العدو هو الآخر. ان شرط معرفة الآخر هو ادراك أن علاقتنا بهذا الآخر، لا تتأسس بداية، ولا تنحصر نهاية، في كونها علاقة معرفة وتعرّف، أي علاقة موضعة لهذا الآخر كما لو كان الآخر صورة يبتدعها ذهننا ليس إلا. ان العلاقة بالآخر هي علاقة مواجهة، فوجودي اعتباري مقارنة بأصالة وجود الآخر، وكلّ واحد منا يحيل الى كائن آخر، وهكذا، الى ما لا نهاية، فنحيل جميعاً الى اللامتناهي.
العدو هو الآخر. العلاقة مع الآخر هي علاقة مواجهة، وفاتحتها أن تنظر الى آخرك هذا، وجهاً لوجه، العين في العين. شرط هذه المواجهة أن تستمد كل يقينياتك من حضور الآخر وليس من أعماق نفسك كما تزعم، فالموت نفسه هو أمر تدركه من تجربة موت أناس آخرين، وتحديداً من خلال علاقتك بتجربة موتهم، وللتحديد أكثر فأكثر، من خلال قناعتك بأنك قادر على اماتة كائن آخر ما. انك قادر على وضع حد لحياة هذا الذي تنظر في عينيه، وجهاً لوجه. شرط امكان النظر في عين الآخر هو أن يكون بامكانك فقأها، وأن يكون بامكانك أيضاً ترويض هذا الاغواء القاتل، فالعين بالعين شرط الامكان لنظرة العين في عين الآخر.
العدو هو الآخر. ألا يكون الآخر هو عينك، أن يكون بامكانك معاينة الآخر، ألا يكون الآخر هو أنا آخر كما يقول ايمانويل ليفيناس، فكل هذا مبتدؤه أن يكون بامكانك مناصبة هذا الآخر العداء أو مبادلته الصداقة، وفي الحالتين، يكون الأفق المسيّر لهذه العلاقة، هو امكان فقئك لعين الآخر.
العدو هو الآخر، والطريقة التي نسارع بها الى التدليل على ذلك، تعمد الى توظيف أفكار الفيلسوف الأخلاقي التلمودي في النطاق الفرنسي، ايمانويل ليفيناس، لايضاح أفكار الفيلسوف السياسي الألماني الكاثوليكي المحافظ والمتصل بالنازية، كارل شميت. لم يدخل كلاهما الى المكتبة العربية بعد، ولا تأثر بهما الفكر العربي، مع أن البلاغة العربية تكثر فيها الشعارات والنعوت حول العدو والآخر أو ما يعادلهما، كما لو كان lt;lt;العدوgt;gt; في ناحية، والآخر في ناحية أخرى تماماً. ان باب الاستفادة من العملين الرائدين لlt;lt;التلموديgt;gt; ليفيناس والlt;lt;نازيgt;gt; كارل شميت، هو اعادة تفكّر هذه العلاقة بين العدو والآخر، على أساس أن العدو هو الآخر، وكي يكون الآخر كآخر عني وليس كأنا آخر ينبغي أن يكون بامكاني تصنيفه عدواً أو جعله صديقاً، ولو بعد طول عداء.
يمكن الحدس منذ الآن بأهمية الثنائي ليفيناس وشميت في عصر تعبنا فيه من انشطار الكتابات العربية بين التفنن في كيل النعوت الشتمية للعدو من جهة، والبحث المجهد والمتكلف عن نعوت امتداحية للآخر، وحيث يدان صاموئيل هانتنغتون على مدار الساعة، وكما اللازمة، اما لأنه مدبّر مؤامرة صليبية لغزو حضارتنا (أين هي؟) بالنسبة الى الفريق الأول، واما لأنه مدبّر فتنة كبرى للتفريق بين الحضارات بالنسبة الى الفريق الثاني الذي ليس له غير تدبيج المقالات ورعاية الأمسيات، اسرافاً في ملهاة lt;lt;حوار الثقافاتgt;gt;. في جميع الأحوال، تأتي النعوت لتنكل بشبهة الأفهمة وامكانها فيستحيل العدو مجرد نعت، والآخر مجرّد نعت. كلاهما نعت lt;lt;عنقوديgt;gt;. فمن النعت الأول، تتسلسل مفردات التضاد والصراع، ومن النعت الثاني تتسلل مفردات الحوار والمنافسة.
