يختار العرب الأمريكيون، في العادة، التصويت لصالح مرشحي الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة. درجوا على ذلك لعقود عديدة، ولهم أسبابهم في ذلك الاختيار. ولعلها المرة الأولى على ما تفيد بذلك نتائج استطلاعات الرأي التي ستمسك فيها أغلبية الناخبين العرب عن ممارسة العادة تلك. ولذلك أيضاً أسباب تفسره.

ما كانت سياسات الحزب الجمهوري الداخلية أفضل حالاً من مثيلتها لدى الحزب الديمقراطي، لا بل هي أسوأ على غير صعيد. فالديمقراطيون كانوا على الأقل أكثر تسامحاً في سياساتهم مع الأقليات من منابت قومية أخرى، والعرب الأمريكيون في جملتها. وسياساتهم الضريبية أقل وطأة على كاهل الطبقات الوسطى ومعظم عرب امريكا ينتمي إليها من سياسات جمهورية ما كان يهمها ان تراعي سوى مصالح الأثرياء وفئات المال والأعمال. ومع ان سياسات الحزب الجمهوري لا تمثل لديهم أي اغراء على صعيد مصالحهم وحقوقهم داخل المجتمع الأمريكي، إلا ان الناخبين العرب محضوا المرشحين الجمهوريين تأييداً، واقترعوا لصالحهم. وثمة سببان رئيسيان في جملة أسباب عديدة يبرران ذلك الذي يبدو لنا “مفارقة”:

* أول السببين ان الحزب الديمقراطي شديد التعاطف مع “اسرائيل” وكبير الانحياز الى سياساتها ضد الفلسطينيين والعرب. ويفسر ذلك حجم التأثير الذي للجماعات اليهودية الصهيونية في توجهات الحزب ومواقفه، وحجم النفوذ في هيئاته ومؤسساته، وهو حجم لا يترجم نفسه في الداخل الحزبي فسحب، بل أيضاً وأساساً في الولايات التي تكون الحاكمية فيها لديمقراطيين، او في البيت الأبيض حين يدخله رئيس ديمقراطي.

* وثاني السببين، وهو مرتبط بالأول، ان الحزب الجمهوري بدا باستمرار أقرب الى “تفهم” مطالب العرب وحقوقهم من منافسه الديمقراطي، وأقام رجالاته علاقات واسعة، سياسية واقتصادية، مع بعض الدول العربية وخاصة مع دول الخليج العربي. وكان ذلك تحصيل حاصل لمصالح أصحاب شركات النفط الأمريكيين الذين هم قريبون من الحزب في المنطقة العربية.

ولم يختلف موقف الرأي العام في الوطن العربي عن رأي معظم العرب الأمريكيين من الحزبين إلا في انه ما كان معنياً كثيراً بالسياسات الداخلية للحزبين مثل العرب الأمريكيين الذين تعنيهم في حياتهم اليومية وفي معاشهم، والأمر نفسه ينطبق على موقفهما اليوم ضد المرشح الجمهوري: يرفضه العرب الأمريكيون لسوء سياساته في الداخل الأمريكي، وخاصة في مسائل الأمن والتضييق على حريات العرب والمسلمين، ولسوء سياساته تجاه قضية فلسطين والعراق ومجمل القضايا العربية. بينما يرفضه الرأي العام العربي بسبب سياسات إدارته تجاه القضايا العربية حصراً.

لكن المرء يخشى من ان تكون الرغبة العربية في رؤية الديمقراطيين ينجحون في طرد جورج بوش من البيت الأبيض مجرد رغبة في تعزية النفس وفي الانتقام لكرامة عربية امتهنتها سياسات بوش وفريقه المتطرف المتصهين في الإدارة الأمريكية. ومرد الخشية هذه الى انها اذ ترى في عودة بوش شراً مستطيراً وهي كذلك تمسك عن رؤية مثالات لتلك السياسة في برنامج جون كيري والحزب الديمقراطي كما عرض نفسه في مؤتمره القومي في بوسطن خاصة برنامج سياسته الخارجية وعلى نحو أخص ما اتصل منها بقضيتي العراق وفلسطين ومكافحة الارهاب.

فرق عملة هو الفرق بين سياسة بوش وبرنامج كيري حيال قضايانا العربية. قد يكون كيري أقل سوءاً من بوش تجاه العراق، ولكن بمقدار: قد يرفع مستوى التنسيق مع الأمم المتحدة ويمنحها دوراً سياسياً أكبر في العراق، لكنه لن يتخلى عن قيادة امريكا ل “القوات متعددة الجنسيات” ولن يسحب جيش الاحتلال من العراق. وقد يكون غير معني مثل بوش باستئناف المغامرة العسكرية ضد سوريا او ايران، لكن هذه المغامرة لم تعد واردة حتى بالنسبة الى بوش بعد غرق جيشه في المستنقع العراقي. وفي كل حال، لن تنتهي الضغوط الأمريكية المختلفة على سوريا ولبنان والسعودية بمجيء كيري الى سدة الرئاسة.

لكن بوش على فظاعة سياساته تجاه الشعب الفلسطيني لم يغامر بالحديث عن القدس باعتبارها “عاصمة ابدية ل “اسرائيل””، كما يعلن جون كيري، وما زال يردد القول بأنه لن يقبل بالضغط على “اسرائيل” لتقديم تنازلات تضر بمصالحها، ناهيك عن ان عدد الصهاينة المحيطين به ليس أقل من عدد المحيطين ببوش، وتأثيرهم في رسم سياسته حيال قضية فلسطين ليس أقل من تأثير الأخيرين في رسم سياسة بوش.

سيقول قائل، لكن فريق بوش المحافظ والمتطرف لا سابق له في السوء في تاريخ الإدارات الأمريكية، وهذا صحيح، لكننا نتساءل هل هذا التطرف لازمة لذلك الفريق حصراً أم بات سمة عامة للسياسة الأمريكية منذ 11 سبتمبر/ أيلول 2001؟ من جهتنا نعتقد ان الفارق بين الجمهوريين والديمقراطيين أمسى كالفارق بين “ليكود” وحزب العمل في “اسرائيل”. وعليه، فالمراهنة على أي منهما في مرتبة القمار.