كنت ولا أ زال اقول أنَّ، النهضة تبدأ من الداخل، من تضاعيف تراثنا، وديننا، و شعرنا، وعاداتنا، وفكر أجدادنا، ليس هناك نهضة مستوردة، بل هناك نهضة تتخلَّق من الداخل، من الذات، تبدأ من تهذيب وترشيق وتطوير وتفعيل هذه الذات، ولكن لابد من إشتراع مصفوفة آواليات مسبقة للتعامل مع هذا المشروع الكبير، فما هي هذه الآوليات يا تُرى ؟
ليس الموضوع بهذه السهولة، ولصاحب هذه السطور محاولة متواضعة على صعيد النص القرآني سبق وأن طرح بعضا من ذلك، ويأمل ان يواصل الجهد في هذا المجال الحيوي الحسّاس، ولكن هنا يطيب لي أن أضع جملة آواليات أؤمن بها، منها على سبيل المثال وليس الحصر : ــ
أولا : اسبقية العقل، على خلاف معروف وعميق حول معنى العقل.
ثانيا : أوليّة الحرية، بما في ذلك حرية الجسد، والحرية هي التي تنظِّم نفسها بالتناص الظاهر والباطن مع العقل.
ثالثا : أصالة الفرد الإجتماعي، او الفردية الإ جتماعية.
لا أريد أن اطيل في ذلك، ولكن في هذا السياق أقول، ان ذلك يعني ـ فيما يعني ــ العودة الى التراث من أجل قراءته من جديد، من أجل إ نتاجه من جديد، ومن أهم مصاديق التراث هي القرآن الكريم، والسنّة النبوية، وسيرة سيد الخلق محمّد بن أ بي عبد الله، وقد قيض لصاحب هذه السطور ان يعيش مع السيرة النبوية طويلا، يدفعه الى ذلك حب النبي، والتعلق الروحي به، ولايمانه ان السيرة النبوية تشكل مصدراً ثقافياً وإلهاميِّاً لصيرورة المجتمع وحركته، شئنا أم أبينا، وقد تبيَّن لي ـ حسب طاقتي وجهدي ــ أن هناك فهماً مشوَّهاً لهذه السيرة، ساهم في تبليد العقول، وتجميد الوجدان، بل ساهم في توتير العلاقة بين المجتمع والتجديد، ذلك ان ألمساحة الكبيرة من هذا الفهم كانت إسطورية، إ بتهالية، إعجازية، غيبية، في حين ان المساحة الاكبر من هذه السيرة طبيعية، حسية، ماديّة، فقد إحتشدت سيرة النبي الحبيب بالمعاجز وا لغيبيات والخوارق، فيما ا لكثير منها لا اساس له من الصحّة، وللاسف الشديد بعض هذه المقتربات صارت مثل البديهيات، وفي رأي ان احدى شروط النهضة العربية هي العودة الى هذه السيرة ونخلها تماما، فإنها سوف تتوَّل الى مصدر طاقة دافعة تجاه التقدم، و الإبداع، شريطة التواصل مع المشروع بالنقد البنّاء، النقد العلمي الخبير، وليس بالكلام الجزافي، ليس بالانتقائية الفجة، وللعلم لقد تعرضت المناهج التاريخية الى هزّات جوهرية يجب مراعاتها عند الكتابة في مثل هذه المجالات.
في هذا السياق نريد مراجعة قضية هي اشبه بالبديهات عند الناس، تلك هي قضية الحما متين والعنكبوت ودورهما في نجاة رسول الله من أغتيال الجهاليين في الغار، تلك القضية التي غيَّبت الطبيعة وادخلت الغيب رغماً عنه، وكم لذلك من نظير.


