كانت هناك، وما زالت، حاجة لـ«تدخل» عربي في العراق، فالأوضاع تزداد سوءاً في هذا البلد، وأطراف اللعبة السياسية فيه عاجزة ليس فقط عن اخراجه من محنته، بل إن هذه الأطراف وعلى التفاوت والتباين بينها، تبدو بغير مشروع سياسي واضح السمات، بما في ذلك الحكومة الموقتة التي تشكلت في 28 حزيران (يونيو) الماضي.
هناك بطبيعة الحال، شرعية تمثيلية لهذه الحكومة بما يميزها عن غيرها من قوى و«سلطات»، وتتمتع هذه الحكومة بغطاء دولي من مجلس الأمن، ولم يعد الاعتراف بها عربياً محل نزاع أو مساومة، كما كانت عليه الحال مع مجلس الحكم السابق. غير أن حكومة اياد علاوي ما زالت تبدو، وبعد خمسة أسابيع على تشكيلها، وكأنها تجاهد لانتزاع وحدانية تمثيلها وتكريس ولايتها السياسية، ليس لافتقادها مصادر السلطة والنفوذ الكافية فحسب، بل لأنها لم تستطع التقدم بخطوات إلى أمام عما فعله مجلس الحكم، سواء بالتفاعل مع الجمهور، أو بصوغ برنامج سياسي متماسك وجاذب، فيما تحولت المقاومة إلى مقاومات وإلى جماعات، وبدا نشاطها متجهاً بالدرجة الأولى إلى تفجير السيارات المفخخة في مراكز الشرطة، أو إلى خطف أجانب وعرب، وحيث يسهل اتهام كل من يعمل في العراق في أي قطاع بخدمة الاحتلال، لمجرد التعامل مع الأمر الواقع القائم. أما المشروع السياسي لهذه الجماعات فهو غائب، بل إنها تتصرف وكأن لا حاجة لمثل هذا المشروع المعلن، إذ أن جل اهتمامها يتركز على وينحصر في تقويض الوضع القائم بأشد الوسائل ايذاء وفتكاً، حتى لو كانت النسبة العظمى من الضحايا هي من المدنيين، والخسائر المادية تلحق بالمرافق والممتلكات المدنية العامة والخاصة.
أما قوة الاحتلال فتنعم بالسطوة والسيطرة وكأن شيئاً لم يتغير، باستثناء نقل السلطة المدنية إلى الحكومة الموقتة، فليس هناك من برنامج زمني للانسحاب، أو حتى لإعادة انتشار، ويجري استغلال تدهور الوضع الأمني من أجل التمديد التلقائي لوجود القوة المحتلة ولآجال طويلة غير معلومة.
هناك إذن مأزق متفاقم أمني وسياسي واقتصادي، والطرف الخاسر هم العراقيون، الذين يفتقدون إلى الأمن اليومي، وإلى الأمل بحياة طبيعية في ظل نظام تمثيلي لا يتوسل البطش لاستمراره في الحكم. ودول المنطقة تخسر أيضاً، فالتبادل التجاري مع العراق يتقلص، ولا فرص لليد العاملة والاستثمارات في هذا البلد أو لسياحة العراقيين في دول الجوار، والمخاطر السياسية تكبر، فمصير البلد مجهول والتنازع عليه بدا يظهر للعيان، لدى إيران وتركيا مثلاً، أما العرب فكل منهم ينتظر ما الذي سيقدم عليه الطرف الآخر.
لم يعد العراق «عمقاً» للأردن ودول الخليج، و«سنداً» لسورية، وخرج من رصيد القوة العربية، حتى لو كانت هذه القوة مكبلة وتعوزها الإرادة السياسية لتثميرها. وإذ يدور هذه الأيام جدل حول إسهام عربي وإسلامي في ملء الفراغ الأمني، فإن بعض هذا الجدل، يتغاضى عما يعتري الكيان العراقي من اهتزاز في هذه المرحلة، بحيث يتعذر اسعافه بايفاد ارتال من الجنود الجدد فقط، وإن كانت هذه المسألة تستحق طرحها والنظر إليها.
ولهذا أبدت دولة رئيسة مثل المملكة العربية السعودية، استعداداً مبدئياً ومشروطاً لتبني فكرة ايفاد قوات وليس أكثر من ذلك. وربما بأمل فتح نقاش أكثر جدية حول البيئة التي يتعين توفيرها وارساؤها، كيما يكون هذا الاجراء مجدياً وآمناً.
الشرط السعودي الأول، وكما نقلت وكالات الأنباء مساء 29 تموز (يوليو)، هو أن تتشكل القوة الإسلامية والعربية وتباشر مهماتها بمعزل عن قوات «التحالف المتعددة الجنسية» ومن دون إمرة القيادة الأميركية. ومن الواضح أنه تم تداول هذا الاقتراح مع الوزير كولن باول ورئيس الحكومة الموقتة اياد علاوي، اللذين تواجدا معاً في السعودية في الفترة المشار إليها.
وأهمية هذا الاقتراح أنه يكسر قواعد الوضع القائم. فمن جهة، فإنه لا يعطي للقوة الغربية حق القيادة، خصوصاً أن السلطة انتقلت إلى العراقيين، الذين باتوا يتمتعون بسيادة رمزية أو مبدئية، وهو من جهة ثانية، يستجيب للطلب الحكومي العراقي بايفاد قوات عربية وإسلامية، لكن الجديد في الأمر أن أحد بلدان الجوار هو الذي تقدم بالاقتراح، على رغم التحفظ العراقي على استقبال قوات من دول الجوار.
