وكأن عام‏2004‏ لم يشأ أن ينقضي قبل أن يتأكد أننا لن ننسي الأسي والدمار الذي خلفه لنا علي مدي السنة فجاء منذ أيام بكبري الكوارث الطبيعية التي عرفها التاريخ الحديث والتي يقدر البعض أن ضحاياها سيرتفع عددهم ليصل إلي قرابة ربع المليون شخص مازال الكثير منهم في جوف المحيط ينتظر ذووهم ان تلفظهم الأمواج كما لفظ الحوت يونس عليه السلام‏..‏ ومثلما كان ذلك بمثابة ميلاد جديد ليونس فقد يأتي بعد كارثة المحيط الهندي ميلاد جديد لعام يحمل في طياته الكثير من توقعات التغيير‏.‏
يبدو أن سنة‏2005‏ لن تكون امتدادا لما سبقها من سنوات‏,‏ فعلي الصعيد الدولي هناك إدارة جديدة علي قمة أكبر القوي السياسية في العالم‏,‏ ورغم أن الإدارة الجديدة هي للرئيس جورج بوش الذي رأس الولايات المتحدة خلال السنوات الأربع الماضية إلا أن الولاية الثانية عادة ما تختلف لأي رئيس أمريكي عن الولاية الأولي‏,‏ فهو هنا يستطيع أن يتحرر ـ إذا أراد ـ من كل الضغوط والاعتبارات التي تكون قد أثرت علي ولايته الأولي‏,‏ ولقد حدث مثلا أن الولاية الثانية للرئيس الجمهوري الراحل رونالد ريجان لم تختلف كثيرا عن ولايته الأولي‏,‏ لكن الفارق بين الرئيسين هو أن العالم الذي يحيط الآن بالرئيس الأمريكي يمر بفترة غليان تنبيء بمتغيرات جديدة علي الساحة الدولية والمحلية معا‏,‏ فلا يمكن تصور أن جميع نقاط التفجر التي ازداد فيها التوتر خلال عام‏2004‏ ستظل بنفس درجة التوتر خلال العام المقبل دون أن تشهد انفجارا أو انفراجا‏,‏ خاصة في الشرق الأوسط‏,‏ ففي فلسطين علي سبيل المثال سيأتي غياب الرئيس ياسر عرفات بالضرورة بقيادة جديدة تختلف بطبيعة الاشياء عن قيادة عرفات مهما حاولت أن تقتفي أثره في الاتجاه العام‏,‏ لأن التجربة التاريخية التي كانت لعرفات لن تكون هي التي ستحدد اسلوب القيادة الجديدة ولا توجهها العام‏,‏ وذلك في وقت زادت فيه المطالبة بضرورة اقامة الدولة الفلسطينية التي لم تعد السياسة الدولية تختلف علي أنها القاعدة الرئيسية التي يمكن أن يقوم عليها السلام في الشرق الأوسط‏,‏ ولقد وصلت تلك المطالبة إلي الحد الذي جعل الرئيس الأمريكي نفسه يعلن رسميا في بداية ولايته الثانية ان احلال السلام في الشرق الأوسط سيكون أحد أهم أولويات ادارته الجديدة‏.‏
إن ذلك كله لا يعني بالضرورة أن الدولة الفلسطينية ستقوم هذا العام أو اننا سنشهد الحل المنشود للقضية‏,‏ لكنه يعني بالتأكيد أن الأوضاع في فلسطين لن تستمر هذا العام علي نفس النمط الذي كانت عليه في الأعوام القليلة الماضية‏,‏ وإنما ستتحرك بشكل جديد‏,‏ أفضل كان أو أسوأ‏.‏
