حديث «الديمقراطية الإنسانية»

بدأ الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أطروحته في مؤتمر «أولويات الإصلاح في العالم العربى» الذي انعقد في القاهرة بين 5 و 7 يوليو المنصرم، بالتحذير من صيحات الديمقراطية الآتية من الغرب، لأنها من ناحية تعبر عن سيطرة رأس المال، ومن ناحية أخرى لأنها واقعة تحت تأثير الإعلام وإلحاحه. وبدلا من هذه الديمقراطية المعيبة، طرح عضو مجلس الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين، ما سماه بالديمقراطية «الإنسانية» تمييزا لها عن ديمقراطية الغرب المتوحشة.
ولكن ما أن ندلف إلى تفاصيل الإصلاح السياسى المطروح من أهم الجماعات السياسية في العالم العربى، حتى نجدها تقوم أولا، على صندوق الانتخاب. وثانيا، على أساس «المواطنة». وثالثا على النظام الديموقراطي، من برلمان وأحزاب وتعددية كاملة. ورابعا على المساواة الكاملة بين كل فئات المجتمع. ولا يكتفى رجلنا بذلك، وإنما يفعل ما يفعله كل سياسى أو فيلسوف ليبرالي غربي، عندما يستشهد بالفيلسوف السياسى توماس هوبز، وليس واحدا من الفلاسفة العرب، الذي حذر من علو شأن «الدولة» حتى تصير مثل الديناصور (الحقيقة أن هوبز تحدث عن الدولة التنين ولكن المعنى واحد على أية حال) على شأن الأمة، مما يستوجب تقوية الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية.
وإذا كان الأمر كذلك، فما هو الجديد من حيث الأدوات والآليات السياسية، ما يجعل ديموقراطيتنا «إنسانية» أكثر من غيرها، حيث لم يرد في الأطروحة، ولا غيرها من الأطروحات، ما يقول لنا إنه سوف يتم التغلب على تأثير المال، والإعلام، بأساليب جد مبتكرة عن تلك التي تم اختراعها في الغرب. ولعل قضية الاقتراب أو عدم الاقتراب من الفكر الغربي، في موضوع، يقلق كثيرا. ولكن ما هو أدعى إلى القلق، أن المسكوت عنه في الخطاب الإسلامي، يجعل المسألة كلها تحتاج لمراجعة جادة. فلا يوجد في الأدب السياسى الإسلامى الحديث، مقدمة في الديمقراطية «الإنسانية» تقول لنا ما الذي جرى في الدولة الإسلامية السابقة على الدولة الغربية، ومنعها من التوصل إلى هذا النظام السياسى. وإذا كان التاريخ ونقده وتقييمه ليس موضوعنا، فما هو التقييم، استنادا إلى المعايير المطروحة، للتجربة «الديمقراطية» الإيرانية، والتجربة الديمقراطية الأفغانية في ظل حكم طالبان، والتجربة «الإخوانية» في السودان.
القضية هنا ليست تسجيل مواقف على نظم «ديمقراطية إنسانية» سابقة وحاضرة. وإنما أن الإنسانية تبدأ دوما بالقدرة على نقد الذات، والقدرة على تقييم ما سبق وما لحق، والمراجعة لموضوع ملح على كل الساحات العربية والإسلامية، والتصريح بما خفي، لأنها تقوم على «الإنسان» الفرد، صاحب المشيئة والإرادة الحرة. ولذا، فإن التحذير من دولة توماس هوبز التنينية، لا يكون من الخوف من الطغيان على «الأمة»، وإنما الخوف من الطغيان على الفرد. وهنا تحديدا، ينفتح الستار عن أمور هامة مسكوت عنها، وهى علاقة «الأمة»، التي هى كيان جمعي تماما مثل الدولة، بالفرد، والأقلية من الافراد الذين ينتمون إلى روابط أخرى عرقية ودينية. ولا ينفع هنا كثيرا، ما جاء في القاعدة التي تقول في الديمقراطية الإنسانية «إن لهم ما لنا وعليهم ما علينا»، لأن معنى ذلك أن «الأمة» قد قررت، وما على البقية من الجماعات السياسية والاجتماعية إلا السمع والطاعة.
