في أيام الصبا زارنا في المدرسة الإعدادية الكاتب البركان يوسف إدريس.. وقد جلست إلي جواره صامتا.. متأملا.. منبهرا.. وقد تحولت حواسي كلها إلي أجهزة استقبال حساسة.. ترصد وتسجل وتصور كل ما قال من كلمات وهمسات وتصورات لكن الفكرة العاجلة التي سارعت بتنفيذها فورا كانت البدء في تكوين مكتبة ولو في قفص فراخ ولو في صندوق أحذية.
منذ تلك الأيام وأنا مجنون بالكتب.. ما استفيد منه وما لا استفيد.. ما يدخل في اهتماماتي وما لا يدخل. ما تنشره الدور العالمية فور صدوره وما يجمعه باعة الأشياء القديمة علي اختلاف مستوياتهم.. من سور الأزبكية الذي كان إلي محلات الانتيكات في أزقة لندن وباريس ونيويورك لقد تحول عشق الكتب إلي إدمان وجنون وتهور وإفلاس أحيانا.. وربما كانت أصعب اللحظات المؤلمة أن أقع في هوي كتاب نادر ولا أقدر علي دفع ثمنه.
لقد دفعت كل ما في جيبي لشراء أول كتاب في الطهي طبعته وزارة المعارف العمومية رغم أنني لا أفهم في الطهي ولا أميل كثيرا إلي الأكل.. وتكرر الشيء نفسه في باريس عندما وجدت نسخة قديمة من كتاب وصف مصر تستحق أن أدفع فيها كل أموالي وأغادر المدينة الساحرة وأنا لا أحمل سواه.. لكن في طهران كان سعر الطبعة النادرة من معراج نامة مغريا لأن اشتريه واستمتع باكتشاف المدينة العنيدة التي غيرت المنطقة بشريط كاسيت من رجل دين ثوري هو آية الله خوميني.
والحقيقة أنني لست وحدي المصاب بهذه الحالة فغالبية الكتاب والصحفيين والمفكرين مرضي باقتناء الكتب والوقوع في هواها من أول نظرة.. بل إن هناك أطباء ومهندسين وخبراء بنوك أكثر توترا منا كلما شموا رائحة الغبار تتسلل من بطون الصفحات الصفراء إلي خياشيمهم ومسامهم.
لكن ذلك الضعف في مواجهة الكتب كان دائما سببا لكثير من الخلافات في بيوتهم.. فهي في عرف غالبية الزوجات كراكيب تغري العتة والحشرات المثقفة بدخول البيوت والبقاء فيها, إن كاتبة مثقفة فرنسية شهيرة مثل سيمون دي بوافوار رفيقة عمر ومشوار المفكر الفرنسي جان بول سارتر لم تتردد في أن تعترف في سيرتها الذاتية: أنها كانت تختنق من الكتب التي تكتم علي أنفاسها في كل جحر في بيتها.. وكثيرا ما تركت البيت لرفيقها لتتنفس هواء نقيا بمفردها.. وأشهر عبارة سمعها الصحفي الأمريكي المتخصص في التسلل تحت جلد النظام السياسي في بلاده بوب وود ورد من أقرب الناس إليه: اذهب بكتبك إلي مكان بعيد.. يانا ياتلك الكراكيب وأغلب الظن أن الرجل الذي فجر فضيحة إسقاط الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في فضيحة ووترجيت لم يكن أمامه سوي أن يؤجر بيتا مستقلا لكتبه وكراكيبه.
ولو دخلت بيت كاتب أو أديب أو مفكر مصري علي قيد الحياة فإنك ستجد جدران بيته مبطنة بالكتب لكن كثيرين ممن رحلوا ألقيت كتبهم وراءهم.. وبقيت اشياؤهم الشخصية الثمينة.. فلا أبناؤهم في عصر المعرفة السريعة المكثفة بالإنترنت يقرأون ولا زوجاتهم يملكن طاقة زائدة للصبر أكثر من ذلك وقد اخترع الورثة فكرة رومانسية للتخلص من كراكيب المرحوم الثقافية.. التبرع بمكتبته إلي النوادي الرياضية والمكتبات العامة والمراكز الأكاديمية علي أن ذلك لا يمثل سوي نسبة تافهة فالغالبية تكون من نصيب باعة الروبابيكيا واللب والترمس والفول السوداني.
وتصف الخبيرة النفسية والاجتماعية البريطانية كاترين كينج ستون حالة مدمني اقتناء الكتب بـعبودية الكراكيب وهو العنوان الذي اختارته لكتابها الانقلابي الصغير الذي توقفت عنده طويلا من قبل وترجمته إلي العربية مروة هاشم.. وفي الكتاب تتحدث عن كل أنواع الكراكيب.. وكيف يبدد وجودها الطاقة الكامنة للإنسان ويصيبه بالكسل والخمول والاكتئاب ويحرمه من التغيير والتجديد وتغيير اتجاهه من الخلف إلي الإمام.. إن الكراكيب تحتل ثلاثة أرباع بيوتنا.. وعقولنا ومشاعرنا.. ولابد من إزاحة أكثرها حتي يدخل الهواء النقي المنعش إليها.
