حوار مع الناقد السينمائي العراقي احمد ثامر جهاد

•السينما ليست متعة عابرة..
•أيمكن للثقافة السينمائية أن تزدهر في بلد، السينما فيه مُعطلة..
•الصورة ذاتها فكرة وغواية في آن واحد
..

حاوره حيدر عبد الخضر: تشكل السينما اليوم خطابا إنسانيا شاملا له أسسه ومرجعياته وأساليبه المتعددة التي تمكنه من بث الكثير من الأفكار والقيم والرؤى، وثيقة الارتباط بتمثلات النشاط البشري، الواقعي منها والمتخيل، وبكل ما له صلة بمظاهر حياة الإنسان، تاريخه وهمومه وارثه المعرفي. وبرغم أهمية وسائل الإعلام وقنواته المختلفة من إذاعة وتلفزة وصحافة وهيمنتها الواضحة على أسلوب العصر، ما زالت السينما تملك سحرها ونكهتها الخاصة، إذ تحظى باهتمام عالمي واسع في وقت باتت ( الصورة ) فيه تمثل للجميع سلطة أخرى لها فاعليتها وتأثيراتها الخطيرة على قنوات التلقي، بقدر يجعل حركتها الذكية تقترب من مسار متغيرات العصر ذات الإيقاع السريع سواء في المفاهيم أو الأولويات أو المزاج العام.وكنتيجة للدور المتعاظم والأهمية الاستثنائية التي تحظى بها الثقافة المرئية كان لزاما أن تظهر بمحايثة ذلك تيارات ومناهج نقدية عدة، تلعب دور العين الراصدة لكل ما يطرح من إشكاليات وظواهر، يمكن للكتابة النقدية صياغتها في خطاب سينمائي يواكب ويحلل ويقترح ….
الناقد السينمائي الشاب احمد ثامر جهاد أحد النقاد المثابرين في الكتابة عن السينما وعالمها الفسيح. حيث اتخذ من هذا الحقل الفني ميدانا خصبا لممارسة وعيه ونشاطه النقدي، فرفد الساحة الثقافية بالمزيد من الدراسات والقراءات التي اتسمت بالدقة والموضوعية والأدبية العالية، وكشفت في الوقت نفسه عن مواطن الجمال والغواية داخل الصورة السينمائية – بسعة تأثيراتها – وذلك عبر التأكيد على إبراز السياقات الثقافية والفنية والإعلامية وتأويلاتها اللاحقة ضمن عمل الفيلم، ودائما على خط التماس مع النسق المفاهيمي للثقافة المرئية.. ولغرض الوقوف على مداخلات هذا الموضوع والإجابة عن بعض التساؤلات المطروحة فيه، أجرينا معه الحوار التالي:


* كما تعلم تعد المنهجيات الحديثة اليوم أساسا جوهريا لكل ممارسة نقدية تشتغل على أشكال الخطاب المختلفة، ما هي برأيكم الأسس والتصورات التي يجب اعتمادها مرتكزا لتحليل أنماط الخطاب السينمائي؟
- من المعروف إن النظريات البنيوية وما بعدها تفرعت – بمرور الوقت – إلى اتجاهات عدة، حينما اقتحمت ابرز ساحات الخطاب النقدي للآداب والفنون والعلوم والفلسفات، وبدرجة اقل مع السينما( فنا أو كتابة ) فكان أن دفعت الإشكالية المعرفية إلى أقصاها، واصبح يجوز للناقد العمل على مناطق بكر يمكن أن يؤسس فيها اتجاها أو يكشف عن رؤية. فتهيأ لأول مرة مع ثورة المنهجيات هذه فرصة استبعاد المظاهر النمطية في تحليل الخطاب ( السينما كخطاب ) بصورة موازية للمحافظة على شاغل التأمل المنهجي المغاير. وبخصوص قراءة الفيلم السينمائي اجدني اتفق مع الناقد الفرنسي ( جاك اومون ) الذي يذهب إلى القول: انه لايمكن لتحليل الفيلم أن يعد فرعا علميا حقيقيا، لانه ليس هناك أي منهج عمومي لتحليل الأفلام، اكثر مما توجد نظرية موحدة للسينما … من هنا نرى أن زاوية النظر إلى الفيلم غالبا ما تتصف بكونها نسبية ومشروطة بمستوى رؤية الفيلم لموضوعه نفسه. وهناك دلائل كثيرة تبين وجود قصدية ما في اختيار زاوية نظر معينة. إلا أن المسألة الأهم – باعتقادي – إن هذه النظريات تختلف إلى حد ما عن التصورات الأيديولوجية المعهودة في كونها تقدم نسقا تأويليا ممكنا من دون أن تلزمك باتباعه!

