ظل الأميركيون «لا يعرفون» من سيكون رئيسهم رغم مرور «شهرين» على آخر انتخابات رئاسية شاركوا فيها.. لكن.. كان الروس «يعرفون» من سيكون رئيسهم قبل «عامين» من الانتخابات الأخيرة التي جرت في بلادهم. بسخرية خبيثة لا تخلو من الواقعية يلعن السياسيون الروس قوة الشخصية التي يتمتع بها سيد الكرملين «فلاديمير بوتين».. إن ضابط المخابرات السابق في النظام الشيوعي الأحمر المنهار لايملك سوى أن يضع الناس في بلاده أمام خيار صعب: الليبرالية والانتهازية أم السطوة المركزية والعدالة الاجتماعية ؟.

وفي بلاد عريضة عريقة مثل روسيا سيطرت عليها عصابات المافيا وأفسدتها وخربتها وأفقرتها وجوعتها وجد الناس أن رغيف الخبز وزجاجة «الفودكا» ووقود المدفئة ضرورة تسبق التسلية بلعبة «شد الحبل» بين الحكومة والمعارضة.. وهكذا.. منحوا «بوتين» ولاية ثانية.. كان برنامجه فيها مكونا من نقطة واحدة هي «التخفيف من حدة الفساد حتى القضاء عليه».

إن الفساد هناك هو مؤسسة سيادية وجماهيرية حاكمة ومسيطرة.. تبدو مثل عقد «الزواج العرفي» بين الشعب والحكومة.. مكروها ومقبولا.. مشروعا ومرفوضا.. يهاجمونه في النهار ويستسلمون له في الليل.. لقد أصبح الفساد مثل مواد اللحام اللاصقة التي توحد ما بين عناصر مختلفة ومتناقضة وتضع مصيرها في «كلبش» واحد.. اللص والضابط. الوزير والرقيب.. والمدير والمراجع. والمجرم والقاضي.. وكأن الفساد هو طفل الخطيئة الذي جاء بعلاقة غير شرعية بين النور والظلام.. بين السلطة السياسية والرغبة الشعبية. والطفل يكبر يوما بعد يوم.. وله الحق في الحياة رغم سوء السمعة الذي يطارده.. فشرعية الوجود شيء.. وكتم أنفاس كائن حي شيء آخر.

هكذا.. فسر «بوتين» نفسية الفساد بواقعية مؤلمة. وفسر بنفسه طبيعة البيئة الحاضنة والمنشطة له.
فالفساد في ظل الأزمة الاقتصادية التي عاشتها روسيا في أعقاب نهب المؤسسات العامة وتهريب خيراتها إلى الخارج وجد أنصارا له من كافة النوعيات والطبقات.. من يأكل الوجبة الرئيسية ومن لايجد سوى الفتات.. كما أن وجوده تضاعف في ظل ضعف مؤسسات الرقابة القانونية والمالية والمحاسبية والقضائية وتورط رموزها في شباكه سريعة الغزل. وقد وجد الفاسدون في ظل قوانين قديمة غائمة وغامضة ومتناقضة منافذ عريضة للخروج من أصعب القضايا كالشعرة من العجين..

ووجدوا في ظل تركيز السلطات والصلاحيات العامة والخاصة ما يجعل من السهل عليهم الوصول إلى ما يريدون بسهولة ويسر.. فهم يتعاملون مع عدد محدود من أصحاب النفوذ.. الذي يملكون كل شيء في أيديهم .. ويقبلون بالشراكة الخفية.. ويقدرون على وضع قواعد فعلية وواقعية للتعامل لا علاقة لها بالقواعد القانونية والإدارية. وأكثر من ذلك اكتشف بوتين أن الأخطر من الفساد الذين يحمونه.. أخطر من الفساد «مافيا» الثروة والسلطة التي تدبر الكمائن والمكائد لكل من يجرؤ على مواجهتهم أو كشفهم أو التشهير بهم.

