ظلت حكومة الكيان الصهيوني خلال السنوات الثلاث الماضية تتذرع بمقولة ان الرئيس ياسر عرفات لا يمثل شريكا حقيقيا في السلام، وانه كان رجل إرهاب، وعمدت إلى تحميله المسؤولية كاملة في أعقاب كل عملية عنف تنفذها عناصر من القوى الفلسطينية ضد الأهداف المدنية والعسكرية “الإسرائيلية”. ولذلك استمرت واشنطن وتل أبيب في مطالبة الرئيس عرفات بأن يعمل على تفكيك البنية التحتية لما تسميه بالإرهاب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وذلك كشرط تعجيزي كان يتعين عليه تحقيقه قبل المضي في مفاوضات التسوية السلمية معه.
عاش عرفات بضع السنوات الماضية من حياته يكابد المعضلة السياسية القاسية التي واجهته بها تل أبيب وواشنطن: عرفات، إن كنت قائدا قويا للفلسطينيين فإن عليك أن تقضي على “القوى الإرهابية الفلسطينية”؛ وإن لم تكن بتلك القوة المطلوبة فإنك لست الشخص المناسب للتفاوض معه بشأن التسوية السلمية للقضية الفلسطينية. لم يستطع عرفات أن يعالج تلك المعضلة، خاصة أن ممارسات جيش الاحتلال الصهيوني كانت تجعل أعمال المقاومة الفلسطينية العنيفة ردا طبيعيا على الدوام. لذلك، لجأت تل أبيب بمباركة أمريكية إلى عزل عرفات عن الواقع السياسي الفلسطيني، وأبقته حبيسا في المقاطعة في رام الله لمدة ثلاثة وثلاثين شهرا، إلى أن توفي في الأسبوع الماضي.
أثبتت جنازات الرئيس عرفات الثلاث في فرنسا ومصر والأراضي المحتلة أن المزاعم التي كانت تسوقها باستمرار واشنطن وتل أبيب أن عرفات كان رجل إرهاب كانت مجرد أكذوبة، إذ لا يعقل أن تشارك وفود ممثلة من أكثر من أربعين دولة في جنازة رسمية لرجل إرهابي؛ كما أن حشود عشرات الآلاف من الفلسطينيين في المقاطعة في مدينة رام الله والتي كانت مفعمة بمشاعر الحب والتأييد للرئيس الراحل تمثل تكذيبا لمزاعم تل أبيب وواشنطن بأن عرفات لم يعد الشخص المناسب لتمثيل الفلسطينيين. كانت الجنازات بمثابة استفتاء رسمي عالمي وشعبي فلسطيني على شخصية ياسر عرفات كزعيم سياسي وقائد وطني، وقد نجح الزعيم الراحل في الاستفتاء بامتياز.
على أية حال، هل تعني وفاة الرئيس ياسر عرفات أن الذريعة الأساسية التي كانت تستخدمها الحكومة الصهيونية قد سقطت، وأن هذه الحكومة قد أصبحت محاصرة في ركن تشعر فيه بأنها تحت الضغط العالمي من أجل التعاون مع الفلسطينيين؟ إن الزعم بأن فرص المضي بفاعلية في عملية التسوية السلمية للقضية الفلسطينية قد تعززت بوفاة عرفات يتضمن إيمانا بالمزاعم الصهيو أمريكية بأن عرفات كان بالفعل رجل إرهاب وليس مقاومة وأنه كان عنصر عرقلة وليس مساعدة في المفاوضات. نود أن نؤكد رفضنا للمزاعم التي حيكت حول عرفات خلال حياته وبعد وفاته: فالرئيس عرفات لم يكن يمثل العائق الحقيقي أمام تسوية سلمية مقبولة، ولن تتعزز فرص التسوية العادلة بعد وفاته. الأرجح أن ثمة ورقة تعجيزية ثانية سوف يحرص شارون على استخدامها في مواجهة القيادة الفلسطينية الجديدة القديمة، ومن المرجح أن واشنطن سوف تساعده على استخدامها في مواجهة الفلسطينيين والعالم.