* وفقا لتصورك هذا، هل تُحدد طبيعة الموضوعة السينمائية اختيارَك أفلاما محددة لقراءتها؟
- اختياري للأفلام يتعلق بقضيتين، الأولى فنية أو فكرية بمعنى اشمل، والثانية شخصية ذات طابععملي تتوقف على فرص مشاهدة الشريط السينمائي بصورة جيدة. ولأننا كمتلقين نجد أنفسنا محط إثارة دائمة من قبل مؤثرات الفيلم السينمائي، خاصة جوانبه الفنية، اشعر أنني منجذب إلى أسلوب الإخراج والمعالجة والرؤية، وارى فيها العمق المطلوب الذي بوسعه منح العمل السينمائي شكلا فنيا مثيرا وإيقاعا رصينا يتفاعل مع عناصر الفيلم الأخرى. أما الموضوع بذاته فاعتقد انه يأتي لاحقا، مثلما أن الموضوعات الجيدة في الأدب أو السينما لا تتحقق قبل أن يتم اكتشافها في خيال فنان محترف يصوغها قصصا أو أفلاما تستحق القراءة والتأمل والإعجاب. ولا استبعد – بالطبع – ما هو ذاتي في تشكيل دوافع الكتابة.

* بودي الانتقال إلى الحديث عن ظاهرة أوسع، بسؤال مفاده: إلى ماذا نعزو حالات تدني الوعي السينمائي لدينا؟
- لا اتفق مع هذا التوصيف إلا في حدود كونه جزء من ظاهرة اكبر ترتبط في طرف منها بالمناخات الثقافية عامة وما تتعرض له من إعياء متواصل. في المقابل علينا أن نتساءل لماذا يتزايد الإقبال على السينما في محيط العالم بأسره؟ فمع كل ما يشوب هذه العملية من قناعات واتجاهات وميول، يمكننا اعتبار علاقة المتلقي بالصورة السينمائية خطوة أولى تدفعه إلى مفترق طرق، فقد تؤهله لامتلاك وعي واحساس جديدين، أو تشوه وعيه بشكل نهائي. إن الصورة ذاتها فكرة وغواية في آن واحد، لذا فهي تختلف عن أي زاد ثقافي آخر. لكن ليس مستحيلا أن نرى الجمهور المتفرج يتذوق ويلاحظ وينتقد – بشكل متتابع – إذا ما وُجه ليختار بشكل سليم. ولا اعتقد أن مشاهدنا المحلي يختلف عن الآخرين، مع انه تأثر كثيرا بترهل السنوات الماضية، كتدهور وضع المشاهدة النموذجية في صالات السينما وانقطاعه عنها لفترات طويلة، كذلك هيمنة عروض التلفاز والفضائيات وانتشار الأقراص الليزرية سهلة التداول، كل ذلك قضى بالدرجة الأولى على جماليات الفيلم السينمائي في عرضه الطبيعي على الشاشة الكبيرة. فيما يشكل توقف عجلة السينما العراقية منذ عقد من السنوات تقريبا الوجه الآخر للمشكلة نفسها. وهو لا ريب العامل المسؤول عن تشتت القدرات وانصرافها عن مشغل الفن السينمائي بعد أن كانت فاعليته ضمن سياقها الثقافي تعتبر من قبيل الممارسة الاجتماعية ببعدها الحضاري الواعي. لا مفر من القول أن جانبا هاما من المسؤولية يقع اليوم على عاتق المؤسسات الفنية والإعلامية التي باستطاعتها تفعيل تلك الأوساط وتنمية المواهب والإمكانات فيها. عندئذ فقط يمكننا استبعاد المعادلة الحتمية القائلة: لا يمكن للثقافة السينمائية أن تزدهر في بلد، السينما فيه مُعطلة. سنحتاج بالتأكيد إلى تجاوز منطق الاستهلاك المحموم لنتاج الآخر ( أيا كان ) طالما أن معضلتنا ذات اوجه متعددة، يتقاسم وزرها المثقف مثلما الإنسان العادي، فالكل يعاني ويأمل ويجتهد من دون أن يتنازل عن حقه في الحياة.

