يشكل المهاجرون من أصول شرق أوسطية في الدول الغربية عبئاً على المجتمعات التي يعيشون بداخلها، أو المجتمعات التي توصف بـ (المضيفة). ويرد ثقل هذا العبء إلى إشكالية الهوية، حيث تلعب عملية النقل والاستزراع من مجتمع لآخر دوراً فظيعاً على نفوس المهاجرين، حتى وإن كانوا من الجيل الثاني أو الثالث، بمعنى أنهم ابناء أو أحفاد المهاجرين الأصليين. وإذا كان الكثير من مواطني بلدان الشرق الأوسط يحسدون أقرباءهم وأصدقاءهم المهاجرين في بلاد الغربة والإغتراب ويتمنون، في أحيان كثيرة، اللحاق بهم أو الحصول على فرص مشابهة لفرصهم من أجل شد الرحال، فإن حقيقة ما يعانيه (وربما يخفيه) المهاجرون تبدو شديدة الاختلاف والاختلاط: فربما هم الذين يحسدون ابناء بلدانهم الأصلية لأنهم لم يخلعوا أنفسهم ولم يقطعوا جذورهم لهاثاً وراء سراب حلم لم يبلغه إلاّ القليل القليل من هؤلاء المهاجرين. وهنا تتبلور المفارقة.
لقد ارتحل المهاجرون من الجيل الأول (ربما منذ نهاية القرن التاسع عشر) إلى دول القارات الأوربية والأميركية والاسترالية جرياً وراء لقمة العيش، وليس بنية الاستقرار. وكان الحلم الحقيقي الذي يراودهم يقتصر على تكويم كمية كافية من المال ومن ثم العودة للوطن الأم على سبيل تحقيق نقلة اجتماعية لهم ولعوائلهم الفقيرة. وكان الحلم آنذاك يتجسد في العودة لفتح مطعم أو متجر صغير أو حانوت لبيع المواد البسيطة. بيد أن هؤلاء الرواد الأوائل من المهاجرين وجدوا أنفسهم في كماشة الحياة الغربية الجديدة، غير قادرين على الإفلات منها وهم يؤملون النفس في تحقيق مرادهم من سنة لأخرى، دون بلوغ ذلك، حتى بعد أن استبدلوا أسماءهم، فصار آل حداد مثلاً، آل بلاكسميث، وصار ميخائيل مايكل.
أما في الجيلين الثاني والثالث (بين بدايات القرن العشرين ونهاياته)، فقد أضيف إلى صيادي الثروة والباحثين عن المال من المهاجرين نوع آخر، وهم الناقمون والهاربون السياسيون الذين وجدوا أنفسهم بين اختيارين لا ثالث لهما: أما الاستسلام للواقع المحلي القسري، أو البحث عن الأمان في أرض أجنبية. وقد وجد هؤلاء في الدول الغربية ملاجيء آمنة لهم، تحميهم من سطوة الحاكم القاسي وأجهزته البوليسية في بلدان الشرق الأوسط التي غالباً ما كانت تعاني من هذا النوع من بعض الحكومات الاستبدادية. لذا تنسم العديد من هؤلاء المهاجرين هواء الحرية والديمقراطية والرأي والرأي المعاكس في البيئة الغربية التي لجأوا إليها، ليس بسبب وجود حرية مطلقة، وإنما بسبب عدم اكتراث المجتمعات الغربية بالقضايا والمشاكل التي كانت تؤرق المهاجرين. وهذا ما يفسر انتشاء الثقافات الشرق أوسطية (الإسلامية والعربية وسواهما) في الدول الغربية حيث وفّر غياب البوليس السري وغياب الرعب والخوف أجواء مواتية للإبداع الفكري وللكتابة الحرة ولممارسة الفنون بحرية. لذا عاش السياسيون المهجريون والشعراء والكتّاب الخياليون هناك ثم ماتوا وهم في حسرة رؤية مساقط رؤوسهم، حالمين بالعودة إلى أوطان اجتثت أنظمتها جذورهم منها لترميهم إلى مجتمعات غريبة مختلفة يصعب للمرء أن يذوب بداخلها أو أن يتأقلم معها.
