بينما ترتفع أسعار السّلع والخدمات كافّة دون استثناء حول العالم، بسبب زيادة هائلة في معدل التَّضخم، تبقى سلعة النّفط عصية على هذه القاعدة، وتواصل الهبوط في معدلات سعر البرميل بشكل يدعو إلى الدّهشة والتعجب.
النفط يُعدّ حالة استثنائية في عالم السّلع. وفي حين أنّ التضخم يرفع أسعار السلع الاستهلاكية (مثل الغذاء والسكن) نتيجة زيادة تكاليف التشغيل وضعف القوة الشرائية للعملة، فإنَّ سعر النفط يخضع لقوانين مختلفة تجعله أحياناً يسير عكس التيار. هناك بعض الأسباب الرئيسية التي تجعل أسعار النفط قد تنخفض أو تستقر في حين ترتفع بقية الأسعار، من هذه الأسباب وفرة المعروض مقابل الطلب (تخمة الأسواق).
هذا العام، شهدت الأسواق العالمية زيادة كبيرة في إنتاج النفط من دول خارج منظمة «أوبك» (مثل الولايات المتحدة، وغويانا، والبرازيل). عندما يتجاوز المعروض العالمي كمية الطلب، تضطر الأسعار إلى الانخفاض بغض النظر عن معدلات التضخم العام في الدول. والتباطؤ الاقتصادي العالمي الذي سببه التضخم المرتفع غالباً ما يدفع البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة. هذا الإجراء يؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي وتقليل النشاط الصناعي. وهناك تراجع الطلب على الطاقة والوقود من قِبل المصانع وشركات النقل.
بالتالي، يقل «الطلب» على النفط، مما يؤدي إلى هبوط سعره حتى والأسعار الأخرى ترتفع. كما أنه لا يمكن إغفال التحول الطاقي (السيارات الكهربائية)، في حين لا تملك سلع أخرى مثل القمح أو اللحوم بدائل تكنولوجية فورية مماثلة.
وطبعاً هناك قوة الدولار الأميركي، لأن النفط يُسعّر بالدولار. غالباً ما يصاحب التضخم العالمي ارتفاع في قيمة الدولار (بسبب رفع الفائدة الأميركية). وعندما يقوى الدولار، يصبح النفط أغلى بالنسبة إلى الدول التي تستخدم عملات أخرى، مما يقلل طلبها عليه، فيؤدي ذلك إلى انخفاض سعره العالمي المقوّم بالدولار ليتحقق التوازن.
وطبعاً دور «أوبك» بصفتها منظماً للسوق على عكس أسعار «الخبز» أو «الخضراوات» التي تتحدّد بآلاف البائعين الصغار، تُدار إمدادات النفط من قِبل تحالفات كبرى (أوبك). أحياناً تختار هذه الدول زيادة الإنتاج للحفاظ على حصتها في السوق، مما يمنع الأسعار من القفز إلى مستويات تتماشى مع التضخم العالمي.
التضخم هو «نتيجة» أحياناً لارتفاع أسعار النفط، وليس العكس. فالنفط سلعة استراتيجية تقود التكاليف، ولكنها تتأثر بموازين القوى السياسية والعرض العالمي أكثر من تأثرها بسعر سلة التسوق اليومية.
تشير البيانات والسياسات الأميركية في عام 2025 إلى توجه واضح نحو الحفاظ على أسعار نفط منخفضة أو مستقرة، وذلك لأسباب اقتصادية وسياسية واستراتيجية عدة. وهذه بعض التفاصيل:
منذ مطلع عام 2025، تبنّت الإدارة الأميركية سياسة تهدف إلى زيادة إنتاج النفط المحلي والوصول به إلى مستويات قياسية (تصل إلى 13.6 مليون برميل يومياً بحلول ديسمبر/كانون الأول 2025). الهدف هو تعزيز مكانة الولايات المتحدة وضمان توافر إمدادات كافية تمنع قفزات الأسعار.
مكافحة التضخم: تُعدّ أسعار النفط المنخفضة أداة أساسية في السياسة الأميركية لخفض التضخم. انخفاض أسعار الوقود يقلل من تكاليف النقل والإنتاج، مما يعزّز القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.
الأهداف الجيوسياسية: صرّح الرئيس في يونيو (حزيران) 2025 بوضوح برغبته في بقاء الأسعار منخفضة، لافتاً إلى أن الارتفاع الكبير في الأسعار يفيد «الأعداء» (في إشارة إلى دول تعتمد ميزانياتها على عوائد النفط المرتفعة مثل إيران وروسيا).
التوقعات السعرية لعام 2026: تشير تقديرات إدارة معلومات الطاقة الأميركية (EIA) إلى أن متوسط سعر خام برنت سينخفض من 81 دولاراً في 2024 إلى نحو 74 دولاراً في 2025، مع توقعات بوصوله إلى 66 دولاراً في 2026 نتيجة زيادة الإنتاج من خارج دول «أوبك بلس».
هناك قيود وتحديات منها الرسوم الجمركية التي أثرت على واردات الصلب (المستخدم في أنابيب التنقيب) في فبراير (شباط) 2025 على تكاليف الإنتاج المحلي.
توازن السوق: إذا انخفضت الأسعار بشكل حاد جداً (أقل من 55-60 دولاراً) فقد تضطر الشركات الأميركية إلى تقليص منصات الحفر، مما قد يؤدي لاحقاً إلى نقص في الإمدادات وارتفاع الأسعار مرة أخرى.
باختصار، تسعى الولايات المتحدة لزيادة العرض العالمي لضمان أسعار معقولة تدعم اقتصادها الداخلي، وتحد من نفوذ الدول المنافسة، لكنها تواجه تحدي الحفاظ على سعر لا يضر بربحية شركاتها النفطية.
يبقى انخفاض سعر النفط، في ظل اضطرابات جيوسياسية حول العالم ومعدلات تضخم هائلة، مسألة مثيرة للقلق، خصوصاً أنها تتحدى مسلمات اقتصادية ثابتة.
















التعليقات