لكن كان علي أن أتوقف طويلا عند الفصل الذي خصصته لمناقشة عبودية كراكيب الورق فيندر أن نجد مكتبا لمسئول أو موظف أو مهني لا يئن من كميات الورق الموضوعة عليه.. فما هو ذلك الشئ الجذاب المغري في الورق؟ لقد كان متوقعا أن يقل حجم استخدامنا للورق في ظل التطور الالكتروني الهائل الذي نعيشه في عصر الكمبيوتر.. لكن المدهش أننا نستخدم الآن كميات أكبر بكثير مما كنا نستهلك من قبل.
إن الموسوعات الضخمة التي توزن بالأطنان أصبحت محفوظة في عدد قليل من الأسطوانات المضغوطة لا تعرف وزنا ولا تحتاج مساحة, ورغم أننا اشتريناها لهذا السبب فإننا لم نجرؤ علي التخلص من صورتها القديمة.. صورة الكتب الثقيلة.. والأمر نفسه نجده في المصالح الحكومية التي قررت حفظ البيانات علي الكمبيوتر لتسهيل المعاملات.. لكنها احتفظت في الوقت نفسه بكل الملفات الورقية التي غذت بها الذاكرة الإلكترونية وهو ما حدث أيضا للصحف المجلدة التي يهوي البعض الاحتفاظ بها لقد تحولت إلي أسطوانات مرتبة مبرمجة يسهل استخراج منها ما تريد.. ورغم الاقبال عليها فإنه لا أحد ألقي بالمجلدات الأصلية.. أو أحرقها.
شئ ما ساحر في الورق.. فغالبية الناس لا تثق في الصحيفة إلا إذا قرأتها وهي بين يديها ولا يستمتع بقراءة الرواية إلا إذا شم رائحة الورق المطبوعة عليه.. وهو أمر تعودنا عليه يجب احترامه خاصة أنك يمكن أن تضع صحيفة أو رواية في جيبك إلي أي مكان ولو غابة استوائية لا تعترف بالكهرباء.. ولكن لا أحد يريد أن يحرمك من تلك المتع المباشرة.. الملموسة.. وكل ما عليك أن تفعله هو أن تلقي بما قرأت فور الانتهاء منه ولو أردت تذكر شيء منه فارجع إلي الشبكة الإلكترونية.. أنا شخصيا فعلت ذلك كنت احتفظ بأرشيف متنوع للشخصيات والمقالات والموضوعات التي استخدمها في عملي. لكن سرعان ما تخلصت منها فور أن وضعتها في ذاكرة الأقراص المدمجة.
علي أن هذه الشجاعة سرعان ما تحولت إلي هزيمة وانسحاب أمام الكتب.. هل هي العشرة هل هو الشعور بالانتماء.. هل هو احترام التاريخ؟ ربما أن بيتي ومكتبي ومطبخي وسيارتي هي مخازن كتب.. ورغم أنني لا استطيع بسبب الفوضي والزحام اللذين يسيطران عليها. ورغم أنني في كثير من الأحيان استسهل شراء نسخة جديدة من كتاب امتلكه لكني لا استطيع الوصول إليه. إلا أنني لا أقدر علي مفارقة كتاب واحد من كتبي.. حتي الذي دفعتني الظروف لاقتناء أكثر من نسخة منه.
وتحترم كاترين كينج ستون هذه المشاعر.. فالاحتفاظ بالكتب القديمة من أكثر المشكلات التي يواجهها الأشخاص ذوو العقول المتفتحة التي دائما ما تكون شغوفة لمعرفة المزيد.. وتعتبر الكتب بالنسبة للكثير من البشر رفقاء مخلصين تؤنس الوحدة عندما يحتاج المرء إليها وتقدم الإلهام والتسلية والدعم المعنوي والعقلي بطرق مختلفة.
لكن المشكلة التي يمثلها الاحتفاظ بالكتب القديمة هي عدم السماح بخلق مساحة لدخول طرق جديدة أو مختلفة للتفكير.. إن الكتب ترمز إلي أفكارك ومعتقداتك وعندما يتوافر الكثير لديك منها علي أرفف مكتبتك تصبح أنت محاصرا في نطاق ضيق من تلك الأفكار والمعتقدات.. وهو ما يتسبب في ايجاد طاقة رجعية تماما مثل الكتب الرجعية التي تحيط نفسك بها.
والأخطر أن تنقل كتبك إلي كل ركن في البيت بما في ذلك حجرة النوم.. إنها تجعل علاقتك الأساسية بالآخرين بما في ذلك أقرب الناس إليك مقتصرة علي الكتب.. إن الكتب تلعب دور البديل.. ولن تسترد علاقتك بالبشر من حولك إلا إذا افسحت لهم مساحة مما تحتله الكتب.. انقل الكتب من حجرة النوم حتي تعرف قيمتها.. انقل الكتب من المطبخ حتي تتذوق الطعام انقلها من جوار ماكينة القهوة حتي تستمتع بها انقلها من الحمام حتي لا تصاب بالإسهال.
هذه هي الخطوة الأولي للتحرر من عبودية الورق.. اترك ما للكتب للكتب.. وما للآخرين للآخرين.. وتخلص بجرأة وشجاعة من كتب لا تحتاجها وأفكار تجاوزتها لتفتح مساحة لكتب تحتاجها وأفكار تتطلع إليها.. هذا ما تقوله الخبيرة البريطانية المحترفة في علاج الكراكيب.. وأتمني ألا يكون كتابها عن عبودية الكراكيب هو أول كتاب اتخلص منه.. عملا بنصيحتها.
التعليقات