كذلك فإن الاحتمال الأكبر في العراق هو أيضا في جانب التحرك وليس الجمود علي الوضع الحالي الذي تصاعدت فيه حدة المقاومة للوجود العسكري الأمريكي بشكل لم يسبق له مثيل في الوقت الذي يبدو أن الأزمة التي وضعت فيها العسكرية الأمريكية نفسها أصبحت تحكم الخناق مع كل يوم جديد حول عنق الإدارة الأمريكية للرئيس بوش‏,‏ مما يستوجب تحركا جديدا في العام الجديد‏.‏ وإذا نظرنا إلي البدائل المتاحة الآن أمام الإدارة الأمريكية نجد أنها تواجه من ناحية الأصوات المعادية لاستمرار الحرب والتي تزداد حدتها في المطالبة بإيجاد وسيلة للانسحاب من العراق‏,‏ بينما تواجه من ناحية أخري صقور المحافظين الجدد الذين يؤيدون الحرب لكنهم يطالبون بزيادة القوات الأمريكية في العراق من اجل انهاء الوضع الحالي الذي لم يعد يروق لأحد‏,‏ وهذا يعني أن بوش سيكون مطالبا بتحريك الموضوع في العراق في اتجاه أو آخر ولا يمكن ازاء ما يواجه علي الجانبين أن يبقي الأوضاع علي ما هي عليه‏.‏
أما من الناحية الداخلية فإن الوضع في الولايات المتحدة يفرض أيضا علي بوش ضرورة التغيير‏,‏ فقد تسلم في بداية ولايته الثانية أمة منقسمة علي نفسها اعترف في أول تصريحاته أنه سيعمل علي رأب صدعها وهو لن يستطيع أن يفعل ذلك باستمراره في نفس السياسة التي سببت هذا الصدع القومي غير المسبوق منذ حرب فيتنام‏.‏
وإذا كان هذا هو حال الولايات المتحدة صاحبة أكبر تأثير علي المجريات السياسية في العالم‏,‏ فإن الوضع في بقية الدول الكبري يبدو أيضا في حالة صيرورة وتغيير وكأن كل ما هو قائم الآن ما هو إلا حالة انتقالية ستتمخص عنها أوضاع مغايرة‏,‏ ففي فرنسا مثلا بدأ يتضح ان الرغبة في التغيير صارت هي المحرك الأول للسياسة الآن خاصة بعد الصعود الصاروخي لنيكولا ساركوزي الذي فاز في اكتوبر الماضي برئاسة الحزب الحاكم‏(‏ الاتحاد من أجل حركة شعبية‏)‏ فيما وصف بأنه كان أقرب إلي التتويج الذي يحظي به الملوك‏.‏
كذلك فإن سمة المرحلة الانتقالية ظلت تحيط بالأوضاع الروسية طوال السنوات القليلة الماضية مما يجعل الكثير من المراقبين يتوقعون أن تصل سنة‏2005‏ بروسيا إلي حالة جديدة‏,‏ خاصة بعد الفشل الذي منيت به سياسة الرئيس فلاديمير بوتين في أوكرانيا بسقوط مرشحه للرئاسة فيكتور يانكوفيتش وإعادة الانتخابات مرة أخري ليفوز مرشح المعارضة فيكتور يوشنكو واكتشاف محاولة التسمم التي تعرض لها‏,‏ وذلك في الوقت الذي اصبح الوضع في الشيشان لا يحتمل الاستمرار علي ما هو عليه‏.‏
أما في انجلترا فقد بدأ البريطانيون يتململون من طول فترة حكم توني بلير التي وصلت إلي سبع سنوات ونصف السنة‏,‏ وبدا الرأي العام متطلعا إلي تغيير في سياسة البلاد مما يجعل السياسة الحالية تكاد تكون مستحيلة الاستمرار سواء في الخارج أو الداخل‏.‏
وإذا كان هذا هو حال العالم فإن منطقة الشرق الأوسط لا تمثل استثناء عن القاعدة‏,‏ ليس فقط فيما يتعلق بفلسطين والعراق وإنما في بقية أرجائها بما في ذلك تلك الأركان التي قد تبدو مستقرة لا احتقان فيها‏,‏ إذ من الواضح أن هناك تيارا تحتيا عارما يبدو كالقاسم المشترك الذي يمر من تحت جميع الأرقام العربية ويوحد فيما بينها في مطلب جماهيري كبير هو مطلب التغيير الذي اصطلح الخطاب السياسي الرسمي علي تسميته بالاصلاح‏,‏ فمن المغرب إلي سوريا اصبحت الجماهير العربية تتطلع إلي التغيير لدرجة بات معها من الصعب تصور استمرار تجاهله حتي في أكثر المجتمعات العربية أوتوقراطية وفي اكثرها جمودا‏,‏ فما يحدث بين الآن والآخر في السعودية مثلا ـ وقد كان آخرها تلك الانفجارات التي وقعت منذ ايام في الرياضي يشير إلي أن هناك شيئا ما يعتمل تحت السطح الجامد‏,‏ وأن المطالبة بالاصلاح لن تترك بقعة في الوطن العربي تكون قد ركنت إلي الانزواء خلف ستار حديدي من الاجراءات الأمنية‏.‏
ان مطلب الاصلاح العربي اكتسب خلال العام الماضي أرضا جديدة اصبحت تحول في العام الجديد دون تجاهله‏,‏ وقد نذكر أن القادة العرب وجدوا أنفسهم مضطرين خلال قمتهم العربية في العام الماضي في تونس إلي الاعتراف بتلك المطالب وإعلان تأييدهم لها في الوثيقة الشهيرة التي صدرت عن قمة تونس حول التنمية والتطور وتحديث العالم العربي وهو الموضوع الذي عقدت له عدة مؤتمرات هامة في الوطن العربي ما بين الاسكندرية ودبي وصنعاء ومراكش وغيرها‏.‏
أما في مصر فالوضع يتميز بأنه قد وصل مع عام‏2005‏ إلي نقطة تجيئه فيها الآليات الطبيعية للتغيير التي قد تضمن تحقيق الاصلاح المرتقب بطريقة طبيعية ألا وهي الانتخابات النيابية من جانب وانتخابات الرئاسة من جانب آخر فالانتخابات النيابية في عام‏2005‏ لن تكون كسابقاتها لأنها تأتي وسط حالة الترقب سالفة الذكر وفي خضم المطالبة المتزايدة بالتغيير‏,‏ كذلك فإن الانتخابات الرئاسية بالضرورة تعني انه سيكون هناك برنامج سياسي جديد سيطرح علي الجماهير‏,‏ وهو بحكم التعريف يجب أن يأتي معبرا عن تطلعات الجماهير في فترة الرئاسة الجديدة التي تعتبر أبرزها الآن هي مطلب الاصلاح‏.‏
لقد شهد العالم مرحلة جديدة من تاريخه في اعقاب الحرب العالمية الأولي التي خلقت وضعا جديدا‏,‏ كما حدث نفس الشيء بعد الحرب العالمية الثانية ايضا‏,‏ والآن بعد التعاظم الفلكي للولايات المتحدة كقوي عظمي فريدة في العالم وما تبع ذلك من تداعيات عنيفة هزت أرجاء الكرة الأرضية هزا‏,‏ خاصة عندنا في الشرق‏,‏ سواء في العراق أو أفغانستان‏,‏ فإن ما حدث لابد سيتمخض عنه وضع جديد‏,‏ فمثلما حدث في زلزال المحيط الهندي المدمر الذي اطاح بقري بأكملها وابتلع في قلب المحيط مساحات شاسعة من اليابسة فإنه بعد أن استقر بات المشهد مختلفا عما كان من قبل‏,‏ والصحف هذه الأيام تمتليء بالصور المأخوذة من الجو التي توضح كيف تغيرت جغرافية البلاد بعد أن هدأ الزلزال‏.‏
علي أن ما نتطلع إليه في الشرق الأوسط هو ألا تتغير الجغرافيا فيكفينا ما تغير منها في الماضي وما اقتطع من الأراضي العربية ليس بحاجة للتكرار‏,‏ إن ما نتطلع اليه هو تغيير في التاريخ الذي وصل إلي مرحلة لا يمكن استمرارها‏,‏ وقد أن الأوان أن تبدأ مرحلة جديدة تجد فيها الشعوب العربية ما تتوقعه من تغيير واصلاح‏,‏ فإذا كان هذا مقدرا لنا فإن عام‏2005‏ هو المؤهل لاحداثها بما ينطوي عليه من عوامل تغيير داخلية وخارجية‏.‏