قبل قرنين، كان الزمان غير الزمان، لهذا قال شاعر نافد الصبر، من لم يبن بيتاً حتى الأربعين من العمر فسوف يعيش بقية عمره في العراء. وكان على الناس أن ينتظروا زمناً تسارع فيه الإيقاع، واختصر العقد الواحد منه قرناً كي يكتب شاعر آخر، إن أجمل البيوت ما لم يُبن بعد، وأجمل الأغاني ما لم يُغنّ بعد، وإن المستقبل، لا الماضي، هو المجال الحيوي لإرادة الإنسان.


ويبدو أن متوسط عمر البشر قد تغيَّر إلى الحد الذي أصبح معه ابن الخمسين في ذروة شبابه، وابن السبعين على مشارف الحكمة. ومن شاهدوا د. نقولا زيادة على الشاشة وهو يتذكَّر بطلاقة ويحلم بإكمال مشروعه وقد تجاوز عمره القرن، لا بد أنهم تذكَّروا إيليا أبي ماضي، الذي عاتب الإنسان المتشائم بقوة، وهو يسأله: كيف تغدو إذا غدوت عليلاً؟

ويُقال إن العرب من أكثر شعوب العالم استخداماً لأفعال التَّسْويف، وكذلك المفاضلة، وذلك ليس لقصور فيهم كما يزعم المستشرقون، بل لأن فائض الخيال وفائض الحلم حتى لو كانا من نتاج الحرمان المزمن هما المولِّدان الرئيسيان لرهان الزمن، والإقبال على الحياة حتى لو بدأ الخريف يدق الأبواب بعنف.

وأحياناً لا نجد تفسيراً لما يسمِّيه النفسانيون الشخصية الادخارية إلا ذلك التفسير الذي يفرضه واقع اجتماعي ذو بعدين، سياسي واقتصادي، والعربي الآن تغيَّر متوسط عمره ككل البشر، ولم تعد الأمراض التقليدية تقتل الملايين وهم في المهد، فكم من الناس ماتوا بالحصبة، أو حتى بالحمى إذا أصابها السعار وألهبت السحايا.

لكن مأساة العربي في هذا الزمن أن العسكرتاريا شكَّلت له مناخاً يتنفس من رئاته التي يعلوها الصدأ، بدءاً من انكشارية العثمنة حتى انقلابات الجنرالات في النصف الثاني من القرن العشرين، وللعسكرتاريا متوسط عمر آخر، من طراز فريد، فالشيخوخة تأتي مبكراً حسب تقاليد الجيوش، ولأن المجتمعات العربية لم تتمدَّن بعد بما يكفي لتحريرها من ثقافة العسكر، فابن الأربعين عليه أن يكون متجهماً، ويشعر بأنه على تخوم القبر؛ فإن ضحك فهو أرعن، وإن استخفّه الطرب في لحظة ما يصبح هُزأة، لأن الوقار وفق هذه الأدبيات هو المعادل الموضوعي للكآبة والإدبار عن الحياة بدلاً من الإقبال عليها.

وكم شعرت بالأسى عندما قرأت ذات يوم ما كتبته امرأة برازيلية عن العربي الحزين، فقد قالت إنها تعرف الياباني والصيني من عينيه ولون شعره، وتعرف الإفريقي أيضاً من ملامحه.. لكنها تحزر العربي من عينيه الشبيهتين بعيني حصانه. فالحصان يبدو دائماً دامع العينين، أو على وشك البكاء، ربما لأنه يتذكر البراري التي حُرم منها، أو لأنه يتذكر بكثير من الأسى الحروب التي حسمها، أو العرسان الذين طاف بهم في القرى وتضمَّخ من عطر عباءاتهم.

ولم تكن تلك السيدة تعلم ما الذي تعرَّض له هذا العربي الجريح طوال قرون من تحالف الغزاة مع العلاقمة، وتحالف التخلُّف مع القهر، بحيث انحسرت في قلبه المساحة الخضراء وأصابه الهلع من المستقبل بذلك الفيروس اللعين الذي يحوِّل الحياة كلها إلى شيء مؤجل، لهذا فهو يفرط في استخدام السِّين والسَّوف، وتمتاز لغته بأن فعل الماضي فيها ناقص على الدوام.

وأحياناً يلجأ بعض المؤرخين إلى ما تفرزه المجتمعات من وثائق أدبية لكتابة تاريخ جوفي غير معلن. حدث هذا في المكسيك مثلاً، وجازف مؤرِّخ بكتابة تاريخ بلاده معتمداً على الوثيقة الأدبية، باعتبارها ذاكرة الوجدان أو تفكير القلب. وإن كان الراحل إميل حبيبي قد استبق الجميع إلى اشتقاق مصطلح “التشاؤل” وهو مزج كوميدي بين التفاؤل والتشاؤم، فذلك لأن العرب كلهم، وليس “سعيد أبي النَّحس” بطل روايته فقط، من يقطع الضحكة قبل استكمالها ومن يتعوَّذ من الشيطان إذا استرسل في ضحكة بريئة، لأنها قد تكون فألاً أسود ويعقبها شرٌّ ما.

لا يمكن لكل ما مرّ بنا، بدءاً من عصور الظلام والانحطاط، حتى ما وصفه ابن إياس في “بدائع الزهور” قد مرّ من دون أن يترك بصمات على القلب.
فالجوع لم يكن عابراً في صحارينا وعلى قمم جبالنا وحتى على شواطئ أنهارنا وبحارنا، لأننا على الدوام مسروقون.

والقهر لم يكن مجرَّد نوبة عابرة، بحيث ننساه لمجرَّد أن تزول أشباحه.
وما مضى لم يمض تماماً، فثمَّة ظلال وأصداء منه تترسَّب في القلب واللاوعي، ولهذا تنقطع ضحكة العربي فجأة كما يحدث لحصانه عندما يتلفت على نحو مباغت نحو جهة ما، أو حين يدقّ الأرض بحافره لأن غيمة ما أصابها مخاض المطر.

وبالرغم من كل ما حلّ بنا، وحاول استيطان قلوبنا قبل ترابنا وجبالنا ومائنا، فلن نقول مع ذلك الشاعر الذي نفد صبره مبكراً، من لم يبن بيتاً حتى الأربعين سيقضي ما تبقى من العمر في العراء، فالأنبياء في تاريخنا بدأوا في الأربعين، والنخل والزيتون لا تنعقد الثمار على أغصانهما بعد عام من غرس جذورهما في التراب.