أمام هذه الغابة من الديناصورات الشرسة القادرة على سحق كل شئ في طريقها، بما في ذلك من يحكم ويأمر وينهي، وجد «بوتين» أن عليه التدريب على صيد الحيوانات العملاقة بالبحث عن نقاط ضعفها.. بحث عن ما يسمي بكعب «أخيل».. كعب ذلك الشاب الذي أمسكت الآلهة بكعبه ووضعت جسده في ماء الحياة حتى لا يصيبه مكروه. وبالفعل.. غطى ماء الحياة جسمه كله إلا الكعب الذي كان بين أصابع الآلهة.. بقي نقطة ضعفه.. لا يمكن قتله إلا بسهم يصيب تلك المنطقة الصغيرة.

بحث «بوتين» عن كتيبة من القناصة الشرفاء الذين يطمئن إليهم ويثق فيهم كي يخرجوا معه لصيد الديناصورات من مناطق ضعفها.. ودون التعرض لبطشها.. وفي ظل جهاز بيروقراطي فاحت رائحته العفنة كان عليه أن يبحث عما يريد بوسيلة خاصة.. خفية.. لا تلفت النظر.. ولا تثير الغضب. ولا تحرض قوى الشر والفساد ضده.. وضد مجموعته التي لم يكن قد أختارها بعد.

لقد عاد الرئيس الروسي بذاكرته إلى الوراء باحثا عن رجال شرفاء خرجوا من كل اختبارات وإغراءات الفساد أكثر بياضا.. أصروا على أن يحافظوا على أنفسهم رغم قسوة الظروف وضغوط الحاجة.. عاد «بوتين» إلى دفاتره القديمة.. ووجد فيها رجلا من نوع خاص.. بحث عنه في كل مكان حتى عثر عليه.. بعيدا عن الوطن .. منفيا في وظيفة تتبع المفوضية الأوروبية.. يقضي أيامه الأخيرة في خيمة من الاكسوجين النقي.. غير الملوث برائحة الفساد العطنة.. العفنة.

كان «بوتين» ضابطا مميزا في جهاز المخابرات السري الرهيب (كي جي بي) الذي كان وسيلة الحكم الشيوعي السابق في السيطرة على الناس.. فعاشوا في ظله يتلفتون حول أنفسهم.. غير واثقين في أقرب الناس إليهم.وعندما تهشم الاتحاد السوفييتي. وتناثرت شظاياه.. طرد «بوتين» من «الخدمة» .. ولم يجد وظيفة أخرى تقبله.. وتسد رمقه.. سوى وظيفة سائق «تاكسي» .. وحتى يستطيع أن يخفف من صدمة ما جرى له.. عاد إلى مدينته الشهيرة بطرسبرغ.. ليكون في أحضان ما تبقى من عائلته.. وشيئا فشيئا بدأ يسترد مكانته ويرد اعتباره.

وفي تلك الأيام الصعبة جاء إليه رجل يطلب منه خدمة.. قطع تلك المسافة الطويلة بين موسكو وبطرسبرغ كي يتوسط إليه ليدخل ابنه الجامعة المجانية في بطرسبرغ.. فهو لا يقدر على مصاريف الجامعات الأخرى.. وعندما سأله: ولماذا لا تكون الواسطة في جامعة موسكو المجانية ؟.. أليست أفضل واقرب؟ قال الرجل: نعم هي أفضل وأقرب.. ولكن لا يحق لابني دخولها بمجموعه الضعيف الذي لا يناسب سوى جامعة بطرسبرغ..

فقال بوتين: إنني أملك واسطة تستثنى ابنك من شروط القبول في جامعة موسكو!.. فرد الرجل: لا.. لا أريد هذه الواسطة.. فليس من حق إبني أن يأخذ فرصة من هو أحق منه بدخول جامعة موسكو.. إنني فقط أريد واسطة تتيح له فرصة الحصول على ما يستحق.. فقد أصبحنا في مجتمع يصعب على المرء التمتع بحقوقه دون أن يمر بمؤسسة الفساد.. فقط أنا أريد حقي وحق ابني.