القضية هنا لدى عبد المنعم أبو الفتوح، هي بين الدولة والأمة، وليست بين الاغلبية التي تتغير طوال الوقت والزمن، والأقلية التي تتغير بدورها مع الموضوع والقضية، والتي تشكل صميم النظام الديموقراطي في صورته الغربية المعروفة، أو حتى في صورته «الإنسانية» غير المعروفة، وإلا انتفى وجود الديمقراطية في المقام الأول. فالصورة التي تبرز هنا، أننا قد ننتهى من طغيان الدولة حتى نصل إلى طغيان الأمة، وسحق الفرد ومشيئته الحرة، خاصة أنه سوف يبدأ النظام السياسى بالدولة التي ستقرر له قيم المجتمع ومبادئه وأعرافه، ثم ينتهى بعد ذلك، بصناعة «الإنسان» و«صياغته الصياغة الربانية السليمة»، وذلك كله من خلال التقاليد التعليمية لحركة الإخوان المسلمين.
ولذلك، فربما لا توجد هناك صدفه أن الإصلاح التعليمى يقع على رأس «الإصلاح الشامل من المنظور الإسلامى». وعندما تبحث عن ذلك، سوف تجد أن ما تحت هذا العنوان يمثل أركان النظرية الغربية في التعليم المتصل باحتياجات المجتمع، والتعليم المستمر الذي لا ينقطع، والمشجع على الحوار، والقدرة على القول «نعم» و«لا» عندما يجب القول. وليت مثل هذا المنظور - إسلاميا كان أو غير إسلامى ـ كان مطبقا في الدول العربية الخليجية، التي قام فيها الإخوان المسلمون بالفعل بقيادة العملية التعليمية منذ منتصف الخمسينيات وحتى منتصف التسعينيات، حينما اكتشفت هذه الدول أن أبناءها لم يتعلموا الكثير. ولم يكن ذلك بالضرورة لتقصير من معلمي الحركة، وإنما الفكر الإخواني كانت له وجهة نظر في الإنسان، لا تؤدى بالضرورة لتحقيق القيم المذكورة أعلاه الخاصة بالعقل والحرية.
فالأصل في النظرية الديمقراطية الغربية أن الإنسان غير مكتمل الفضيلة، وأن وظيفة المجتمع، والمجتمع السياسى تحديدا، أن يوظف أفرادا غير مكتملين من خلال القانون، والتفاوض الاجتماعى، والعمل من خلال ذلك لتحقيق التقدم الفردي والتقدم الاجتماعي معا. أما نظرية الفرد الإنسان لدى عبد المنعم أبو الفتوح والفكر الإخواني عموما، فهي أن هذا الإنسان قابل للاكتمال من خلال «وضع حاجات الإنسان على أساس سليم»، و«تهذيب اختياراته ورغباته» و«عدم الإلحاح عليه بالآلة الإعلانية الساحقة; كى يستبد به سعار الاقتناء والاستهلاك الذي لا يتوقف عند حد، ويدفع ما لا تحمد على عواقبه من أفعال». هنا، فإن صاحب المشيئة الحرة، يتم تطعيمه من كل الأمراض الاجتماعية، وتعقيمه تماما من كل النوازع الشخصية، وتعليبه تماما في حالة من الاكتمال الأخلاقي.
والمشكلة هنا، أن مثل هذا الإنسان الذي تمت صناعته وصياغته وتدريبه وتهذيبه، ليس هو ذلك الإنسان الديموقراطى القابل للحوار، والاختيار، والتفاعل مع الآخرين من خلال عملية اجتماعية وسياسية ترى أن الرأى يحتمل دائما الصواب والخطأ. وعلى العكس، فإن مثل هذا الإنسان سوف تكون لديه حالة من الإحساس الخاص بالتفوق الاخلاقي على كل ما عداه. وهو في سعيه الدائم إلى الاكتمال، والكمال، لن يرى في الآخرين إلا ما يستوجب التغيير بوسائل سلمية أو قاهرة. فما حدث فعلا من خلال نظام طالبان في أفغانستان، هو أنهم حولوا تصنيع الإنسان الجديد الذي لا يعرف الفتنة من الإعلام، أو من التعليم، أو من الشارع. وكان هذا الإنسان هو الذي خاض الحرب ضد كل الحركات «الإسلامية الإنسانية» الأخرى، لأنها لم تصل بعد إلى الحالة الكاملة للصناعة والصياغة. وبالتأكيد، فإن الإخوان المسلمين ليسوا مثل طالبان، ولكن القضية ليست الحركة السياسية، وإنما هي المنهج، وطريقة التفكير، والإيمان بالوصاية على الإنسان حتى يعرف الطريق الذي لا طريق غيره!

الكاتبرئيس مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية