خلال فترة وجيزة من الزمن تسلق موضوع إرسال قوات مصرية إلي خارج البلاد قائمة الموضوعات المطروحة للنقاش العام ليصل الموضوع بسرعة إلي رأس القائمة‏,‏ النقاش حول الموضوع تميز بأنه لايلف ولايدور حوله‏,‏ بل يركز مباشرة علي ثلاثة اماكن مرشحة لارسال قوات مصرية إليها‏:‏ العراق وقطاع غزة ودارفور في السودان‏.‏

وبرغم ان القيادة المصرية نفت في كل من الحالات الثلاث وجود نية لإرسال قوات إلي الخارج‏,‏ فإن الاجابة بالنفي لم تقض تماما علي الأصداء الناجمة عن طرح الاسئلة وبإلحاح لم يتوقف‏,‏ وأول مايلفت النظر من الناحية الجغرافية‏,‏ وقوع الاماكن المرشحة لارسال قوات مصرية إليها علي محاور تقليدية معروفة للأمن القومي المصري‏,‏ دارت عند بعضها أو بالقرب من تخومها معارك مصرية سابقة في الماضي القريب أو البعيد‏,‏ قطاع غزة مثلا يقع علي المحور الأمني الشرقي بكل تاريخه المعبأ بالتهديدات الإسرائيلية والحروب العربية ـ الإسرائيلية المتتابعة‏,‏ اما العراق فيقع علي المحور الممتد إلي الخليج بأهميته المتزايدة الاقتصادية والبشرية والاستراتيجية بالنسبة لمصر خلال العقدين الماضيين‏,‏ أما السودان فتقع علي محور الجنوب الممتد إلي منابع النيل‏,‏ حيث وحدة السودان واستقراره يصبان مباشرة في أمن مصر بحكم الجوار المباشر‏,‏ وبحكم المشاركة في نهر النيل الخالد‏,‏ شريان الحياة والوجود لمصر وشعبها الذي فاق تعداده سبعين مليون نسمة‏.‏

وبعيدا عن الحروب التصادمية دفاعا وهجوما التي خاضتها مصر ضد إسرائيل في اعوام‏48‏ و‏56‏ و‏67‏ و‏73‏ من القرن الماضي‏,‏ ارسلت مصر قوات مسلحة إلي مناطق خارجها في حالات معينة لدعم الاستقرار والأمن في هذه المناطق استجابة لحسابات تربط بين هذا الهدف ومصالح مصرية حيوية صارت مهددة‏,‏ أو انفتحت امامها فرص سانحة للنمو والتطور أو بدافع الاثنين معا في الوقت نفسه وفي كل الحالات المعروفة للخروج بالقوات خارج البلاد لم تكن حسابات القيادة في مصر سهلة‏,‏ ولم تكن ايضا هذه الحسابات ونتائجها بعيدة عن التقييم الشعبي العلني‏.‏ والمؤدي عادة في النهاية إلي خليط معقد من التأييد والرفض‏,‏ وقد ظهر ذلك بجلاء في حالة ارسال قوات إلي اليمن في‏1962,‏ وعند المشاركة في حرب الخليج في‏1991,‏ وفي الحالتين‏,‏ وليس لليمن والكويت حدود مشتركة مع مصر‏,‏ اتخذت القيادة قرار ارسال القوات طبقا لحسابات معينة انتهت إلي نتيجة مفادها ان حجم التهديد الماثل أو الفرص المتاحة تستوجب اتخاذ مثل هذا القرار‏,‏ وأن النكوص عنه وإيثار السلامة سوف يرتب أوضاعا قد تفاقم من قدر التهديد‏,‏ أو تطيح بالفرص المتاحة وتتركها لقمة سائغة للآخرين‏,‏ وأسوأ من ذلك ان تتحول الفرص المهدرة إلي مصادر تهديد مستقبلية بسبب انتهاز الآخرين لها‏.‏

وعلي المستوي الشعبي والاكاديمي انقسم الرأي في الحالتين بين مؤيد يري في ارسال قوات إلي اليمن دعما ضروريا للأمن المصري عند الطرف البعيد للبحر الأحمر‏,‏ وإدارة واعية مسئولة لتحولات اجتماعية وسياسية في المنطقة قد يصب تجاهلها في خانة الفوضي وعدم الاستقرار‏,‏ وفي ارسال قوات إلي الخليج درءا لانهيار امني شامل في منطقة حساسة قد تدفع مصر بسببه ثمنا باهظا اقتصاديا وسياسيا‏,‏ وبين رأي معارض يري في الذهاب إلي اليمن استدراجا للقوة المصرية بعيدا عن العدو الرئيسي وسببا مباشرا لهزيمة‏1967,‏ وفي الذهاب إلي الخليج صورة من صور التبعية للهيمنة الأمريكية وإشعالا لحرب عربية ـ عربية لن تستفيد منها إلا الولايات المتحدة وإسرائيل‏,‏ وفي الحالتين وبرغم كل الانتقادات‏,‏ كانت النتائج السياسية والاستراتيجية بالنسبة لمصر كبيرة وكان مابعدها مختلفا عما كان قبلها‏.‏