لكن ماذا لو فكرنا لحظة بأن lt;lt;العدو هو الآخرgt;gt;؟ ماذا لو عدلنا عن التوهم بأن مفهومي العدو والعداوة قد تجاوزهما الزمان أو أنه يحضر لتجاوزهما منذ الآن؟ قد نجد عندها حاجة الى lt;lt;الآخرgt;gt; عند ليفيناس مطبوعاً بامكان صيرورته lt;lt;عدواgt;gt; وفقاً لتحديدات كارل شميت.
هذه مسألة lt;lt;نظريةgt;gt; بامتياز. غير أنها حاجة lt;lt;عمليةgt;gt; جداً لتفكّر الصراع العربي الاسرائيلي وعموم النزاعات التي يمكن تصنيفها في خانة lt;lt;صدام الحضاراتgt;gt;. واذا ما اقتصرنا على الصراع العربي الاسرائيلي وحده، فسنجد صحراء الفكر العربي، وقد انقسمت بين مكابرة شعبوية تفتي بأنه lt;lt;صراع وجود لا صراع حدودgt;gt;، فرفض التسوية لا نقاش فيه قبل اتمامها (!!)، وبين نكتة ليبرالية، مسكوبة بقالب شعبوي هي الأخرى، وليس لها ما تقترحه، غير احلال معيار التنافس محل معيار العداء، كما لو كانت التسوية تنجز بالدبلوماسية واجراءات الثقة ليس الا، وكما لو كان ينبغي lt;lt;استكمال الصراعgt;gt; في نفس الوقت، بالمنافسة الاقتصادية الشريفة!!
أمام هذا التهافت في المنطق الليبرالي، نعود الى كارل شميت: lt;lt;تهيب وكن حذراَ ولا تتكلم بخفة عن العدو. نحن نصنف تبعاً لعدونا. يتحدد موقعنا بحسب ما نشخصه كعدو لنا، فالعدو هو الآخرgt;gt;.
ينبغي التمييز إذاً بين المساجلة ضد شعار من نوع lt;lt;لا صوت يعلو فوق صوت المعركةgt;gt; وبين تفكيك مفهوم العدو. التفكيك يقتضي التهيب، وليس الاكتفاء بلعبة النعت في مقابل النعت، تلك اللعبة التي تبرّر دوامها باسم التهرّب من الصلف النظري، فتزعم في المقابل صفة تمثيلية حصرية عن واقع يلفظها. اما أن تطرح اشكالية العدو في مستواها النظري أو لا تطرح، فهي ليست مشكلة دعاوية أو اعلامية. الا أن طرحها نظرياً يستدعي القطع مع الطريقة lt;lt;التطبيقيةgt;gt;، أي lt;lt;تطبيقgt;gt; نظرية ما على واقع ما. هذا الوهم التطبيقي هو في الواقع غير عملاني بالمرة، وكل ما يهمه التأمل التبريري لنظريته وهي تتراءى له في كامل صحتها وأناقتها عبر الواقع الذي يرنو اليها. كذلك لا بد من القطع مع مدّعي التجريبية باسم رفض التنظير، فهذا التجريبي حينما يدعو الى حسنات التجريب وقوته الفائقة يعود ويوهم نفسه بأن كل أسرار الواقع محفوظة في خلده وأن صدمة الوقائع تكتفي بايقاظها ليس الا، وترجمتها كنعوت. والحق أن أي نظرية مثل علبة أدوات، كما يقول جيل دولوز، فنحن لا نعود أبداً الى نظرية بل ننطلق منها على الدوام باتجاه انشاء أخرى. ومن هنا اشارة دولوز الى أن lt;lt;النظرية لا ترمي الى صيرورتها كلاً تمامياً بل الى التكاثر والتكثر، في حين أن السلطة هي التي تنحو الى صيرورتها كلاً تمامياً. النظرية في طبيعتها هي ضد السلطةgt;gt;.
