اذا صحت المعلومات عن اعتزام الامم المتحدة العمل بنفس المقترحات حتى بعد استقالة بيكر اما عبر وسيط دولي آخر او من خلال امساك الامين العام للملف بنفسه فان حظ المقترحات لن يكون في غيبة صاحبها (بيكر) افضل مما كان وهي بين يديه.
من نافلة القول ان خطة جيمس بيكر عبرت المسافة المستحيلة بين ارضاء المغرب ومطالبه وارضاء الجزائر وجبهة "بوليساريو" في مرحلتين او في صيغتين منها. وهي مسافة مستحيلة لأن الخطة لم تنجح - وانى لها - في الجمع بين مصلحتين على طرفي نقيض في الوقت نفسه أي في نص سياسي واحد وانما عرضت نفسها في صيغتين متعاقبتين مختلفتين اتت كل واحدة منهما تظهر مطالب طرف دون آخر. في الصيغة الاولى وضع بيكر خطة "الاتفاق الاطار" التي حاولت الخروج من مأزق الامم المتحدة السابقة - القاضية باستفتاء سكان الصحراء على خياري الانضمام للمغرب او الاستقلال - الى صيغة قيام حكم ذاتي موسع في الصحراء ضمن اطار السيادة المغربية. اما في الصيغة الثانية - المعدلة - فجرى اسقاط السيادة كمرجعية للحل السياسي ووضعها في عداد الاحتمال من خلال توسيع صلاحيات السكان في المرحلة الانتقالية وعدم اعتبار الحكم الذاتي حلا نهائيا وانما انتقاليا.
لم تكن الصيغة الاولى لترضي الجزائر وجبهة "بوليساريو" لانها رسمت مطافا اخيرا لمطلب حق تقرير المصير (الحكم الذاتي الموسع) لكنها ارضت - الى حد - موقف المغرب الذي لم يكن دائما ضد صيغة الحكم الذاتي حتى حينما كان يدافع عن حقه في الانضمام الكامل لاقاليمه الصحراوية الى الوطن. ولقد سبق للملك الحسن الثاني - منذ ما يزيد على عقدين - ان لمح الى مثل هذا الخيار حين قال ما معناه: "اتركوا لي العلم والطابع البريدي وما تبقى قابل للتفاوض". وعلى ذلك فان الصيغة تلك كانت تطمئن المغرب على سيادته على اقاليمه الصحراوية وعلى وحدة ترابه الوطني.
اما الصيغة الثانية (المعدلة) فلا ترضي المغرب لانها تمس وحدته وسيادته لكنها تشفي بعض غليل الجزائر: على الاقل حين تعدها بان الحكم الذاتي ليس نهائيا وتفتح امام "بوليساريو" افقا نحو الانفصال والاستقلال في دولة بعد ان خسرت الحرب وكادت تخسر المعركة السياسية في الامم المتحدة (خطة بيكر الاولى).