مرت سنوات وسنوات اختفى فيها الرجل هو وابنه الذي درس وتخرج في جامعة بطرسبرغ.. وخلال تلك السنوات لمع نجم «بوتين» من جديد. ووجد نفسه مرة أخرى في عين السلطة.. لكن.. كل مواهبه السابقة كرجل مخابرات.. وكل صلاحياته اللاحقة كرئيس للحكومة لم تمكنه من مواجهة ديناصورات الفساد.. فكل مسئول شريف يختاره سرعان ما يضعف.. ويتلوث.. ويستسلم فالفيروس أشد فتكا من كل ما هو متاح من مناعة ..

وعندما وجد نفسه في السلطة للمرة الثانية تذكر ذلك الرجل الذي لم يملك مالا ينفق به على ابنه في الجامعة، والذي رفض في الوقت نفسه أن يغتصب ابنه فرصة طالب آخر.. طلب من أجهزته البحث عن ذلك الرجل.. وبعد فترة من الزمن عرف أن الرجل يعمل في مفوضية الاتحاد الأوروبي في بروكسل. فاستدعاه على الفور .. وطلب منه أن يبحث عن ثلاثين شخصا مثله.. تتوافر فيهم المواصفات والصفات نفسها.. وهز الرجل رأسه وانصرف.. ومرت شهور طويلة لم يظهر فيها الرجل.. ولم ينفذ ما وعد به.

وعندما عاد رجال «بوتين» يبحثون عن الرجل وجدوه أمامهم وهو يحمل ملفات تغطي وجهه.. وعندما استقبله بوتين قال له: إنه لم يجد - بعد كل هذه المدة - من قناصة الفساد سوى نصف العدد المطلوب.. وقدم له كل شيء عنهم في الملفات التي كان يحملها.. ولم يتردد رئيس الحكومة الروسية- الذي كان يبدأ فترة رئاسية ثانية- في أن يصدر قرارا بتعيين هؤلاء الرجال وزراء في حكومته الجديدة.. بعيدا عن «فبركة» التقارير الرسمية التي يعرف أكثر من غيره أنها لا تصلح إلا لتحطيم الرجال..

فبوتين نفسه استرد بريقه عندما سرب - وهو رئيس لمكتب الأمن الاتحادي عام 1998 - شريط فيديو للنائب العام في ذلك الوقت «يوري سكوراتوف» وهو يقضي سهرة حمراء مع امرأتين محترفتين.. وكان النائب العام خصما للرئيس الروسي «يلتسين» الذي تعرض منه لتوجيه اتهام بالفساد له ولعائلته.. وما أن عرض شريط الفضيحة على شاشة التلفزيون الحكومي حتى قدم «سكواتوف» إستقالته..

وكان أول مرسوم يوقعه «يلتسين » بعد ذلك ينص على منح الحصانة القانونية لنفسه ولعائلته ضد أي اتهام مهما كان.. ولم يمر العام حتى جرى تقديم بوتين كخليفة لمن في السلطة.. ولم يتقبله الناس إلا بنسبة اثنين في المئة. لكن.. سرعان ما قفزت النسبة إلى سبعين في المائة بسبب شهرته العريضة في مواجهة الفساد.

لقد نسي الشعب الروسي القسوة التي قمع بها المتمردين في الشيشان والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف.. نسوا تلك الوحشية.. وتذكروا للرجل أنه أعاد إليهم بعضا من خبزهم الذي خطفه ديناصورات الفساد.

والقصة كلها رواها يفيغيني بريماكوف - رئيس الوزراء الروسي السابق - لوفد من رجال الاعمال والتجار المصريين كان يزور موسكو مؤخرا.. وهي قصة طريفة.. تستحق أن نتسلى بها.