1
تتفق المصادر على أن قريشاً جدّت في طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ان تأكد لها أنّه لم يكن موجوداً في بيته الشريف، وفي رواية إبن إسحق عن أسماء (... فمكثا ثلاث ليال وما ندري أين توجّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكّة يتغنّى بأبيات من شعر غناء العرب، وأن الناس ليتبعونه يسمعون صوته و ما يرونه... ) 1، وتستمر أسماء في حكايتها حيث تورد الشعر المذكور قائلة ( فلمّا سمعنا قوله عرفنا حيث وجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم... ) 2، وحسب هذه الرواية أن الناس إكتشفوا الجهة التي قصدها الرسول ا لكريم من هاتف الجن المزعوم، ولكن بإمكاننا أن نستعيض عن هذه الرواية بما ينقله لنا أبو ا لأسود عن عروة بن الزبير (... أنّهم ـ أي قريش ــ ركبوا في كل وجه يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم ويعثوا إلى أهل المياه يامرونهم ويجعلون لهم الجعل العظيم... ) 3 ، وفي هذا يقول إبن سعد ( وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدّ الطلب... ) 4، ويفصّل الحلبي الموضوع (...إنّ المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شقّ عليهم ذلك وخافوا ذلك، وطلبوه بمكّة أعلاها وأسفلها، وبعثوا القافة أي الذين يقصون الاثر في كل وجه... )5، وفي الحقيقة أنّ هذا الأمر متوقع، ذلك أن قريش كانت جادّة بقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكما يقول إبن كثير ( أن المشركين حين فقدوهما ـ النبي وصاحبه ــ ذهبوا في طلبهما كلّ مذهب من سائر الجهات... ) 6، فالحملة إذن كانت مكثّفة وقويّة، ومسألة الهاتف على لسان أسماء لا تقدم ولا تؤخر في ذلك، لان الطلب ثابت، ولأنّ أستقصاء كل جهة أمر ضروري وممكن، وتشير بعض الروايات أنّهم وصلوا ألى الغار فعلاً، ففي صحيح البخاري (... حدّثنا همام، حدّثنا ثابت عن أنس بن مالك أن أبا بكر حدّثه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فقلتً : يا رسول الله لو أنّ أحدهم ينظر إلى تحت قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ما ظنّك بأثنين الله ثالثهما... ) 7 ، ولم تُذكر في هذه الرواية الذي يرويها مسلم أيضا 8 ، والترمذي 9 ، وغيرها من المصادر... لم تُذكر قصّة العنكبوت والحمامتين والشجرة، ومن المعقول جداً أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشير إلى هذه الايات في هذه الاثناء، فهي بلا ريب تعزّز الإطمئنان، بل تؤسّس اليقين بدرجة فائقة، والمناسبة في الجوهر والصميم من الظرف والحالة والسياق، هذا فضلا عن إنعدام الإشارة في الأية الكريمة، ويروي البيهقي (... قال حدّثنا إبن أبي لهيعة عن أبي الاسود عن عروة بن الزبير... وأتوا على ثور الجبل الذي فيه الغار الذي فيه ا لنبي صلى الله عليه وسلم حتى طلعوا فوقه، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر أصواتهم، فأشفق أبو بكر، وأقبل عليه الهم والخوف، فعند ذلك يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن أنّ الله معنا... ) 10، حيث لم نجد تلك الخوارق، خاصة الشجرة التي يدّعي صاحب الحلبيّة أنها سدّت الغار بفروعها 11، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن أبا بكر بكل علامة أو إيماءة من شانها إداء هذا الدور، وعلى سبيل المثال ما رواه النسائي في الخصائص الكبرى (... أخرج أبو نعيم عن أسماء بنت أبي بكر أن أبا بكر رأى رجلاً مواجه الغار فقال : يا رسول الله أنه لرآنا، قال : كلا ، أنّ الملائكة تستره الآن بأجنحتها ، فلم يلبث الرجل أن قعد يبول مستقبلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر لو كان يراك ما فعل... ) 12، وأعتقد أنّ التنويه بالنسيج والحمامتين والشجرة أولى هنا،، ويُروى أنّ أبا جهل كان يحرز أن رسول الله في الغار، ولكن أدّعى أنّ الرسول قد يكون مارس السحر فحجب رؤيتهم 13


