هل من الجائز طرح موضوع الاصلاح في ظل العربدة الاسرائيلية، وفي ظل استمرار الحصار المفروض على الأخ ياسر عرفات ؟!سؤال استنكاري طرح كثيراً، البعض طرحه ويطرحه من موقع السذاجة، والبعض الآخر يطرحه من موقع التذاكي المتأصل وراثة في ذهنيته الشعبوية، ظناً منه أن في الاجابة التي يفترضونها على هذا السؤال رد جامع مانع على دعاة الاصلاح سيعطل مسعاهم بغض النظر عن موقعهم، والحيثيات والأسباب والأساليب التي ينتهجونها في سعيهم للاصلاح.

ان من يرفضون ويماطلون في قبول مشاريع الاصلاح في مؤسسات «م. ت. ف» والسلطة الفلسطينية وأمام كل أزمة داخلية مفصلية فلسطينية كالتي ما زلنا نعيش فصولها يغرقون ساحة العمل الوطني الفلسطيني بالعديد من المشاريع والطروحات التوفيقية.

والتي هي بالجوهر تلفيقية، ويبررون منهجهم هذا بأن الشروط الموضوعية للاصلاح الجذري غير ممكنة في ظل الظروف الراهنة، وهذا ما يبقي أوضاعنا الداخلية الفلسطينية على برميل بارود.

فما جرى ويجري من توافقات وصفقات كمحاولة للالتفاف على أزمات السلطة و«م. ت. ف» تهدد بالدمار بقايا النظام السياسي الفلسطيني المنخور بالفردية والفساد، كون هذه التوافقات لا تمس لُبَّ الاصلاح ولا غاياته وأهدافه المحورية، في حين أن جلَّ ما يسعى له الاصلاح الحقيقي والمبدئي هو تمكين المؤسسات الوطنية الفلسطينية من القيام بدورها المطلوب في مواجهة الاحتلال «الاسرائيلي» التوسعي الدموي.

وتثمير الامكانيات الفلسطينية الكامنة لتحقيق الشرط الذاتي الفلسطيني كموازن ورافعة لاستنهاض الدورين العربي والدولي المتراجعين. ان نقطة الانطلاق في مشاريع الاصلاح يجب أن تبدأ من تقييم التجربة بواقعية، بعيداً عن تحكيم الهوى والذاتية والفردانية والانفعال.

وعلى هذه المشاريع أن تستشرف آفاق القضية الفلسطينية والأخطار المحدقة بها، فلا يمكن أن نستمر كما ينبغي في الثورة والمقاومة والانتفاضة في ظل تفاقم تفشي الأمراض في جسم السلطة وباقي المؤسسات الوطنية الفلسطينية، وقد بات هذا يهدد جوهر القضية الفلسطينية.

ان الاجابة على هذا التحدي يجب أن تكون شفافة ومباشرة وبالعمق، فأساليب الحجب والتضليل ولّت الى غير رجعة، وقد فضحتها وقائع وأساليب الصراعات غير المبدئية بين أجنحة السلطة وحزبها. ان تقييماً موضوعياً للتجربة لاستخلاص الدروس والعبر وتصويب المسار يملي علينا اعطاء حلول وطنية مجمع عليها لجملة من القضايا والاشكالات المركبة وللأهمية نذكر أبرزها فقط:

أولاً: يجب علينا أن نحقق الموازنة بين ما فرضته ولادة السلطة الفلسطينية من تداخلات في مهمات النضال الوطني التحرري والاجتماعي مع ادراكنا أنه لا يمكن الوصول الى هذه الغاية دون ادراك أن ولادة السلطة الفلسطينية لا تعني الانتقال من مرحلة التحرر الوطني الى مرحلة السلطة الكيانية.

وبأن سلطة قائمة على الاستبداد والقهر والفردية لا يمكن لها أن تلعب دوراً ايجابياً في معادلة الصراع، واستنهاض الوضع الفلسطيني والايفاء بمستلزمات الصمود. ورغم ادراكنا بأن هذه السلطة قد حملت منذ ولادتها تشوهات الميراث التقليدي من حيث الفساد السياسي والفردية والتسلط والافتقار الى روح العمل الجماعي.

وأساليب العمل الديمقراطي، الا أنه يجب الفصل بين الموقف من أسس وحيثيات نشوء السلطة وبين حقيقة وجودها وتأثيرها الفاعل سلباً أو ايجاباً.

