رجا طلب: هو على النقيض تماما من شخصية رفيق دربه اللدود ياسر عرفات، فـ «الختيار» الذي اختصر بكوفيته المرقطة كل رمزية فلسطين ونضال شعبها، كان طوال حياته نجما سياسيا عشق الاعلام لدرجة الهوس واحب شاشات التلفزة الى الدرجة التى نافس بها نجوم السينما العربية فكان محط أنظارهم وحسدهم وتندرهم أيضا، أما «ابو مازن»، فكان دائم الهرب من الاعلام، ينظر الى الكاميرات على أنها حليف قوي للخصم مهما حاولت التودد له ، فهي من وجهة نظره تسرق الخصوصية والمعلومات وتفرض على السياسي قول أشياء كثيرة لا يؤمن بها ومواقف لا تعكس الحقيقة التى في داخله، فهو يفرق بين السياسي والممثل، وانحيازه الى الصمت في معظم الأحيان يعكس قناعته بالمثل القائل «اذا كان الكلام من فضة فان السكوت من ذهب».
والصمت عند أبو مازن هو صمت القادر وصمت العارف والمطلع الذي يزن كلامه عندما يضطر اليه بميزان من ذهب يتحاشى فيه قول ما هو غير صحيح أو الاعلان عن موقف لا قناعة له به,,, وحدته هذه كلفته الكثير، فهو ليس شخصية شعبية ولكنه رجل ذو مصداقية نادرة قل نظيرها في ساحة مثل الساحة الفلسطينية تعج بالعشرات من السياسيين الطموحين الذين يركبون بساط المغامرة من اجل قول أي شيء وفي أي وقت للبقاء في ساحة الحدث وتحت الضوء.
تعففه في الاعلام رافقه زهد وصل حد الرهبنة في امتلاك السلطة أو ممارستها، فقبل عام تقريبا سجل سابقة في تاريخ النضال الفلسطيني ربما لن تكرر أبدا، عندما قدم استقالته من رئاسة وزراء السلطة الفلسطينية وعضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، بعد أن وصل الى نقطة اللا عودة في التفاهم مع عرفات الذي كان حتى آخر يوم في حياته لا يريد رؤية سلطة الا سلطته فهو الذي بقي ممسكا بزمام الأمور من شراء «البسطار» حتى تعيين الطيار، وقتها كتب أبو مازن استقالته وهو مرتاح الضمير، فلم يتردد للحظة في الخروج من المشهد، قال للمقربين منه «ارفض أن أكون شاهد زور»,,, وبالقدر الذي أفرحت تلك الاستقالة عرفات وخلصته من عناد رفيق أتعبه، بالقدر نفسه أشعرته بالحزن على نفسه و بمدى عجزه عن مقاومة السلطة التى رماها أبو مازن وفي جرة قلم خلف ظهره دون أن يحاول الالتفات اليها فقد كانت جبلا من الألم يحمله على كتفيه.
لم تهز عباس عبارة «كرزاي الفلسطيني» التى استخدمها عرفات ضده ولم تفقده الثقة بنفسه، فهو لم ير في كرزاي الأفغاني الا صورة بطل أنقذ شعبه من عهد طالبان الظلامي، لقد قرأ عباس «الشتيمة» على انها مديح من حيث أراد مطلقها الطعن به وبوطنيته، لذا فهي لم ترعبه أو تلغي قناعته بان الذين يحاربون من اجل البقاء في سدة السلطة على حساب معاناة الشعب الفلسطيني بأنهم مجرد «تجار دماء» فقدوا الصلة بالثورة و الوطن.