*هل معنى ذلك أن ثمة خلل حاصل في إدراكنا لأهمية الفن السينمائي؟
-بالطبع هناك خلل ما يُلقي بظله حتى على قناعات بعض المثقفين، خاصة من يعتقد أن السينما بالنسبة لجدول اهتماماته لا تتعدى كونها متعة عابرة. لكن تلك التصورات نسبية وغير راسخة في حال وجود أنشطة ثقافية وفنية موسعة تعيد الاعتبار إلى مكانة السينما بوصفها إحدى أهم روافد ثقافتنا المعاصرة. المفارقة هنا أن العالم المتقدم يعاني الآن من سيطرة ( الصورة ) على حياة الناس، سلوكهم واعتقاداتهم، حيث حلت السينما عبر قنوات إنتاجها العملاقة محل العديد من الممارسات الفنية والترفيهية، وباتت أداة إعلامية مهيمنة على ذائقة الجمهور من خلال المئات من الأشرطة الأمريكية المفبركة باقتدار، تلك التي تتبناها هوليود ضمن مسار سياستها الرامية إلى إحكام الهيمنة البصرية والفكرية على العالم / المتلقي.

* بعد كتابك ( مديات الصورة والاتصال ) الصادر في تونس عام 1998 علمنا أن الصورة أيضا، هي محور كتابك الجديد ( عالمنا في صورة ) ماذا عنه وأين يقف في طموحك النقدي؟
-الكتاب الذي انتظر صدوره منذ مدة، يشكل خطوة أخرى في سياق قراءة الفيلم السينمائي ربما يمثل تعدد الأفلام وتنوعها فيه فرصة جيدة تجعله اقرب إلى السياحة مع الصورة والتي من شأنها اجتراح كتابة فنية تشتغل على تنويعات الخطاب، جماليا وفكريا. هذا بالإضافة إلى أن الكتاب يمثل في جزء منه محاولة أخرى لتسليط الضوء على الموضوعة الأساس التي بدأت مع كتاب ( المديات..) واقصد بذلك موضوعة الأدب/ السينما أو النص/ الصورة. من هنا يمكننا أن نرى أن ( عالمنا في صورة ) يرتبط بكتاب آخر، أعد له منذ فترة ويتمحور حول مفهوم الصورة والدلالة من زاوية محددة تقرأ وتحلل نماذج من السينما الأمريكية واسعة الانتشار.

*يلاحظ على كتاباتك أنها تُبقي على علاقة وسيطة غير معلنة، أو لنقل بؤرة مضمرة تلتقي عندها هموم الأدب والفن داخل فضاء تأويلي متقارب؟
-الأمر غير مقصود أو مخطط له بالمرة، لا سيما في ظهوره المبكر، رغم انه ملحوظ من قبل الآخرين بصفته طريقة لتوسيع دائرة تلقي هذا النمط من الكتابة الذي يجمع بين حقلين حيويين، أتصور أنني لا احتفظ بتبرير خاص لهذه المسألة، ولا ادري إن كان يحق لنا التحكم بما نرغب في قوله لحظة الكتابة. لكنني سأحاول فهم إشارتك تلك على أنها تشخيص لميزة إيجابية في أسلوب الكتابة واتجاهها.

*كيف ترى مستقبل السينما والنقد السينمائي بشكل عام في ضوء متغيرات العراق الحالية؟
- ربما لم تتضح الأمور بعد بقدر كاف، لكني ارجح أن جيلا من الشباب الطموح سيكون لديه الكثير مما يود قوله للعالم، إذا ما توفرت له سبل الحرية والإمكانات والنضج المطلوب. فالمرء يتلمس معنى الشعور حتى قبل أن تتضح الرؤيا لديه. اعتقد هنا وأتمنى أن أكون مخطئا، إننا برغم الجهود التي نبذلها للحفاظ على بداهة أشيائنا وعلى فكرة الكائن فينا، قد تبدو فاعليتنا أحيانا، منحرفة وضائعة تماما وكأنها خط الزمن المائل.. لكننا نحاول أن نكون جديرون بلحظة جديدة.