وهذا يمكّننا من الوقوف جميعاً على أرضية ضرورة تصويب ممارسات السلطة ودورها وتحويلها على أرض الواقع الى مؤسسة من مؤسساتنا الوطنية الائتلافية كخطوة لازمة للبناء عليها لاحقاً. ان التصدي للهجمة الشارونية والخروج من مأزق صراع أجنحة السلطة وحزبها ممكن بالرجوع الى التراث الثري والخبرة الثورية المختزنة لدى شعبنا.

وثورتنا على امتداد أكثر من نصف قرن من النضال، بالعمل لا باطلاق العبارات الشعاراتية النمطية التي لم تعد ذات جدوى، فالقول بضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية لا يعني شيئاً اذا لم يتم تجسيد هذا المطلب كحقيقة قائمة على الأرض، ولا يمكن الوصول الى هذا دون الاجهاز على الفردية التي حولت مؤسسات م. ت. ف.

والسلطة الى هياكل مسلوبة القوة، وفاقدة للارادة والتأثير. وبالتالي فان الحل المقبول وطنياً للخروج من المأزق الراهن لا تحدده مقاييس صراعات فتح ـ السلطة، وعلينا أن نقرَّ بأن الاشكالية هنا في وصول الكثير من برامج ومشاريع الاصلاح الى الطريق المسدود لم يكن فقط بسبب ممانعة الفريق المهيمن، بل تعود في جانب كبير منها الى ممارسات القوى التي تقف خارج السلطة.

والتي لم تقم بدورها المطلوب حيال مؤسسات السلطة ومنظمة التحرير، وهو ما أوجد وضعاً مريحاً لقيادة السلطة وحزبها للادمان على مزيد من التفرد على أرض الميدان، لنرى نتائجه الكارثية التي حلّت وتحل بنا.

ثانياً: أجمعت كل القوى الرئيسية الفلسطينية في مواقفها المعلنة على ابراز مخاطر مشروع شارون «للفصل الأحادي الجانب»، لكن في حقيقة الأمر أن بعض هذه القوى لم تسقط من حساباتها امكانية التعامل مع هذا المشروع، بشرط ادخال بعض «المكياج» عليه.

لذلك نراها تترك الباب موارباً أمام الأفكار التي تدعو الى جعل مشروع الفصل الأحادي الشاروني مُتَضمناً في خطة «خارطة الطريق الدولية»، ولعل هذا كان أحد الأسباب المباشرة والرئيسية في تفجر جولات الصراع الأخيرة الدامية التي لم تنته بعد.

هنا نلاحظ أن أصحاب هذه الدعوات لا يدركون أو يتغافلون عن حقيقة جوهرية ألا وهي أن الخطة الشارونية غير قابلة للتطوير من حيث المبدأ، كونها وبحكم طبيعتها وأهدافها قد استنفذت غاياتها وأغراضها الرئيسية بمجرد الاعلان عنها، وبأن كل التحركات «الاسرائيلية»اللاحقة لطرحها سواءً من الليكود أو من يمين حزب العمل .

ومن جاراهما ما هي الا مناورات للتغطية على هذه الحقيقة، لذلك فان اعطاء اشارات ضمنية للاستعداد من حيث المبدأ للتعامل معها شديد الخطورة فالغاية الأساسية التي أرادها شارون من وراء خطته هي ادخال خطة «خارطة الطريق الدولية» في حالة «موت سريري»، وشل امكانية قيام أي تحرك دولي فاعل وعودة الاستفراد الأميركي الداعم بقوة لمواقف اليمين الاسرائيلي الشاروني المتطرف.

ولأن التعامل مع الخطة الشارونية سيفسح المجال أمام شارون للتهرب من الضغط الذي ولّده قرار محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة الذي قضى بادانة جدران الضم والفصل العنصرية لمخالفتها القانون الدولي ولمعاهدة جنيف، والمطالبة بازالتها فوراً والتعويض على المتضررين منها، لذلك يجب قطع الطريق على الخطة الشارونية.

ورفضها، لأنها عودة الى سياسات اغراق مشاريع الحلول بالتفاصيل والجزئيات على حساب الجوهر، الذي لا يمكن أن يتحقق الا بالزام «اسرائيل» بأسس ومبادئ الحل الشامل والمتوازن للصراع العربي ـ الاسرائيلي والفلسطيني ـ الاسرائيلي، وذلك بتطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الشأن بهذا الصراع.

ان اغراق المفاوضات والمشاريع بالتفاصيل دون حسم الأسس سياسة مارسها المفاوض الاسرائيلي خلال سنوات أوسلو، واستطاع من خلالها انتزاع تنازلات كبيرة من الجانب الفلسطيني المفاوض، لا وبل قضم من خلالها أكثر الفتات الذي أعطاه مقابل التنازلات الكارثية من المفاوض الفلسطيني.