وقد حدث بالاضافة إلي ماسبق مشاركات مصرية أخري تحت مظلة الأمم المتحدة في أوروبا البوسنة وافريقيا الصومال وغير ذلك من الاماكن‏,‏ لكن لم يدر حول هذه المشاركات جدل واسع بالتأييد أو الرفض بسبب بعدها الجغرافي وانخفاض الجانب الصراعي فيها‏,‏ ومع ذلك كان أثرها عظيما‏,‏ فقد اتاحت العديد من الفرص الاستراتيجية والاقتصادية‏,‏ وتعتبر المشاركة المصرية في الخليج والبوسنة والصومال الأقرب إلي نمط استخدام القوة خارج الحدود الوطنية في حقبة التسعينيات وحتي الآن‏,‏ من حيث ميله أكثر لأن يكون جماعيا وبحضور فعال من قوي غربية أوروبية وأمريكية‏,‏ وقد جاء ذلك متماشيا مع نتائج الحرب الباردة وانتصار الغرب فيها‏,‏ ومعاناة اقاليم كثيرة شرقا وغربا من تقلصات التفكك والانفصال عقب سقوط الاتحاد السوفيتي وانهياره‏,‏ واستخدام القوة بهذه الصورة الجماعية يندرج تحت وصف إدارة الازمات وإعادة البناء ولاينظر إليه بالمقاييس الدولية برغم الجدل الدائر حوله علي أنه تدخل استعماري‏,‏ ويمكن النظر إلي الدور المصري في تلك الفترة المهمة من زوايا متعددة‏,‏ لكن اقربها إلي الواقع أن مصر كانت مشاركة بالفعل في اعادة هندسة العالم‏,‏ كبر دورها في هذه العملية أو صغر وفي ز
من كان يكفي فيه أن يتردد اسم الدولة في الصحف والمجلات والكتب والتقارير الدولية وعلي شاشات التليفزيون وفي المحافل الدولية حتي تقبض فورا الثمن‏,‏ وفي تلك الفترة نجحت شخصيات مصرية متميزة في الوصول إلي مناصب مرموقة علي رأس العديد من المنظمات الدولية السياسية والاقتصادية‏,‏ وشطب عن كاهلنا اثقال من الديون‏,‏ وصرنا مقصدا للمنح والهدايا والمعونات‏,‏ وأصبحنا من بين المؤسسين لمشاريع اقليمية كبري في المتوسط والشرق الأوسط‏,‏ لقد كانت مصر في ذلك الوقت وسط الأحداث‏,‏ داعمة للاستقرار صانعة له بأيدي جنودها وخبرائها في أكثر من موضع علي مستوي العالم‏,‏ وفي تلك الفترة طورت القوات المسلحة بجانب ادوات التدريب المحترف علي تلك النوعية من المهام قدرات اتصالية واسعة‏,‏ تمثلت في انشاء معهد عملاق لتعليم اللغات الحية‏,‏ ومعاهد لتعليم الحاسب الآلي ونظم المعلومات والاتصالات‏.‏

ولاشك ان رياحا كثيرة قد هبت بما لاتشتهي السفن مع نهاية التسعينيات‏,‏ كان من نتائجها انهيار الثقة علي معظم الجبهات‏,‏ انهارت الثقة علي جبهة عملية السلام العربي ـ الإسرائيلي‏,‏ وانهارت الثقة مع أوروبا وأمريكا لتخليهما عن مصر في معركتها ضد الإرهاب التي حاربته وحدها وسط جهل غربي مشين بخطورة التهديدات التي تتعرض لها مصر ودول المنطقة‏,‏ وافترقت الطرق عندما أصرت القوي الغربية علي تبني معايير مزدوجة في مواجهة انتشار اسلحة الدمار الشامل‏,‏ واضطرت مصر إلي خوض معارك دبلوماسية ضد الولايات المتحدة لمنع المد الابدي لاتفاقيات منع الانتشار بدون نظرة عادلة للأوضاع في الشرق الأوسط‏,‏ ولقد خلفت هذه المواجهات جراحا مفتوحة‏,‏ ثم جاءت احداث‏11‏ سبتمبر لتؤجل ميعاد شفاء الجروح وعودة الثقة المفقودة إلي أجل بعيد‏,‏ ولقد انعكس مناخ عدم الثقة علي المشاركة المصرية ـ الغربية بعد ذلك في أكثر من موقف‏,‏ برز في تحفظ مشاركات مصر في الحملة ضد افغانستان‏,‏ ورفضها ارسال قوات إلي العراق‏,‏ وفتور حماسها للحوار والتعاون مع حلف الناتو‏,‏ ومع ذلك يمكن القول إن سياسة حكيمة كانت دائما هناك‏,‏ لم تقطع شعرة معاوية مع الولايات المتحدة والغرب‏,‏ وكان أفضل وصف للحالة هو قول معاوية نفسه‏:‏ اذا شدوا ارخينا واذا ارخوا شددنا نحن‏.‏