وفي تقدير المراقب أن الرياض أبدت اقتراحها المذكور، من أجل كسر الحلقة المفرغة، وللحؤول دون أن يبقى العراق رهينة للصراع بين القوة التي ما زالت محتلة، وبين الجماعات المتطرفة غامضة الهويات، وإن كانت أهدافها ومراميها على قدر من الوضوح، وتتركز على منع قيام نظام وطني تمثيلي جديد، تحت طائلة تقويض كل شيء، وحرمان أية سلطة جديدة من إقامة أية علاقات مع دول العالم بما في ذلك الدول العربية والإسلامية. علماً أن المضي في مثل هذه المقاومة، لن يؤدي إلى أي انسحاب للقوة المحتلة، ومن شأن بقائها منح مسوغات لاستمرار هذه الجماعات في التحكم بمقاليد الأمن. فيما تتعرض القوة الأمنية الذاتية لمزيد من الاستهداف، حتى يبقى السلاح واستخدامه بيد هذه الجماعات فقط.
إن القوة المحتلة في هذه الظروف لن تعمد إلى الانسحاب قبل أقل من أربعة أشهر على الاستحقاق الانتخابي الرئاسي في الولايات المتحدة. والدعم السياسي الذي حظيت به الحكومة الموقتة، حتى قبل قيام علاوي بجولته الأخيرة، لن يكون كافياً لتغيير المعادلات. بينما لم تنجح مؤتمرات دول الجوار، وآخرها في القاهرة، سوى في السعي إلى الحد من أي تداعيات سلبية قد تنال دول الجوار أو «الساحة العراقية» من حدودها.
أمام ذلك، فإن الاقتراح السعودي جاء ليوقف الدوران في الحلقة المفرغة. وليمنع تحويل بلاد الرافدين إلى رهينة بيد القوة الغربية والجماعات المتطرفة، ويشكل دعماً ملموساً ليس لحكومة اياد علاوي حصراً، بل لمنطق المرحلة الانتقالية التي يتعين أن لا تظل نهباً لفراغ أمني يملؤه الآخرون بأسوأ صورة، وأشدها إثارة للمخاطر.
يمثل الاقتراح لا شك اختباراً للإدارة الجمهورية في شهورها الأخيرة قبل الانتخابات، فمغزى الاقتراح هو تشكيل قوة لحفظ السلام في المرحلة الانتقالية، وليس ايفاد مزيد من القوات للعمل تحت امرة قيادة أميركية، خاضت حرباً مطعوناً في شرعيتها. فإذا كانت واشنطن عازمة على اخراج العراق من محنته، وعلى تخليص قواتها من المأزق وتجنيب الإدارة ذاتها محاكمة العالم والداخل الأميركي لها، على سلوكها منذ البداية وحتى أيام الناس هذه، فإنه لا مفر من رؤية الأمر بمنظور جديد واتاحة الفرصة أمام العالم العربي والإسلامي، من أجل استعادة العراق كدولة حرة ومسالمة تقيم علاقات تعاون مع محيطها ودول العالم، وذلك بعيداً عن جدل بيزنطي حول دور الأمم المتحدة في الرعاية والقيادة. فلم يعد مطلوباً الآن اضفاء المزيد من الطابع «الدولي» على قوات التحالف، بل احلال قوات بوظيفة جديدة تساعد على اتمام السيادة وتتعامل مع العراقيين كأشقاء لأفراد هذه القوة المقترحة، وكأصحاب وطن يجب احترامهم وحمايتهم، وهو ما يتطلب ابتداء انسحاب القوى المحتلة من المدن والتجمعات السكنية، لإحلال واقع أمني وسياسي جديد.
ومن أجل نجاح هذه الفكرة، فلا بد للحكومة العراقية وهي تواصل تعاونها مع الولايات المتحدة كقوة عظمى، أن تكف عن النظر إليها كأب مُخلِّص، ذلك أن الخلاص يأتي بالاستجابة لمطامح العراقيين، في الحرية والأمن، وفي التقدم إلى مصالحة وطنية لا تستثني بعثيين، وإن كان لا محل فيها لمن اقترفوا جرائم... مع استعادة خطاب السيادة من خاطفيه، وجعله خطاباً رسمياً وثابتاً للحكومة والدولة، وعدم الركون إلى سيادة ناقصة تكتمل تلقائياً!
إن توفير هذه البيئة يساعد على استقدام قوة عربية وإسلامية، خصوصاً إذا ما جاء المطلب باستخدامها من الحكومة من المؤتمر الوطني المزمع في منتصف آب (اغسطس)، بعد التأجيل الذي طرأ على موعد انعقاده، وبحيث يمكن إعادة الاعتبار لكل ما يمكن أن تؤديه منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية، من دور في «الملف العراقي» وبالتعاون مع الأمم المتحدة، وذلك بعد الإفلاس السياسي للإدارة الجمهورية، وفي ظل جهود الجماعات المتطرفة المتناسلة لصوملة البلد، حيث لم تنفع مغادرة القوات الأميركية لذلك البلد الافريقي، في وقف تمزيقه ووضعه على هامش البلدان، بعد أن ابدع أمراء الحرب في تقطيع أوصاله ونهب خيراته، والخشية الشديدة أن يتكرر ذلك في العراق.