ان نشوء الوهم لدى البعض بجدية التحرك الشاروني وامكانية تطوير خطة الفصل الأحادي من خلال التعامل معها كان أحد الأسباب المباشرة والرئيسية التي غذّت صراع جناحي السلطة، وهذا وهمٌ قاتل ولن يفضي بالنتيجة الا الى تغذية الوهم الشاروني بامكانية كسب المعركة مع الفلسطينيين من خلال كسر عظامهم بالحل العسكري تحت شعار «دعوا الجيش ينتصر». ان المشروع الشاروني هو حلقة من حلقات المسعى الاسرائيلي لاعادة تنظيم وتكييف الاحتلال، انسحاب من غزة لتثبت احتلال الضفة.

حيث المشاريع الاستيطانية الكبرى، وعليه سارعت حكومة شارون الى استئناف البناء الاستيطاني الواسع في الضفة، لدرجة أن الادارة الأميركية أعلنت معارضتها لكسر شارون تعهداته بوقف التمدد الاستيطاني في الضفة الفلسطينية المحتلة.

ان قوة الاندفاعات الشارونية تعود في جزء كبير منها الى ضعفنا لأننا فرطنا بالكثير من عناصر قوة الشرط الذاتي الفلسطيني القادر على خوض مواجهة حقيقية ومجزية، فقوانا مشتتة ومؤسساتنا خراب وعبث وفساد.

ونظامنا السياسي يفتقد الى الأخلاقيات وأساليب العمل الجماعية والديمقراطية، وهذه أسلحة ماضية أحسن أعداؤنا استغلالها ضدنا، وتشويه صورتنا رغم أن الاحتلال هو أبشع أنواع الجرائم بحق الانسانية جمعاء.

ثالثاً: الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني بعد جولات عدة متعثرة لم تنتج عنه عملياً أية نتائج مثمرة يعتد بها، ان ما يعيق هذا الحوار جملة من الأسباب الذاتية لدى بعض أطراف الحوار، بعيداً عن الموضوعية والحاجة الوطنية، وللأسف لم نستطيع تجاوزها حتى الآن. فالذي عطل وثيقة غزة ـ أغسطس 2002 ووثيقة رام الله ـ مارس 2004 هو الذاتية المفرطة لدى أكثر من طرف والاصرار على المصالح الفئوية الخاصة.

ان تجاوز هذه المعضلة يتطلب من الجميع الخروج من الدائرة المغلقة للبرنامج الخاص نحو رحاب البرنامج الوطني العام والقاسم الوطني المشترك. وعلى كل القوى الوطنية والديمقراطية والاسلامية ادراك حقيقة أن ازاحة قوى التسلط والفساد قضية صراعية لا يمكن كسبها بالضربة القاضية، بل بالنقاط وعلى جولات عدة.

وأن نجاح الحوار الوطني الفلسطيني ـ الفلسطيني حلبتها الرئيسية وأحد جولاتها المفصلية. وهذا يعني أن لا تُحمل جولة الحوار القادمة أكثر مما تحتمل، فلا يمكن لنا أن نحل كل القضايا العالقة مرة واحدة وهي كثيرة وجوهرية.

الأهم أن نركز على وضع الأسس والمنطلقات التي ستركز عليها اعادة البناء الشاملة لمؤسسات السلطة وم. ت. ف. عندها سيكون حق كل القوى محفوظاً من حيث التمثيل وموقعها القيادي في المؤسسات والعملية الوطنية برمتها. وبذلك نحمي قضيتنا وثورتنا وانتفاضتنا ونقطع الطريق على مشاريع القتل والتوسع الشارونية.

وخلافاً لما سبق فان تعطيل الاصلاحات مراهنة على الخطة الشارونية، أو ظناً أن بالامكان المحافظة على المكاسب والامتيازات على غير وجه حق من خلال اعادة توزيع الأدوار والمغانم بين الأجنحة المتصارع في السلطة وحزبها، وتحويل الحوار الفلسطيني ـ الفلسطيني الى مناورات لتنفيس الاحتقان وكسب الوقت دوران في مدار الخسارة الوطنية، وربح صاف للدموية الشارونية.
ابقاء حالنا على ما هو عليه لعبة «روليت» روسية، النار ستطلق فيها على حقوق شعبنا وقضيته الوطنية. فليستيقظ الغافلون قبل فوات الأوان.
* الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين