبير من الأيتام، وأعمال العنف المستمرة تجعل العدد عرضة للزيادةquot;.

شادي يشم الصمغ

بالقرب من مجمع نقل الركاب كان عمار، 13 سنة، يتزعم مجموعة من الأطفال الذين ينبشون القمامة بحثا عن العلب المعدنية المستخدمة في تعبئة المشروبات الغازية التي يبيعونها لتجار صغار يجمعونها ليعاد تدويرها مرة أخرى.

يقول عمار إنه يسير يوميا مسافات طويلة ليحصل على تلك العلب، وهو يجمع كيلوين أو ثلاثة في اليوم، ويبيع الكيلو بخمسمئة دينار، أي أن محصوله اليومي يتجاوز الدولار الواحد بقليل.

وحين سألته quot;نيوزماتيكquot;عن كيفيه إنفاقه نقوده أجاب نيابة عن رفاقه quot;نبيع العلب ونأخذ النقود لنأكل سندويشات الفلافل ونشتري بعض الحلوىquot;.

لكن عبد الكاظم حسين، 42 سنة سائق، يقول quot;أرى الكثير من الأطفال وهم يتعاطون الحبوب المخدرة التي يبيعونها على بعضهم البعض أو يشمون الصمغ وينامون في الكراجاتquot;.

شادي رهينة مقابل فدية

أمير مهنا، 32 سنة، من قضاء سوق الشيوخ، 30 كم جنوب الناصرية، يتحدث لـquot;نيوزماتيكquot; عن اختطاف مجموعة من المسلحين لطفل في الخامسة في المدينة التي يسكنها الشهر الماضي، وعن مطالبتهم ذويه بمبلغ كبير لم تستطع العائلة دفعه، فأقدم الخاطفون على قتل الطفل ودفنه في إحدى ساحات المدينة.

أحمد عبد داخل، 35 سنة، يقول إن quot;ظاهرة اختطاف الأطفال لمطالبة أهاليهم بفدية مالية قد زادت في السنوات الأخيرة، ولم يكن العراقيون يعروفون هذه الظاهرة. والأسوأ من ذلك هو إني أسمع عن عصابات تقوم بخطف الفتيات الصغيرات لتهريبهن إلى دول الخليج واستغلالهن جنسيا. هذه الظاهرة بدأت منذ الحصار الاقتصادي وحتى الآنquot;.

شادي جالب الخبز

جلال هادي، 38 سنة معلم، يقول لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;الفقر مشكلة كبيرة، فلو كانت الأوضاع الاقتصادية جيدة لوجدت أن هناك مؤسسات ترعى الأطفال، وترعى أسرهم وترفع من مستواها المعاشي بحيث لا يحتاجون إلى العمل في الأسواق. لكن ماذا نفعل إذا كانت البطالة متفشية، والغلاء يجبر الجميع على إيجاد أية طريقة للإستمرار في الحياةquot;.

يذكر أن تقارير وزارة التخطيط العراقية للعام الماضي اعتبرت محافظة ذي قار من أكثر محافظات العراق التي تعاني من البطالة.

ويقول حسام، 14 سنة، الذي يبيع العلكة والمناديل الورقية في شارع الحبوبي، أهم شوارع الناصرية، إن quot;والدي عاطل، وقد حاول أن يجد عملا في أي مكان فلم يفلح، لذلك أنا أعمل لمساعدة عائلتيquot;.

أما في الحي الصناعي شمال مدينة الناصرية فتجد عددا من الأطفال يعملون كمساعدين في محال تصليح السيارات.

عنان، 42 سنة، مصلح محركات سيارات يابانية يقول لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;الكثير من الأطفال يعملون في الحي الصناعي لمساعدة عوائلهم، ولكي يتعلموا مهنة يستفيدون منها في المستقبل.

وينادي عدنان على طفل في الثانية عشرة ليجلب لنا الشاي ونحن نتحدث، ثم قال مشيرا إلى الطفل quot;هذا quot;رافدquot;، ابن احد أصدقائي الذي طلب مني أن أعلّم رافد صنعة يعيش منها، ولكي ينشغل بالعمل بدلا من معاشرة رفاق السوءquot;.

وحين سألت quot;نيوزماتيكquot; رافد عن سبب عدم ذهابه إلى المدرسة، تبرع عدنان بالإجابة quot;المدرسة لا تشبعهم خبزاquot;. وأضاف quot;خذني مثلا، أنا لا أعرف القراءة والكتابة، ومع ذلك أنا أكبر أسطى محركات يابانيةquot;.