فبالنسبة للحكومة “الإسرائيلية” فإنه ليس من المتوقع على الإطلاق أن تتغير المبادئ التي تستند إليها سياسات ارييل شارون فيما يتعلق بطبيعة الصراع مع الفلسطينيين، أو كيفية تسوية هذا الصراع، أو جوهر التسوية الواقعية التي يمكن أن تتبلور وتقبلها الدولة اليهودية حكومة وشعبا. لن تمثل وفاة الرئيس عرفات سببا مناسبا بالنسبة لشارون لكي يراجع ويعدل مواقفه المتشددة التي طالما تمسك بها خلال سنوات حكمه الماضية في مواجهة الفلسطينيين والعرب والعالم أجمع. وليس من المعقول بتاتا أن يفوت شارون فرصة فقدان الفلسطينيين لرمز نضالهم السياسي الذي جسد بالفعل شخصية القيادة للدولة الفلسطينية المستقلة التي طالما حلموا بإقامتها في أن يضرب بقوة في كل من النضال والقيادة والدولة. يعتقد شارون أنه بوفاة عرفات قد تخلص من عدو لدود ظل يطارده فترة طويلة من الزمن، وسوف تمثل القيادة الفلسطينية الجديدة العدو المقبل بالنسبة لشارون إن هي تمسكت بالأسس ذاتها التي كان عرفات يتمسك بها ويرفض التنازل عنها. ولذلك، فإنه من المتوقع بشدة أن يواجه شارون القيادة الفلسطينية الناشئة بورقة تعجيزية جديدة تشل من حركتها وتجعلها في موقف الدفاع طوال الوقت.
أما بالنسبة لحليفي تل أبيب الأساسيين، لندن وواشنطن، فإنه لم تمض سوى بضع ساعات منذ الانتهاء من مراسم جنازة ودفن الرئيس عرفات في يوم الجمعة حتى اتضحت من خلال المؤتمر الصحافي الذي جمع كلاً من جورج بوش وتوني بلير طبيعة الورقة التعجيزية الثانية التي نتوقع استخدامها في مواجهة المطالب الفلسطينية بتسوية سلمية تؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية. تتمثل هذه الورقة بالمطالبة الواضحة والمتكررة التي شدد عليها بوش وبلير للفلسطينيين بتحقيق الديمقراطية في الأراضي الفلسطينية كشرط أساسي من أجل بدء التسوية. تتضمن مطالب تحقيق الديمقراطية في هذا الإطار العمل على تشكيل قيادة فلسطينية منتخبة، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وضمان حرية التعبير أمام الفلسطينيين، والتخلي عن المقاومة المسلحة ونبذ العنف، وتدعيم قيم حقوق الإنسان واحترامها. إن جميع هذه المطالب المتصلة بالديمقراطية نبيلة وسامية في ظاهرها؛ بيد أن الواقع الذي يفرضه الاحتلال العسكري الذي يرزح تحته الفلسطينيون من شأنه أن يشكل تحديات ضخمة أمام تحقيق كل من عناصر الديمقراطية هذه.
