**‏ يطرح اختزال الديمقراطية اليهودية في عهد شارون إلي حكم غالبية الليكود بدل حكم غالبية الإسرائيليين أسئلة عديدة متعلقة بآليات الحكم الديمقراطي‏,‏ خاصة حول العلاقة بين الحزب المنتصر في الانتخابات والحكومة‏.‏

هل تمثل الأخيرة الحزب الفائز في الانتخابات أم الشعب‏,‏ وهل يجوز أن يقصر استفتاء الرأي العام علي استفتاء قواعد الحزب الحاكم؟‏..‏ وحسم هذا السؤال في فلسفة الحكم يحدد إذا ما كانت الديمقراطية هي ديكتاتورية حزب واحد بين دورتي انتخاب‏,‏ وكلها أسئلة كانت ستكون طبيعية لو أن إسرائيل هي دولة ديمقراطية فعلا‏,‏ وإذا كانت للديمقراطية أصلا صلاحية للبت في قضايا الشعوب الأخري‏.‏ الديمقراطية الإسرائيلية هي ديمقراطية شعب الأسياد‏,‏ ديمقراطية كولونيالية‏..‏ ويجب أن تحسم هذه المسألة قبل الأمور المذكورة أعلاه‏.‏

وفي العام الأخير كثرت المؤشرات لاستفادة الموقف الكولونيالي الإسرائيلي من التعامل الدولي مع إسرائيل كديمقراطية‏.‏ فعندما يدفع التنافس في اطار التعددية الحزبية الإسرائيلية باتجاه اليمين تندفع دول عديدة في العالم معدلة مواقفها بالتدريج لمساعدة اليسار علي الصمود أمام متطلبات الرأي العام اليميني‏.‏ وليس لهذه العملية من نهاية‏,‏ فالتعددية الحزبية الإسرائيلية مصرف وبالوعة مواقف‏,‏ ديمقراطية مسحوتة الجوف والمعدة لا تشبع من التنازلات التي تلتهمها‏.‏

خذ مثلا أزمة حزب العمل وانهيار خياراته السياسية في كامب ديفيد لقد بني هذا الحزب حساباته كلها وكون استراتيجيته ومشروعه واستمد صورته الإعلامية لعقد كامل علي الأقل من هذه الخيارات السياسية التي تفترض أن يصمم الفلسطينيون خياراتهم بموجب توازن القوي الإسرائيلية الداخلية‏.‏

وبعد مضي فترة علي الانهيار حاولت أوروبا ومعها فئات في اليسار الصهيوني اقناع الفلسطينيين‏,‏ والعرب عبرهم‏,‏ بتبني التنازل عن حق العودة وعن حدود الرابع من يونيو وعن إزالة كتل الاستيطان الرئيسية في جهد مكشور لمساعدة اليسار الصهيوني للعودة إلي الحلبة الداخلية الإسرائيلية بنفس المشروع الذي رفضه الفلسطينيون في كامب ديفيد معدلا‏.‏ وقبل بعض الفلسطينيين لعب هذا الدور بدعم ورضا رسميين فماذا كانت النتيجة؟ لم يبق من أثر لهذه الأفكار‏,‏ سوي أنها علامة في طريق المزيد من التنازلات التي يتطلبها وقف تدهور الخريطة الحزبية الإسرائيلية نحو اليمين‏.‏

ولكي يقدم شارون خريطة سياسية بعد تفويض خريطة لطريق تسلم رسالة ضمانات من بوش تضع خطوط الحل الدائم بما يتلاءم مع الموقف الإسرائيلي شاطبة حق العودة للاجئين الفلسطينيين ومبقية علي كتل الاستيطان الرئيسية‏,‏ بعد الرسالة قدم شارون خطة فك ارتباط من طرف واحد في قطاع غزة لاستفتاء الليكود‏,‏ وجوبه بالرفض رغم رسالة الضمانات الأمريكية‏.‏