وأرشدنا عمال الحي الصناعي إلى هادي، 16 سنة، الذي قالوا عنه إنه يفتح محرك التويوتا كما يفتح علبة السردين.

كان هادي يضع سيجارة في فمه على طريقة كلينت إيستوود في فيلم quot;من أجل حفنة من الدولاراتquot;، ويحاول إخراج أحد البراغي المستعصية بالطرق عليه بمطرقة كبيرة.

ويقول هادي إنه فقد والده وهو صغير، وإن أمه روت له كيف أعتقل الحرس الجمهوري السابق والده في أعقاب الانتفاضة عام1991 من منزلهم في مدينة البكر في الناصرية، وكيف أضطر للعمل منذ صغره لإعالة أسرته التي لم تكن تعلم شيئا عن مصير الوالد حتى عام 2003 حيث عثروا على جثته مدفونة في مقبرة جماعية في منطقة سيد ذهب.

وحين قلنا لهادي إن التدخين غير مناسب لعمره نظر بسخرية ثم بصق عقب السيجارة المنتهية على طريقة بود سبنسر في فيلم quot;المبشرانquot;، وحمل مطرقته وأخذ بالطرق على البرغي المستعصي كأنه ينتقم من قسوة الحياة.

شادي مهجرا طائفيا

هادي ذكرنا بشادي الذي يلعب علي الثلج في أغنية فيروز، لكنه يلعب بالمتفجرات في العراق.

وفي الطريق إلى مدينة الغراف، 30 كم شمال الناصرية، كان المذياع يروي قصة شادي كما غنتها فيروز:

ويوم من الأيام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بها الدني
وصار القتال يقرب على التلال
والدني دني
شادي ركض يتفرج
خفت وصرت اندهله
وين رايح يا شادي
اندهله ما يسمعني
ويبعد يبعد بالوادي
ومن يومتها ما عدت شفته
ضاع شادي

سمعنا قصة أحمد وهو طفل في التاسعة كان يسكن مع عائلته في بغداد. ذات يوم وجد أمام منزله جسما غريبا فدفعه فضول الأطفال إلى اكتشافه، لكن الاكتشاف كان مرا، إذ انفجرت عبوة ناسفة بترت يده وأضرت بأجزاء كبيرة من جسده الصغير.

ولحسن حظه وجد منظمة إنسانية ترعاه وتأخذه إلى الكويت للعلاج. وبعد أن تعذر العلاج نقل أحمد إلى واشنطن. وبعد عام عاد الصبي بذراع واحدة وعين واحدة وجمجمة شبه محطمة. ولأنه لا يعيش على أطراف الوادي مثل بطلنا quot;شاديquot;، بل يعيش في ما يسمى بحي مختلط، يعني يسكنه الشيعة والسنة، فقد طالت احمد وعائلته تهديدات بالقتل على خلفية طائفية، فأحمد اعتبر quot;عميلا للمحتلquot; لأنه عولج في واشنطن كما جاء في احد بيانات التهديد. فجمعت العائلة أثاثها البسيط وهاجرت للعيش بالقرب من أقاربهم في مدينة الغراف التابعة لمحافظة ذي قار في جنوب العراق.

وكان النائب في البرلمان العراقي ماجد حسين قال لوسائل الإعلام أن 20% من ضحايا الانفجارات هم من الأطفال، وإن الأطفال يشكلون نسبة 35% من الذين طالهم التهجير الطائفي.

شادي يتطرف

طارق نعمة، 30 سنة، يقول لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;أطفال الناصرية معتادون على مشاهد العنف، ففي مدينة الألعاب الوحيدة في المدينة وضع النظام العراقي السابق إلى جانب دولاب الهواء والأراجيح دبابتين حقيقيتين قالوا إنهما غنائم حصل عليها الجيش العراقي من الجيش الإيراني في حرب الخليج الأولى 1980-1988.

ويضيف طارق quot;عندما كنا صغارا كنا نلعب بالدبابتين باعتبارهما لعبتين، وكنا نرتدي ثياب الطلائع ونتدرب على المعارك ببنادق مزيفة،

ولاتزال الدبابتان موجودتين في مدينة الألعاب رغم إن جميع ألعاب المدينة قد دمرت منذ سنوات. وأثبتت كشوفات هيئة الإشعاع العراقية نهاية العام الماضي أن الدبابتين ملوثتان بإشعاعات قاتلة نتيجة لتعرضهما للقصف الجوي أبان حرب عام 2003 بعد أن اعتقد طيارو قوات التحالف الدولي أن الدبابتين مقاتلتان فقاموا بقصفهما.

في الأسبوع الماضي وضع محافظ ذي قار عزيز كاظم علوان حجر الأساس لمدينة العاب جديدة، وقال للصحفيين إنها ستكلف أربعة مليارات دينار عراقي، وإنها ستعيد البهجة إلى أطفال المدينة في إطار مشروع لتشجير وأحياء شاطئ نهر الفرات الذي يخترق مدينة الناصرية.

ويقول الكاتب محمد أبو الأكبر، حول تأثير عسكرة المجتمع على الأطفال quot;إن تماثيل المدينة هي مظهر من مظاهر العسكرة التي تؤثر في نفسية الأطفال وتتسبب في تحويل العنف إلى ثقافة، فالنظام السابق أقام تمثالا لشخص يشهر سيفه في الهواء مذكرا بإحدى المعارك التاريخية، وهناك تمثال آخر يمثل مشهد قتل لضابط انجليزي على يد شرطي عراقي صنع بطريقة مثيرة لغريزة القتل، وهناك تمثال لجندي يحمل بندقية، ولآخر يقتل حيوانا خرافياquot;.

ويرى الباحث النفسي عباس الحسن أن أجواء العنف التي تنمو في بيئة فقيرة هي أخطر ما يتهدد الأطفال، quot;فترك الأطفال للدراسة سيكون عاديا في ظل حاجة الأسرة إلى مصدر رزق، وهذا ما يجعل الطفل يتأثر بالأفكار المحيطة التي لا تتناسب مع طبيعته الطفولية، لذلك تنشأ حالات الانحراف في سن مبكرةquot;.

ويضيف الحسن إن quot;اخطر مظاهر هذه الحالة هي استغلال الأطفال في أعمال العنف، فالأطفال يتأثرون بأجواء العنف السائدة، ما يمكن بعض الجماعات من استغلالهم في تنفيذ عمليات حربية، أو أنهم سيتحولون مستقبلا إلى مقاتلين محتملين أو أفراد عصاباتquot;.

ويشير الحسن إلى أن quot;سلسلة الحروب في العراق جعلت آلاف الأُسر تفقد معيليها، وبالتالي ينشأ الأطفال في بيئة معوزة، تفتقر إلى الإرشاد والنصح الأبوي ما أدى إلى ظهور جيل ساخط يعتبر العنف طريقة حياةquot;.

ويرى احمد جابر، 40 سنة وهو موظف، أن quot;عدم استقرار الأسرة وسوء أوضاعها المعاشية الناجم عن الحروب والإعتقالات والمطاردات أيام النظام السابق جعلت الإنسان العراقي يحمل في داخله عدم إنضباط تجاه السلطة كيفما تكون. وهذا واحد من أسباب العنفquot;.

ويقول صادق عيدان، 38 سنة موظف، إن quot;قوات الاحتلال مسؤولة أيضا عن تفشي العنف، فالإعتقالات المستمرة والمداهمات، واستخدام القوة المفرطة تولد ردود أفعال معاكسة تقود إلى العنفquot;.

ويطالب صادق quot;بتقليل التواجد العسكري الأجنبي والعراقي في الشوارع حفاظا على نفسية الأطفالquot;.


صبار

في أحد تقاطعات مدينة الناصرية كان صبار،12 سنة، يمد يده مستجديا سائقي السيارات والموظفين. صبار بدا غير مهتم بإحتفال الهلال الأحمر العراقي بيوم اليتيم العالمي حيث كان مئات الأطفال يطلقون حمامات بيضاء وبالونات ملونة، ويتسلمون هدايا العيد من متطوعي منظمة الهلال الأحمر. لكن عدسة المخرج علي الشيال وزميله المخرج على الناصري التقطت صورة لصبار، وسألاه بعض الأسئلة في إطار تجوالهما لتصوير فيلم جديد.

وحين سألتهما quot;نيوزماتيكquot; عن شادي أشار الناصري إلى صبار، بينما ردد الشيال مقطعا من أغنية فيروز

ويوم من الأيام ولعت الدني
ناس ضد ناس علقوا بها الدني
وصار القتال يقرب على التلال
والدني دني
شادي ركض يتفرج
خفت وصرت اندهله
وين رايح يا شادي
اندهله ما يسمعني
ويبعد يبعد بالوادي
ومن يومتها ما عدت شفته
ضاع شادي

عن وكالة أنباء نيوزماتيك