2
يتحدثون عن سير الرسول الكريم صلى الله عليه وأله وسلم إلى غار ثور، ويذكرون جملة صور وحالات وأحداث تستدعي النظر، وقد حشد الحلبي في سيرته بعضاً منها نقلاً عن غيره [( أقول ) في الدر المنثور : فمشي صلى الله عليه وسلم ليله على أطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حُفيت رجلاه، فلما رآه أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله، وجعل يشتد به حتى أتى على فم الغار فانزله، وفي لفظ لم يصب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار حتي قطرت قدماه دماً، وفي كلام السهيلي عن أبي بكر رضي الله عنه أنّه قال : نظرت الى قدمي رسول لله صلى الله عليه وسلم في الغار وقد تقطّرتا دما... ) 14، وفي الواقع من الصعب الإطمئنان والوثوق بمثل هذه الأخبار، ذلك أن ا لمسافة بين مكة والغار قصيرة جدا ( 20 كم )، ولذلك أحتمل الحلبي أنّهما ضلاّ الطريق أو أنّ ذلك لخشونة الجبل 15، وكلا الإحتمالين ضعيف، وليس هناك ما يشجع عليهما .
ولم يسلم الغار من الحديث وا لتصوير والكلام، فالغار نفسه تحوّل إلى لغز أو أسطورة، وأكتسى حقاً روحيّاً فائقاً، ( فقد روى أبو بكر أحمد بن علي القاضي عن عمرو بن الناقد، عن خلف بن قيّم، عن موسى بن مطير، عن أبيه، عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لأبنه إذا حدث في الناس حدث فأت الغار لاذي أختبأت فيه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فكن فيه، فإنّه سيأتيك رزقك فيه بكرة وعشيّا ) 16، ولم نعرف من هذا ا لابن الكريم الذي أسر له أبو بكر هذا الامر الخطير، ونحن نعلم أنّ رزق رسول الله وصاحبه في الغار كان يأتي بشريّا ولم ينزل عليه من السماء، وفي سنده موسى بن مطير، وهو ضعيف عند الدار قطني، وكذّبه يحي بن معين، وقال إبن حبّان : صاحب عجائب ومناكير لا يشك سامعها أنّها موضوعة، والرواية المذكورة أدرجها إبن حجر في صحيفة أعماله السوداء 17 ، وفي وراية البغوي ( حدّثنا داود بن عمرو الضبي، حدّثنا نافع بن عمر ا لجمحي، عن أبن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور... حتى إذا إ نتهى إلى الغار من ثور، قال أبو بكر : لما كنت حتى أدخل يدي فأحسّه وأقصّه، فان كانت في دابّة أصابتني قبلك، قال نافع : فبلغني أنّه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الحجر تخوّفاً أن تخرج منه دابّة أو شي يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم... ) 18. قال إبن كثير وهذا مرسل 19، ذلك أن إبن أبي مليكة ولد في خلافة الأمام علي 20 ، ونافع وإن وثّقه أحمد ألاّ أنّ إبن سعد يقول : ثقة فيه شيئ 21، على أن إبن أبي مليكة كان قد ولي القضاء والآذان لابن الزبير 22، وكان يروي في فضائل الصحابة فيما يغمز بعلي من طرف خفي 22، وكان حريصاً على رواية فضائل أبي بكر وعائشة، ويبدو أنّه منشد إليهما لانه تيمي، فان إسمه هو ( زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي... ) 23، ومهما يكن فأن كون الرواية مرسلة أصلاً يكفي في عدم إعتمادها من الأساس، ولا حاجة لهذه التقييمات الرجالة الإضافية، وإمتداداً للحديث عن قصّة الغار يروي إبن هشام ( وحدّثني بعض أهل العلم أنّ الحسن بن أبي الحسن البصري قال : أنتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار، فدخل أبو بكر قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حيّة، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ) 24 ، ولكن إبن كثير يعلّق على الحديث فيقول ( وهذا فيه إ نقطاع من طرفيه ) 25 ، وفي صحيح مسلم (... الأسود بن عامر : حدّثنا إسرائيل، عن الا سود، عن جندب قال : كان أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، فأصاب يده حجر فقال :
إنْ أنتِ الأ أصبع دَميت وفي سبيل الله ما لقيت ) 26.