وفقاً لهذه الروحية، يمكن قراءة كارل شميت في تحديده للمستوى السياسي، وتشديده على معيار التمييز بين العدو والصديق كمعيار حصري للسياسة وليس كتعريف ماهوي جامع لها، لأن أشكال العداوة والصداقة هي التي تتبدل تاريخياً، فيما يبقى كل تاريخ سياسي تاريخ تمييز بين العدو والصديق وانقلاب العدو صديقاً أو العكس. العدو والصديق على جانب من الملموسية، ولا ترجع ثنائيتهما الى استعارة مجازية، كما لا ينبغي تخفيفها بمزجها بمقولات اقتصادية أو أخلاقية أو خلافها. ولهذا، فقد ادرك شميت جيداً أن الليبرالية المأخوذة بين الفكر والاقتصاد قد حاولت اختزال العدو الى lt;lt;منافسgt;gt; من جهة الأعمال، والى lt;lt;خصمgt;gt; يجابه بالنقاش على صعيد الفكر. لا أعداء في الاقتصاد بل هناك منافسون، لكن لا منافسين في السياسة بل أصدقاء وأعداء يتراوح جميعهم بين امكانية أن يلغي عدو عدوه، أو امكانية أن يصير عدوك صديقك أو العكس. المواجهة السياسية ليست تنافساً اقتصادياً، وليس بالضرورة أن يكون عدوك السياسي مزاحماً اقتصادياً. وكما يذكّر شميت يمكن عقد صفقات اقتصادية ناجحة مع العدو. كذلك فالمواجهة السياسية ليست كالنقاش الفكري، وشميت يوافق على أن المواجهة السياسية تشي باستمرارية لحقب همجية بائدة. لكن هذا لا ينفي، بل يؤكد أن شعوباً ودولا تحدد موقعها ازاء أخرى صديقة أو عدوة.
العلاقات السياسية ليست ألعاباً أولمبية، ونحن نتحدد تبعاً لعدونا، فالسياسة ليست مباراة في العدو. لا عدّائين في السياسة بل أصدقاء وأعداء. صورة العدُو ليست صورة المزاحم أو الخصم. ولا هي صورة الندّ الشخصي الذي نمقته. يستند شميت الى الصراع الألفي بين الاسلام والمسيحية، ويقول ببساطة بالغة العمق، إنه لم يدر في بال مسيحي أوروبي واحد، أنه سيحب العرب أو الأتراك أو يسلمهم مفاتيح أوروبا لأن الانجيل أمره بحب أعدائه. العدو في المعنى السياسي للكلمة لا يفترض كراهية شخصية، وفي مجال الحياة الخاصة فقط يمكن لك أن تأتمر بالانجيل، وتحب عدوك، بل إن اللغتين اليونانية واللاتينية تقيمان تمييزاً واضحاً بين العدو العمومي hostis وبين الغريم الشخصي inimicus. ويضيف شميت أنه من الطبيعي أن نسقط على عدونا السياسي نعتاً أخلاقياً (شرير) أو جمالياً (بشع)، الا أننا لا نحاربه، لا لأنه شرير ولا لأنه بشع، اذ يمكن له دائماً أن يتحول الى صديقنا السياسي وعندها يصير جميلاً يسعى الى الخير في الدنيا ويطبق الفضيلة في داره.