ولم يعد حزب العمل مرشحا للدعم في وجه الليكود‏,‏ بل أضحي شارون المستهلك الأكبر للدعم الدولي في وجه تطرف بقية الليكود‏,‏ وقدمت الولايات المتحدة أخيرا تنازلات تاريخية عندما اقرت خطة لتوسيع الاستيطان بالاتفاق معها‏,‏ مر هذا الموقف الأمريكي عربيا مر اللئام‏,‏ ولم يتم حتي التوقف عنده رسميا‏,‏ وكان توسيع الاستيطان يتم في الماضي رغما عن معارضة الولايات المتحدة اللفظية علي الأقل‏,‏ وباتت صحيفة الايكونوميست تدعو العالم صراحة إلي دعم شارون كبديل‏,‏ فهذا برأي هيئة تحريرها السبيل الوحيد‏..‏ وكأن السبل قائمة في السياسة الإسرائيلية الداخلية وحدها كل الطرق تقود إلي روما؟ ربما‏..‏ ولكنها بموجب هذا الرأي تنطلق جميعا من إسرائيل‏.‏ أما كيف قزمت الإرادة العالمية إلي أحد خيارين إما موقف العمل أو موقف الليكود‏,‏ ثم إلي إما موقف شارون أو خصومه داخل الليكود‏,‏ فهذه مسألة أخري متعلقة بكيفية فرض الهمينة علي الخطاب السياسي عالميا ومع ذلك لا يبدو أن هذه الموافقة الأمريكية علي الاستيطان قد غيرت شيئا‏..‏ والتعددية التنافسية الإسرائيلية‏,‏ بما في ذلك داخل الليكود‏,‏ لم تشبع كما يبدو من استهلاك التنازلات في المواقف المقدمة علي مذبحها‏.‏

أمر ما في منتهي الغرابة يحصل هنا لنفترض ان الغالبية في دولة ديمقراطية معجبة بهواء ومناخ وطبيعة منطقة في دولة مجاورة‏,‏ وانها اتخذت قرارا بالأغلبية لضمها إليها‏,‏ ولنفترض ان خيار القوة عسكرية وسياسية واقتصادية واعلامية وغيره لاستعادتها غير قائم بنظر المعتدي عليهم بسبب اختلال موازين القوي العالمية والمحلية يضاف إليها مصادرة ارادتهم‏..‏ عندها يصبح مصير هذه المنطقة محكوما بآليات سياسة تلك الدولة الداخلية‏,‏ ولنفترض أن الخيارات انقسمت داخل هذه الدولة إلي أغلبية توافق علي إعادة ربع المنطقة إلي أصحابها وأقلية توافق علي إعادة نصفها‏,‏ فهل سيكون علي العالم اجمع‏,‏ بما فيه أصحاب الشأن‏,‏ تعديل موقفه من استعادة كل المنطقة بحيث يدعم خيار اعادة النصف ليتغلب علي خيار الربع هل هذا هو الخيار الوحيد المتبقي؟ وماذا يعني القانون الدولي في هذه الظروف؟ هل هو رغبة الأغلبية في الدولة الأقوي؟

وفي حالتنا يساهم التنافس في دولة أخري هي الإمبراطورية العالمية الحالية بالمزيد من التعقيد‏,‏ فالديمقراطية الأمريكية لا تدفع باتجاه ديمقراطية عالمية بل يترجم التنافس في داخلها إلي تقديم المزيد من التنازل للكولونيالية الإسرائيلية‏.‏ وهي كما نعلم ترفض الاعتراف حتي بنتائج الديمقراطية الفنزويلة علي حدودها‏.‏

لا نسمع عن دولة تدعو إلي تبني أفكار ياسر عرفات لدعمه مقابل حماس‏,‏ ولا أفكار التسوية المقبولة فلسطينيا لدعمها في مقابل المعسكر الذي يرفض التسوية‏,‏ فالمسألة لا تتعلق بتوافر التعددية والرأي العام في أوساط الشعب المعني‏,‏ بل بتوازن القوي‏,‏ وتخلي العرب مسبقا عن إمكانية التأثير علي مسار الأحداث هو الذي يجعلهم في حالة انتظار لما سوف تسفر عنه العملية السياسية الداخلية في الدول القوية في المعادلة‏,‏ الولايات المتحدة ثم إسرائيل‏.‏

هنالك عطب أساسي في عملية تطبيق القانون الدولي عندما يتعلق الأمر بإسرائيل‏..‏ والاتكال علي الآليات الإسرائيلية الداخلية هو نتاج تحييده‏,‏ والاهتمام العربي الزائد في القضايا الإسرائيلية لا يبدو لي الآن كتعبير عن قوة ترغب بدراسة الخصم لغرض التأثير عليه‏,‏ وإنما نتاج العجز واقصاء الارادة واستراتيجية الانتظار‏.‏