وفي الوقت الذي يستند كل من بوش وبلير إلى ملاحظة معروفة لدى دارسي العلاقات الدولية مفادها أن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً، وعلى الرغم من أنه لا يوجد اتفاق حول مصداقية الملاحظة أو تفسيرها، إلا أن بوش وبلير ينطلقان منها إلى المطالبة بتحقيق الحكومة والمجتمع الديمقراطيين في الأراضي الفلسطينية كشرط للتسوية السلمية. كيف يمكن لمجتمع سياسي أنهكه الاحتلال أن يتحمل الضغوطات التي تشكلها المؤسسات والممارسات الديمقراطية على أي مجتمع إنساني؟ وكيف يمكن لمجتمع يتعرض للقتل باستمرار وتصادر ممتلكاته وأراضيه على الدوام، ويهان أفراد شعبه بشكل يومي أن يقفز على هذا الواقع المرير ويصير مجتمعا مدنيا مسالما في علاقته تجاه الطرف الصهيوني الذي يسومه كل هذه الويلات والإهانات؟ سوف يتعين على القيادة الفلسطينية الجديدة أن تكابد معاناة معالجة مطالب الديمقراطية التعجيزية التي تفرضها عليها تل أبيب وواشنطن ولندن، وسوف تجد نفسها في موقف لا تحسد عليه، ولن تكون فرصها في تلبية متطلبات الديمقراطية أفضل من تلك التي كانت تتوفر أمام الرئيس عرفات بخصوص تنفيذ مطالب العمل على تفكيك البنية التحتية “للإرهاب”، ولن يصنع شارون الظروف الأمنية والاقتصادية المواتية لكي تتمكن القيادة الفلسطينية الجديدة من تحقيق النجاح في الشأن الديمقراطي، ولن يوفر أمام الفلسطينيين عرض تسوية سلمية أكثر كرما من ذلك الذي كان قد عرض على عرفات. سوف ينجح العائق المتمثل في شرط تحقيق الديمقراطية وتخبط الفلسطينيين في تنفيذه بشكل يرضي تل أبيب وواشنطن ولندن في توفير المجال الواسع أمام شارون لكي يتحكم في مجريات الواقع السياسي في الأراضي المحتلة متخلصا من كافة الضغوطات الخارجية، تماما كما كان يفعل خلال السنوات الأربع الماضية.
وفي إطار تحقيق الديمقراطية كشرط سوف يتعين على الفلسطينيين إنجازه كمتطلب سابق من أجل الشروع في عملية التسوية السلمية، يمكننا التأكيد على أنه سوف ينشأ تفاوت جوهري بين التصورات الفلسطينية-العربية من جهة والتصورات الصهيونية - الأمريكية - البريطانية من جهة أخرى فيما يتعلق بمفهوم الدولة الفلسطينية القابلة للحياة viable Palestinian state: إذ إن مفهوم “قابلة للحياة” بالنسبة للطرف الفلسطيني العربي سوف يستمر في أن يعني وجود إقليم جغرافي متماسك يمكن للفلسطينيين إقامة دولة حقيقية عليه، بما يعنيه ذلك من أن تمتنع “إسرائيل” عن القيام بأية إجراءات أحادية الجانب من شأنها أن تؤثر في سلامة الإقليم الفلسطيني المتماسك. أما بالنسبة لكل من تل أبيب وواشنطن ولندن فإن مفهوم “القابلة للحياة” سوف يعني من الآن وصاعدا وجود نظام ديمقراطي في مجتمع مدني سلمي يتمتع بالإنتاجية الاقتصادية وحرية التعبير في أي جزء من الأراضي المحتلة تتعطف حكومة الكيان بالتنازل عنه للفلسطينيين.
سوف يسهم هذا التفاوت الجوهري حول مفهوم الدولة الفلسطينية “القابلة للحياة” في إبقاء القيادة الفلسطينية الجديدة في دائرة المتابعة والمراقبة والتقييم والمحاسبة والمعاقبة الصهيونية الأمريكية البريطانية لأدائها في مجال تحقيق الديمقراطية من جهة، وفي استمرار إطلاق يد شارون لكي يغتصب الأراضي الفلسطينية وتحويل الاهتمام الدولي بعيدا عن تجاوزاته، من جهة أخرى. لذلك، فإن هذا التفاوت سوف يبرز كعنصر جدال واختلاف أساسي بين الرؤيتين المتصادمتين، ومن المتوقع بشدة أن يقف خلال السنوات المقبلة عائقا كبيرا في طريق تحقيق أية قفزة نوعية في مسيرة تسوية القضية الفلسطينية وتحقيق السلام في الشرق الأوسط.