lt;lt;الآن باتت أفغانستان خارجاً، وكذلك العراق وليبيا. ولكن تبقى دولتان إرهابيتان ونصف دولة: إيران وسوريا ولبنان الذي هو مستعمرة سورية. ولكن نتيجة غزو أفغانستان والعراق باتت إيران وسوريا مطوقتين تماماً بأراض غير صديقة لهما. إيران مطوقة بأفغانستان ودول الخليج والجمهوريات الإسلامية السوفياتية سابقاً، وسوريا محاطة بتركيا والعراق والأردن وإسرائيل. هذا تحوّل استراتيجي ذو مغزى، وهو يضغط بقوة على الدولتين الإرهابيتين. ولا مفاجأة في أن إيران تضغط لتحرّض على هبّة شيعية في العراق. لا أعرف إذا كانت الخطة الأميركية محاصرة إيران وسوريا، ولكن هذه هي النتيجة الحاصلةgt;gt;.
هذا مقطع يستعيره نورمان بودوريتز من الرئيس السابق لمعهد وايزمن حاييم هاراري. بودوريتز يعرّف نفسه، عن حق، بأنه lt;lt;أحد الآباء المؤسسينgt;gt; لتيار lt;lt;المحافظين الجددgt;gt; (إنه، في الواقع أحد بطاركتهم). وهو يدمج المقطع المشار إليه في مقالة طويلة (35 صفحة) عنوانها lt;lt;الحرب العالمية الرابعة: كيف بدأت، ماذا تعني، ولماذا يتوجب علينا ربحهاgt;gt; منشورة في العدد الأخير من مجلة lt;lt;كومنتريgt;gt;. والمقالة، لمن يقرأها، هي أوضح تصور لما تقوم به الولايات المتحدة، ولما يدعوها هذا التيار إليه في المستقبل، علماً بأنها تستند إلى مسعى جدي لإسناد هذه الدعوة إلى تصريحات الرئيس جورج بوش نفسه، وتحاول تقديم نظرية lt;lt;الحرب على الإرهابgt;gt; التي أعلنها.
لا يخفي بودوريتز أنه يسعى إلى وضع lt;lt;باراديغمgt;gt;، أو منظومة، تحاول تفسير ما حصل وتقترح رداً عليه. ولقد كان هذا هو الهمّ الدائم لمنظّرين أميركيين بعد انتهاء الحرب الباردة: lt;lt;صدام حضاراتgt;gt;، lt;lt;نهاية التاريخgt;gt;، إلخ... وما لا شك فيه أن بودوريتز، وغيره، يستلهمون مثال جورج كينان وهو الدبلوماسي الأميركي الذي طرح مصطلح lt;lt;الاحتواءgt;gt; في 1947 (في مقال شهير موقع باسم X). والقصد هو اختراع التعبير الذي يحدد المخاطر الجديدة بدل الاتحاد السوفياتي والشيوعية وسبل الرد عليها.
المفهوم الذي يقترحه بودوريتز هو lt;lt;الحرب العالمية الرابعةgt;gt;. وينطلق بذلك من الاسم الذي أعطاه إليوت كوهين لlt;lt;الحرب الباردةgt;gt; عندما أطلق عليها lt;lt;الحرب الثالثةgt;gt;، ما يقوده إلى التأكيد أن الولايات المتحدة دخلت، بعد 11 أيلول، مرحلة lt;lt;الحرب العالمية الرابعةgt;gt;. يسلم أن بوش لم يستخدم المصطلح ولكنه يثبت أنه اقترب منه كثيراً.
العدو الجديد هو lt;lt;الإرهاب الأصولي الإسلاميgt;gt; والدول الداعمة له، خاصة أن هذا الإرهاب ضرب الأرض الوطنية الأميركية وهو ما لم يفعله عدو الحرب الثانية (النازية) ولا الثالثة (الشيوعية). والرد على العدو هو حرب لأنها lt;lt;مزيج من جهود عنفية وغير عنفية، وتتطلب تعبئة وطنية شاملة ولو أنها تخاض بعدد أقل من الجنود، وتدوم لزمن طويل، ولها جذور أيديولوجيةgt;gt;. وكان لا بد من إعلان هذه الحرب لأن العدو تحرّش بأميركا منذ مطالع السبعينيات وتهرّبت من مواجهته.
لقد كانت أفغانستان هي المرحلة الأولى في هذه الحرب، وكان العراق مرحلتها الثانية. أي أنها لا تزال في بداياتها الأولى (كما كانت حرب كوريا مطلع الخمسينيات) ومن غير الجائز أي تخاذل أميركي قبل استكمال مراحلها الخمس كاملة.
لهذه الحرب عقيدتها التي صاغها بوش واضعاً لها أربعة مرتكزات:
الأول الوضوح الأخلاقي: صراع الخير ضد الشر.
الثاني إعادة تعريف الإرهاب برفض وجود صلات مزعومة بينه وبين تطلبات اقتصادية أو اجتماعية أو وطنية. في سياق ذلك الدعوة إلى معاملة الدول الداعمة معاملة الإرهابيين أنفسهم. ويقضي ذلك امتداد المعركة، بالعنف وغيره، إلى حوالى 50 إلى 60 دولة.