وفي الحالين لم يكن في وسع جيمس بيكر ان يمخر بخطته عباب الاعتراضين المطوقين اياها من طرفين وموقفين قصيين. وارتفع معدل مأزقه اكثر حين عبرت الادارة الامريكية والحكومة الفرنسية عن رغبتيهما في عدم فرض أي حل سياسي على اطراف النزاع الامر الذي حول وساطته الى محض استمزاج رأي تلك الاطراف. من تحصيل الحاصل ان يقال في هذا المعرض ان مأزق خطة بيكر - منذ استلم ملف الصحراء المغربية في عام 1997 - هو عينه مأزق خطة الامم المتحدة في عهد بطرس غالي وقبلهما ادارة "منظمة الوحدة الافريقية" للملف قبل انسحاب المغرب منها. انه: عدم تعيين اطراف الازمة تعيينا موضوعيا صحيحا ودقيقا. ظل "الجميع" - في المحافل الاقليمية والدولية - يعرف طرفي النزاع بانهما المغرب وجبهة "بوليساريو". ولم يكن ذلك صحيحا في نظر المغرب ليس لان "بوليساريو" انتهت عسكريا منذ هزيمتها في مطلع الثمانينات ونجاح المغرب في اقامة الجدارات الامنية الست التي حيدت مدن الصحراء المغربية ومراكزها من الحرب وعزلت منطقة "تحرك" مقاتلي "بوليساريو" في منطقة الشرق والجنوب الشرقي الصحراوي وليس لانها انتهت سياسيا: منذ تعرضها لنزيف كوادري حاد بالتحاق معظم قادتها واطرها بالمغرب منذ منتصف الثمانينات بل لان انتقالها من قتال - اسبانيا حين كانت محتلة لاقليمي الساقية الحمراء ووادي الذهب - وحسبانها ذلك القتال نضالا من اجل التحرير وعودة الصحراء الى الوطن الأم (المغرب).. الى قتال المغرب واعتباره "محتلا" واعلان "جمهورية صحراوية" على الورق انما جرى في ذروة نزاع جزائري - مغربي على النفوذ الاقليمي: المغاربي والافريقي وفي امتداد طموح الجزائر البومدينية الى توفير منفذ بحري على الاطلسي يكون ممرا قريبا - من المنفذ المتوسطي - من مصادر الطاقة المستخرجة من مناطق "حاسي الرمل" و"حاسي مسعود" كما في سياق احتضان الجزائر لجبهة "بوليساريو" بعد مقتل زعيمها ومؤسسها مصطفى الوالي (الذي كان ضد الانفصال) وايلولة قيادتها الى محمد عبدالعزيز: الموالي للجزائر.
ليست الحاجة الى تعيين طرفي النزاع تعيينا دقيقا والقول انهما المغرب والجزائر حاجة لانصاف المغرب او حتى لقول الحقيقة (وهي كذلك كما يعترف بها قادة "بوليساريو" حينما يغادرون الجزائر) وانما هي حاجة الى توفير شروط حل سياسي حقيقي للنزاع. فالذي سيترتب عليها - ابتداء - هو دعوة المغرب والجزائر الى الدخول في مفاوضات مباشرة برعاية الامم المتحدة او حتى دون رعاية احد للوصول الى اتفاق سياسي يرعى مصالح المغرب الثابتة ويأخذ مطالب الجزائر في الاعتبار. ودون هذه المفاوضات المباشرة لن يكون في وسع أي حل سياسي ان يولد ويستقر خاصة وان القوى الكبرى نفسها تسلم بانه لا حل سياسي سيفرض من خارج اطار المفاوضات. ليس معنى ذلك ان المغرب يتهرب من التفاوض مع "بوليساريو" بتعريفه النزاع نزاعا بينه وبين الجزائر. لقد فاوضها في مراكش حين كانت ارادة تسوية النزاع متوفرة عند الرئيس الاسبق الشاذلي بن جديد. ثم فاوضها في اطار مخطط الامم المتحدة: وخاصة في موضوع مناقشة معايير احصاء السكان الذين يحق لهم التصويت. لكن المغرب يعرف و"بوليساريو" تعرف والجزائر كما الامم المتحدة تعرفان ان جبهة "بوليساريو" لا تملك قرارها وان من لديه الحل والربط في المسألة هي الجزائر ما تقبله هذه تقبله الجبهة بالتبعية. وهي حقيقة يكفي للدلالة عليها ان أي طرف دولي يتدخل في مسألة الصحراء المغربية (الامم المتحدة، الولايات المتحدة، فرنسا، اسبانيا) يطرق باب الجزائر العاصمة كما يطرق باب الربط ويفاتحهما في التفاصيل وهي حقيقة حرية بأن تدفع الجهد الدولي المبذول لتسوية النزاع الى اعادة المسألة الى نصابها الفعلي وحث طرفي النزاع (الجزائر والمغرب) على الدخول في مفاوضات للوصول الى حل سياسي.