هكذا بقي جميع المهاجرين (من النوعين الأول والثاني)، وبتتابع الأجيال التالية من أبنائهم وأحفادهم، يعانون من أزمة هوية ومأزق الاختلاف عن سكان البلدان المضيفة الأصليين. وهناك ثمة دلائل كثيرة ومتنوعة تؤشر مثل هذا المأزق النفسي والاجتماعي الذي يشرخ النفس، تلك النفس التي تجد نفسها ممزقة: بين عالم الوطن الذي لا يمكن أن يموت، وعالم الوطن الجديد الذي لا يريد أن يولد. أما الحديث المتواتر عن منجزات جبارة وإستثنائية حققها المهاجرون، فإنه حديث مردود: فكم هو عدد الذين حققوا إنجازات استثنائية تستحق الرصد والتعميم بداخل مهاد غربي مختلف وقد يكون معاديا. ان هؤلاء الذين حققوا ثروات كبيرة وامتلكوا الشركات والأموال والرساميل لا يمثلون سوى قلة تعد بعدد الأصابع. أما هؤلاء الذين يعتقدون بأنهم قد حققوا منجزات فكرية كبيرة، بسبب أجواء الحرية التي عاشوها في الغرب، فإن منجزاتهم الفكرية والثقافية لم تتجاوز البروز بحسب المعايير المحلية الضيقة في الشرق الأوسط، وليس بمقاييس الدول الغربية. وبإستثناء جبران خليل جبران وعدد محدود من المفكرين والكتّاب من أمثال إدوارد سعيد، لم يحقق مفكرو المهجر إنجازات فكرية يمكن أن تضاهي أو تنافس النتاج الفكري الغربي في البلدان المستضيفة. لم نقرأ في تواريخ الآداب والثقافات الغربية لشعراء من أصول شرق أوسطية يمكن أن يوضعوا بمصاف شعراء تلك البلدان الغربية. على العكس من ذلك، لقد كان الغرب وثقافته يحترمان النتاج الفكري الشرق أوسطي الآتي صوته من بلدان ومجتمعات الشرق الأوسط نفسها، وليس من البلدان الغربية التي تستضيف المهاجرين ثم تنتزع جنسياتهم الأصلية لتستبدلها بجنسيات جديدة. لذا تحترم الثقافة الغربية نتاجات من نوع (ألف ليلة وليلة) بوصفها من معطيات عالم شرقي منفلت من الزمان والمكان، عالم نصف أسطوري ونصف واقعي. وتنطبق ذات الحال على الاستقبال الغربي الكبير لرباعيات الخيام ولقصائد عربية وتركية وهندية منتقاة، بسبب ما تنطوي عليه من حكمة وخبرة بالحياة الشرقية، وهي الخبرة التي منحت هذه النتاجات الثقافية نكهتها وذوقها ودلالاتها الفكرية. لم يعجب الغرب على نحو واضح بهؤلاء الشعراء المهاجرين المتنقلين بين مقاهي باريس وبارات لندن، وإنما عبّرت الثقافات الغربية عن إعجاب أصيل بالتصوف وبالفكر الفلسفي العربي الإسلامي الآتي من الشرق مباشرة دون أن يمر ببلاد المهجر وبعواصم الصناعة والتقنيات.
هذا ما لا يتحدث عنه المهاجرون وما يكرهون الإشارة إليه، خاصة وأنهم يعتقدون بأن توافر وسائل العيش (الاعتيادية في الغرب) هو كل ما يكفيهم في هذه البيئات الغربية (العدائية أحياناً). لقد نحى المهاجرون منحيين في غالب الأحوال، وهما: المنحى الانغماسي، والمنحى الانكماشي. أما المنحى الأول، فإنه يتمثل في هؤلاء الذين حاولوا نزع جلدهم الثقافي والتراثي الأصلي من أجل نسيان (ما يخجلون منه) في ثقافتهم الأصل وبالدرجة الكافية لأن يذوّبوا أنفسهم مرتمين في مياه البيئة الغربية الجديدة حتى النخاع وحتى اعتناق أديان تلك الدول، بديلاً عن أديان آبائهم وأجدادهم. وأما المنحى الانكماشي، فإنه هو الآخر يعاني من عدم القدرة على الذوبان في المجتمع الغربي الجديد، بالدرجة الكافية للارتجاع المتعامي لإرثهم الثقافي، بما يحمل من سلبيات وإيجابيات، حتى أنهم لا يقبلون بالاختلاط وبالتصاهر مع ابناء الدول المضيفة، مفضلين إستيراد زوجات لهم ولأبنائهم مشحونات من مناشئهم الأصلية بالطائرات. هؤلاء يمثلون إشكالية الهوية في مجتمعات المهجر بأقوى أشكالها، حيث ان عجزهم عن التأقلم في المجتمعات الجديدة قد تسبب لهم بـردود أفعال عنيفة ومؤلمة يمكن أن تصل حد الانتماء للمنظمات الارهابية أو الارتماء في أحضان العصابات أو المتخصصين من صيادي أمثال هؤلاء على سبيل استغفالهم واستعمالهم لأغراض مؤقتة ولأهداف سياسية أو قانونية.
وإذا ما قلب المرء الصورة، فإنه سيعجب لمعطيات هذه المنظومة الجدلية: فنحن لم نرَ في دولنا، بالشرق الأوسط، مهاجراً ألمانياً أو فرنسياً أو أميركياً. الألمان والفرنسيون والأميركان يأتون إلى الشرق الأوسط كممثلي شركات وكخبراء وأساتذة ومدربين وصحفيين، إن لم يأتوا إليه على الدبابات كغزاة ومحاربين يريدون الإفادة، ليس منا، بل من ثروات المنطقة التي وجدنا أنفسنا نعيش بداخلها. وهنا تكون المفارقة واضحة المعالم بين عالمين وإرادتين، العالم الأول، عالم مزدحم بالاختناقات والاختلالات بدرجة طرد أبنائه إلى عالم الآخر؛ والثاني، هو عالم متقدم ومتحضر، يستثمر اخفاقاتنا ليبقينا حبيسين بداخل بيت الشيطان الذي ينسجه عنكبوت الظلام والظلم والقساوة وعدم احترام الإنسان وحقوقه.
إن أفضل ما يمكن للجاليات الشرق أوسطية الموجودة في الغرب أن تفعله هو أن تخدم كجسور ثقافية واقتصادية كي تحقق لنفسها تعريفاً اجتماعياً مقبولاً هناك وهنا. لذا يكون الازدواج الثقافي واللغوي أداة لبناء الجسور وليس لتحطيمها، لبلوغ نوع من التواصل بين الشرق والغرب بدلاً عن تغذية التناقض والتنافر. إنه لواحد من أكثر القضايا أهمية اليوم، وتحت ظل ما يسمى بـحملة مكافحة الإرهاب، أن تقدم الجاليات المهجرية شيئاً من الأمل لبناء أواصر التفاهم والحوار على سبيل رفع المفاهيم الخاطئة والصور المشوهة التي طورها الغرب عن عالمنا الشرقي عبر عصور من غياب الحوار واختفاء قنوات التلاقح الثقافي والحضاري.