تجاوز مبكرا كل عقد السياسيين الباحثين عن الشعبية المزيفة التى يبنيها الشعار الكاذب والمال السائب، فالقيادة في نظره هي احترام الناس اكثر مما هي ارضاء رغباتهم، ولهذا لم يطرب يوما لتصفيق ولم يسع يوما الى شراء حناجر الهتافين أو أياد الطبالين فالشعبية التى يؤمن بها، الاخرون هي العبء الذي طالما أراد التحرر منه ولاعتقاده من أنها، أي تلك الشعبية تدخل الشارع الى غرف صنع القرار فتربكه وفي أحيان كثيرة تسرقه أو تحرفه عن الهدف او تبعده عن الصواب، فكان من أوائل القادة الفلسطينيين الذين جلسوا مع اليسار الاسرائيلي من اجل اختراق الساحة الاسرائيلية في وقت كان يمثل هذا العمل خيانة كاملة وجريمة لا تغتفر.
وهو الوحيد الذي كان يجرؤ على ايصال الرسائل القاسية للقيادة السوفاتية التى كانت في نظر القيادة الفلسطينية قيادة ملهمة لا تخطئ أبدا، وهو أول من دعا الثورة الى مصارحة مع الذات بعد فترة من جلد الذات، عندما أيقن أن الانتفاضة الأولى دخلت مرحلة «القطاف السياسي» في وقت كانت شعارات البعض من الثوريين تعلن أن حجارة الفلسطينيين هي حجارة أبدية، وقتها ألغى نظرية «الفلسطيني السوبرمان» الذي يملك استعدادا للموت لا ينتهي ووضع مبادرة السلام الفلسطينية التى اعترفت ولو مرة بقرار مجلس الأمن 242 الذي كان في ذهنية البعض كفرا وخيانة.
في ذلك العام أي في عام 1988 و خلال انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، سخر ابو مازن من رفض جورج حبش زعيم الجبهة الشعبية الاقامة في فيلا تحمل رقم 242 في منتجع قصر الصنوبر في العاصمة الجزائرية، وقتها قال «هذا الرقم لي ومن الان فان علينا أن نحيل هذا الرقم من نذير شؤم الى عنوان أمل».
رغم اعتداله وواقعيته السياسية الا أن أبو مازن لا يعرف المساومة على الهدف ويكره المراوغة في التفاوض ويرفض المجاملة في التعامل، وهي صفات ساهمت في المباعدة بينه وبين عرفات,,, لقد فشل قادة دول وسياسيون عرب و أجانب وعلى مدى عام كامل من مصالحته مع عرفات، وكان عباس طوال ذلك العام يقول «اكره مصالحات تبويس اللحى»، عام كامل رفض فيه أبو مازن رؤية «الزعيم» أو الرد على هاتفه أو استقبال رسائله أو حضور الاجتماعات التى يرأسها أو يحضرها كان «حردا» حقيقيا يعكس الألم من الطعن بشرف الرفقة والدرب التاريخي الطويل، فعندما ينفض يديه من شخص يقرر اخراجه من ذاكرته بدون رأفة أو ندم من أي نوع، ولم يكن يشعر للحظة واحدة انه فاقد للشرعية أو انه بحاجة اليها، لقد كان في قرارة نفسه يؤمن أن «الزعيم» يستهلك زعامته عندما يسعى للاستحواذ على كل شيء وبأي ثمن.
يهرب عباس من السلطة فتلاحقه الى باب داره تطلبه، ويدير ظهره للزعامة فتتبعه تناديه وهو الزاهد بها والمتعفف عنها وهو المؤمن بان «طالب الولاية لا يولى».
على عكس «ابو عمار» الذي يكاد أن يقول قول عثمان الشهير «ان الله قمصني قميصا، فإن شاء خلعه وإن شاء تركه» ولم ينتزع قميص عثمان الذي أضحى عبرة إلا بسيف الفتنة، أما قميص عرفات فالموت وحده هو الذي سينزعه، وعباس,, كرزاي الفلسطيني سيرتديه مكرها، وسوف يرميه خلف ظهره في اقرب فرصة ممكنة.
- آخر تحديث :












التعليقات