وفي الحقيقة أنّ هذا البيت يتنافس على شرفه وفي سياق جهادي أكثر من واحد، ففي المنتظم لإبن الجوزي بسنده إلى عبد السلام بن النعمان بن البشير يروي ( أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه حين قُتل دعى الناس : يا عبد الله بن رواحة وهو في جانب العسكر ومعه ضلع جمل ينهشه ولم يكن ذاق الطعام قبل ذلك بثلاث، فرفع الضلع ثمّ قال : وأنت مع الدنيا ثمّ تقدم فقاتل ثمّ أُصيبت أصبعه فارتجز وجعل يقول :
هل أنت إلاّ أصبع إلا ّ دميت وفي سبيل الله ما لقيت ) 27.
والخبر في سيرة إبن هشام 28 / 2 / 28، ويروي ابن هشام ايضا انَّ قائل البيت هو الوليد بن الوليد بن المغيرة في مهمّة إنتدبه لها رسول الله 29 نفس المصدر والصفحة، ويروي الحلبي انّ رسول الله صلى الله عليه وآله هو القائل 30 ، ويحكي ذلك عمّا في ا لصحيحين عن جندب بن عبد الله أنّه قال ( بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابه حجر فدميت أصبعه فقال : هل إنت إلاّ أصبع دميت... ) 31 ، ويروي الحافظ أبو بكر البزار (... لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر مهاجرين فدخلا الغار إذا في ا لغار جحر فالقمه أبو بكر عقبه حتى أ صبح، مخافة أن يخرج على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شي... ) 32 وسوف نتعرض لسند الرواية في مناسبة لاحقة ان شاء الله تعالى .


المصادر
( 1 ) السيرة الهشامية 2 / 132.
( 2 ) نفسه 2 / 133.
( 3 ) دلائل النبوة 2 / 478.
( 4 ) طبقات إبن سعد 1 / 228.
( 5 ) السيرة الحلبية 2 / 37.
( 6 ) سيرة إ بن كثير 2 / 242.
( 7 ) البخاري في تفسير سورة براءة
( 8 ) الصحيح كتاب 44 باب 1 ح 2381.
( 9 ) الترمذي رقم 3095 من التفسير.
( 10 ) دلائل النبوّة 2 / 478.
( 11 ) السيرة الحلبية 2 / 36.
( 12 ) الخصائص الكبرى 1 / 185.
( 13 ) السيرة الحلبية 2 / 37.
( 14 ) نفسه 2 / 34.
( 15 ) السيرة الحلبية 2 / 34.
( 16 ) سيرة إبن كثير 2 / 240.
( 17 ) لسان الميزان 6 / 130.
( 18 ) سيرة إبن كثير 2 / 236.
( 19 ) نفسه والصفحة.
( 20 ) تهذيب التهذيب 3 / 346 رقم 640.
( 21 ) المغني للذهبي 2 / 693.
( 22 ) تذكرة الحفاظ 1 / 102.
( 23 ) البداية والنهاية 5 / 200، 210.
( 24 ) السيرة الهشامية 2 / 24.
( 25 ) سيرة إ بن كثير 2 / 237.
( 26 ) الصحيح كتاب الجهاد، باب ما لقي النبي من الأذى ح 1796.
( 27 ) المنتظم لإبن الجوزي 3 / 320.
( 28 ) السيرة الهشامية 2 / 120.
( 29 ) نفسه.
( 30 ) السيرة الحلبية 2 / 36.
( 31 ) نفسه.
( 32 ) سيرة إبن كثير 2 / 258.

السويد / المنفى القهري والطوعي