في السياسة الداخلية للدولة الحديثة، تروض ثنائية العدو والصديق ولا تلغى أبداً، اذ تبقى الحرب الأهلية امكاناً افتراضياً لو تعطلت آلية عمل المؤسسات. هذا ما يمكن تلمسه من كون كل مقولات ومفاهيم السياسة تحمل طابعاً سجالياً، وتتقصد تضاداً ملموساً. فكما يقول شميت، ان كلمات مثل دولة وجمهورية ومجتمع وطبقة، بل أيضاً كلمات مثل سيادة ودولة حق وسلطوية وديكتاتورية وخطة وحياد، هي كلمات لا يمكن فهمها لو تجاهلنا من ترمي هذه الكلمات اما لمحاربتهم أو مواجهتهم أو ابعادهم أو تجاهلهم. بل يبرز الطابع السجالي في استخدامنا لمصطلح lt;lt;سياسةgt;gt; نفسه، فإما نقول إن الخصم lt;lt;غير سياسيgt;gt;، بمعنى أن لا خبرة له مع الملموس، وإما أن نحقر السياسي الذي فيه، فننزه أنفسنا في مستوى أعلى lt;lt;غير سياسيgt;gt; يكون lt;lt;أخلاقياgt;gt; محضا أو lt;lt;علمياgt;gt; أو lt;lt;قانونياgt;gt; أو lt;lt;جمالياgt;gt;.
ان معيار السياسة، هو امكان أن يتفجر أي صراع سياسي الى نزاع عسكري. الحرب هي التي تؤسس السياسي وليس العكس كما ظن كلاوزفيتس. الا أن الحرب ليست مع ذلك ماهية السياسة، فالسياسة في تعريفها ليست تنحو لا باتجاه الحرب ولا باتجاه السلم، الا أنها تبقى مستندة عضوياً الى الحرب، لا كجوهر أو هدف، وانما كفرضية، بل كواقع افتراضي يحكم السلوك السياسي من خلال الطابع السجالي الذي لا يمكن أن يتخلص منه هذا السلوك وان عمل على ترويضه وفقاً لشبكة المصالح والقيم.
كما لا يعني معيار الصديق والعدو لتحديد السياسة، أن شعباً ما سيكون عدواً أو صديقاً أبدياً لآخر، أو أن الحياد ليس ممكناً، بل يعني أن الحياد سيبقى مرتبطاً بالثنائية نفسها، فان لم يكن على الأرض سوى الحياد، فستكون النهاية ليس للحرب فقط، بل للحياد قبل كل شيء، ولكل سياسة، بما في ذلك سياسة تفادي النزاعات. ليس هناك غير عنصرين محددين: الامكانية الافتراضية لوضع الحسم أو النزاع المحقق، وفعل التقرير بما اذا كان وضع الحسم قد أصبح أو سيصبح واقعاً معطى أو لا. لقد خبر كارل شميت دائماً أن الاستثناء هو الذي يكشف عمق الأشياء. ان عالماً لا امكان فيه للحرب سيكون عالماً لا حضور أو مكان فيه للسياسة.
تتميز الحداثة السياسية بتنامي القدرة على ترويض ثنائية عداء وصداقة كما تتميز بتنامي القدرة على اطلاق العنان لهذه الثنائية. في هذا المسار المعقد، يصبح بالامكان التمييز بين عدو فعلي وعدو كلي أو مطلق. العدو الفعلي أو التقليدي هو العدو وفقاً للقانون الأوروبي الكلاسيكي للحرب، الذي يميز جيداً بين ما هو سلم وما هو حرب، وبين مقاتلين وغير مقاتلين، والأهم من ذلك أنه يميز بين العدو والمجرم، بحيث إن ابرام السلام في النهاية يكون منذ البداية هدفاً طبيعياً لهذه الحرب. في المقابل، فان العدو الكلي أو المطلق، هو عدو يجري اختزاله الى صورة المجرم، الخارج عن القانون، ويتفرع عن ذلك، تصدع التمييز بين مدني وعسكري أو بين حرب وسلم. ان الاشتغال على ثنائية العدو الفعلي والعدو المطلق يبقى أمراً مفتاحياً بالنسبة الينا اليوم، وهذا ما نقترح القيام به في سياق اعادة الاعتبار لمقولة العدو، على أن نتنبه منذ البداية الى أن الفارق بين عدو فعلي وعدو مطلق ليس كالفارق بين ما هو سياسي وما ليس بسياسي، وان كان التباس صورة العدو بصورة المجرم عند العدو المطلق مدعاة أشكلة تتبدل شروطها في كل حقبة.