ومنذ شهور قليلة بدا في الافق ان هناك متغيرات جديدة طرأت علي الصورة قد تفتح الطريق إلي تحرك مصري سياسي ـ أمني علي محاور الاهتمام‏,‏ مع تأكيد المباديء نفسها الاساسية‏:‏ ان التحرك‏,‏ بصرف النظر عن نوعه‏,‏ يأتي استجابة لتهديد يجب درؤه قبل أن يستفحل أو لفرصة تتراقص عن بعد يجب انتهازها قبل أن تضيع‏,‏ مع تكرار الاشارة إلي أن نمط التحرك في كل الأحوال سوف يتم وسط منظومة دولية جماعية‏,‏ حكومية وغير حكومية‏,‏ ففي حالة قطاع غزة مثلا من المتصور أن مصر سوف تطور تحركها بالتنسيق مع اطراف كثيرة منها الرباعية وأمريكا فضلا عن الاطراف المحلية والعربية‏,‏ وفي دارفور لن تتحرك مصر وحدها بل وسط زخم عربي افريقي دولي مزدحم بالمنظمات الدولية وغير الحكومية الانسانية وغير الانسانية‏,‏ وفي العراق أيضا‏,‏ وهي الأزمة التي لم تصل بعد تماما إلي نقطة النضج‏,‏ فسيكون التحرك لو حدث وسط قوي غربية واقليمية وبالتنسيق معها‏,‏ ويجب ألا ننسي أن مصر نظرا لأهميتها هي العضو الوحيد في مجموعة الدول المحيطة بالعراق بدون أن يكون لها حدود مشتركة معه‏.‏

ومن أهم المتغيرات التي طرأت علي الصورة فشل الحملة العسكرية الأمريكية علي العراق في تحقيق اهدافها كما تخيلتها الولايات المتحدة من البداية‏,‏ ووصول الاطراف هناك إلي حالة من الإرهاق يجعلهم أكثر استعدادا للاستماع إلي نصائح الآخرين‏,‏ وينطبق هذا الوصف ايضا علي الوضع الفلسطيني ـ الإسرائيلي مع اختلاف في التفاصيل‏,‏ حيث تحول المشهد هناك إلي فوضي عارمة لاتقل عن الفوضي الضاربة في المشهد العراقي‏,‏ وكان الوضع في السودان مرشحا لمثل ذلك لولا ظهور إرادة دولية وعربية وافريقية للتعامل مع الفوضي قبل شيوعها‏.‏

والمتغير الثاني يتمثل في بزوغ رؤية عربية ـ إسلامية ـ غربية مشتركة مازالت في طورها الجنيني تقر بأن الإرهاب خطر مشترك‏,‏ وأن النزاعات الاقليمية يجب أن تحل أولا‏,‏ وأن الأسلحة النووية وباقي اسلحة الدمار الشامل يمكن ان تتحول إلي كارثة للجميع‏,‏ وأن مسائل الاصلاح والتحول في المنطقة العربية والإسلامية تمثل هدفا سوف يتكاتف الجميع علي تحقيقه‏,‏ لقد اصبح العمل مع العالم شعارا مرفوعا للمرشح الديمقراطي الأمريكي في الانتخابات الرئاسية القادمة‏,‏ ومثله يرفع نفس الشعار المرشح الجمهوري‏,‏ أما المتغير الثالث فهو تبلور مشروع دولي لاعادة تأهيل وتحديث واصلاح الشرق الأوسط بتعريفه الواسع من اجل دمجه مع العالم‏,‏ وهي عملية تؤمن بها كل القوي الكبري باختلاف مشاربها بما في ذلك الصين وروسيا واليابان‏,‏ ومن المتوقع أن يكون للمشروع مثل كل المشاريع الكبري المماثلة‏,‏ جانبه الأمني والعسكري للتعامل مع القوي والجماعات الرافضة لهذا التحول لأسباب ايديولوجية أو سياسية‏,‏ والتحدي الآن مطروح علي المنطقة وعلي جيرانها ومن المتوقع أن يكون خيار مصر المشاركة في اعادة تشكيل العالم مرة أخري كما حدث من قبل من خلال اسهامها الفعال مع الآخرين في اعادة تشكيل المنطقة التي تقع هي في مركزها‏,‏ وهناك ارهاصات كثيرة لمن يدقق النظر تشير إلي ذلك‏.