الثالث الحق في الاستباق وتجاوز مجرد الرد الانتقامي. من هنا حرب العراق. ويعني ذلك إنهاء الردع والاحتواء وتجفيف منابع الإرهاب سواء الإسلامي (أفغانستان) أو العلماني (العراق). ويساجل بودوريتز ضد الذين اكتشفوا في lt;lt;الحرب الاستباقيةgt;gt; مؤامرة يهودية صاغها lt;lt;المحافظون الجددgt;gt; لخدمة إسرائيل.
الرابع ضرورة إعادة النظر في موقع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فهذه الحرب لا تتجاهله وإنما تضعه في سياق أوسع وأهم. فبوش الذي دعا إلى دولة فلسطينية اكتشف سريعاً أنه إنما يدعو إلى قيام دولة إرهابية جديدة. لذا ربط lt;lt;رؤيتهgt;gt; للدولة بالحرب على الإرهاب وطالب العرب بالانضمام إليه وإلا عاملهم كأعداء.
يلاحظ بودوريتز التعثر الذي تواجهه الولايات المتحدة. لكنه يقلل من أهميته ويحذر من خطورة أن يعمي البصر عن الحقيقة الأصلية القائلة بأن هذه الحرب لا بد من أن تخاض وأنها، مثل كل حرب، تتضمن مراحل حرجة. إن التعثر، كما في العراق حالياً، هو مدعاة إلى حشد القوى والطاقات وعدم الإصغاء إلى الأصوات المترددة والجبانة التي ترفع لواء lt;lt;الواقعيةgt;gt;. إن كل اتهام لأميركا بlt;lt;الانفرادgt;gt; مشبوه، وكذلك كل تلميح إلى أنها تبالغ في دعم إسرائيل. التركيز على تجاوزات غوانتانامو وأبو غريب صيغة في ممارسة العداء للوطن، وكذلك التأفف من قانون lt;lt;المواطنةgt;gt; وقيوده. أما الطامة الكبرى فهي الإشادة بlt;lt;الحكمة الأوروبيةgt;gt; في وجه lt;lt;الغطرسة الأميركيةgt;gt;.
يستعيد بودوريتز الأطروحة القائلة بأن الحرب الجديدة تمثل التلاقي بين المصلحة الأميركية في الأمن والقيم الديموقراطية الأميركية الواجب نقلها، بالقوة، إلى العالمين العربي والإسلامي. ويرد، في هذا السياق، على إحباط قال فؤاد عجمي إنه شعر به حين لاحظ lt;lt;موت الحلم الأميركيgt;gt; في العراق. يشد نورمان من عضد فؤاد قائلاً له إن واشنطن ترددت أمام الفلوجة، وأعادت الأمم المتحدة، وساومت مع جيش المهدي، ولكنها لن تتراجع، ولن ترضخ للضغوط والنقد، وستواصل طريقها نحو أن تكون إمبريالية لا تعرف التخاذل.
يوافق بودوريتز على أن الولايات المتحدة تبدو متراخية جداً حيال إيران وسوريا، وهنا يستخدم كلام حاييم هاراري، ولكنه يستدرك قائلاً إنه حاسم في أن واشنطن وضعت معياراً للانتصار في هذه الحرب الجديدة: كان المعيار في الحرب الباردة إسقاط المعسكر الاشتراكي، والمعيار، اليوم، أو غداً، إسقاط مجموعة أنظمة بعد أفغانستان والعراق.
الأنظمة المعنية، في هذه المرحلة الثالثة من lt;lt;الحرب العالمية الرابعةgt;gt; هي الإيراني والسوري واللبناني. وليس شرطاً أن يعني ذلك تدخلاً عسكرياً أميركياً مباشراً. يمكنه أن يبدأ بتكوين ملفات من نوع الملف النووي الإيراني أو الضغط لوضع سوريا ولبنان في خط المرأى. ولا يخفي بودوريتز أن العمل جار في ما يخص الملف الفلسطيني. فهو يختم مقالته بأنه lt;lt;يمكن القول إنه لم يكن ثمة مجال لانتفاضة فلسطينية ضد عرفات، وكلام أكثر عن الإصلاح لولا سياسات بوش المتزاوجة مع استعداده الشجاع لدعم سياسات شارونgt;gt;.
ربما تصلح أطروحات بودوريتز، أكثر من غيرها، لفهم السياق الذي صدر فيه القرار 1559 ضد لبنان وسوريا. إنه لحظة من لحظات هذه lt;lt;الحرب العالمية الرابعةgt;gt; وأداة من أدواتها. إن تحويله إلى رد فعل ضد تعديل الدستور والتمديد للرئيس لحود هو مطالبة بأن نرى الشجرة لا الغابة.
الشجرة هي الخطة الأميركية الأصلية (حتى لو شاركت فرنسا بفعالية!). أما الغابة فهي كل الأخطاء الفادحة التي ارتكبت في المعركة الرئاسية.
أن نرى الشجرة ونرى الغابة هو المدخل إلى فهم المرحلة وصياغة الرد.