(I)
ثلاثة ردود كبيرة على الكارثة الكبرى التي حلّت بمنطقة جنوب وجنوب شرق آسيا.
الأول جاء من أنصار البيئة.
فقد أعلن هؤلاء، يدعمهم العديد من الجيولوجيين وعلماء البحار، ان موجات المد العاتية (التسونامي) التي أعقبت الزلزال، لم تكن لتحدث كل هذه الأضرار، لو أن الشركات السياحية والصناعية لم تعمد الى تدمير الشعب المرجانية في مياه المحيط الهادىء، وإلى القضاء على الأشجار والغابات في حوض هذا المحيط.
هذا، برأيهم، هو الذي أسقط كل الموانع والحواجز أمام الامواج متسّبباً، بالتالي، بخلل بيئي سهلّ مهمة الزلازل.
الرد الثاني أطلقه أعداء البيئة.
هذه المجموعة وجدت الفرصة السانحة لتأكيد نظرياتها حول كون البيئة عدواً لا يرحم يجب السيطرة عليها بقوة لا ترحم، وحول كون الطبيعة قوة تدميرية عمياء لا علاقة لها بكل الصور الرومانسية التي رسمها البيئيون لها بصفتها الأم العطوف والصدر الرحوم.
الرد الثالث جاء من جانب الأصوليين الإسلاميين.
هؤلاء رأوا الى الكارثة بوصفها عقاباً إلهياً للبشر غير المؤمنين (برغم ان 100 ألف من الضحايا كانوا مسلمين مؤمنين). وهم تذكرّوا فيضان نوح، الذي شكل على الدوام لدى كل الثقافات في التاريخ نقطة الارتكاز لأساطير نهاية العالم.

(II)
لسنا هنا في وارد المفاضلة بين هذه المقاربات الثلاث. فكلها تقريباً يستند الى الإيمان الافتراضي أكثر من اعتمادها على العلم اليقيني. وكلها تحاول استخدام الكوارث لإثبات صحة البواعث.
لكن، ثمة مفارقة هنا: في كل منها جانب من الحقيقة.
فتدمير البيئة بغرض الربح والكسب السريع، لعب بالفعل دوراً كبيراً في جعل رقم القتلى، على سبيل المثال، يقفز من 50 ألفاً الى 150 ألفاً، والجرحى من 60 ألفاً الى 600 ألف. وهذه حصيلة ليست مفاجئة.
يقول المفكر جارد دايموند، صاحب كتاب “الانهيار: كيف تختار المجتمعات الفشل”، ان دراسته للتاريخ البشري قادته الى الاستنتاج بأن هناك خمسة عوامل تلعب الادوار الرئيسية في تدمير الحضارات الانسانية بسرعة وعلى نحو غير متوقع:
نسف مقومات البيئة الطبيعية، عبر التصحير، وقطع الأشجار، وتلويث التربة، وتسميم المياه، وإحداث الخلل الكبير في التوازن البيئي.
تغيّر حرارة مناخ الأرض، سواء على يد البشر أو بفعل عوامل كونية.
ظهور أعداء أقوياء يعمدون الى اجتياح الحضارة المعنية.
تغيرات تحدث لدى الشركاء التجاريين، الذين تعتمد عليهم الحضارات في وجودها أو ازدهارها الاقتصادي- الاجتماعي.
طبيعة الردود السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تقوم بها النخب الحاكمة على هذه التحديات.
من بين هذه العوامل الخمسة، يبرز العاملان الأول والثاني بصفتهما الاخطر في التاريخ. فهما كانا السبب الرئيسي لانهيار حضارات الهلال الخصيب القديمة في الشرق الأوسط، واليمن وشبه الجزيرة العربية قبل ظهور الاسلام، والمايا وبولينيزيا في أمريكا الوسطى وغيرها.
لكن، وإذا ما كان انصار البيئة على حق في دعواهم حول دور الانسان في تدمير بيئته، إلا انه لا يمكن رفض منطق أعداء البيئة بالكامل.
فالكوارث التي تحدثها هذه الأم أسطورية حقاً في حجمها. وهي لا تقل عن كونها مشروعاً لإفناء الحياة نفسها وليس فقط حضارات بعينها. قارنوا، مثلاً، ماذا حدث للديناصورات قبل 160 مليون سنة، حين أبادها عن بكرة أبيها إما نيزك عملاق ارتطم بالأرض، أو عصر جليدي جديد اكتسح الكوكب الازرق.
هناك الآن عشرات آلاف النيازك من هذا النوع تدور في فلك لا يبعد كثيرا عن اجواء الأرض. وسقوط أي منها على الأرض سيعني سقوط كل البشر عن حافة الكون.
ويمكن قول الشيء نفسه عن زلازل “أمّنا الطبيعة” التي قد تؤدي (كما في آسيا) الى تغيير دورة الأرض حول نفسها، وربما أيضاً الى عصور جليدية جديدة.
ماذا الآن عن نظرية أصحاب الرؤى الأخروية الدينية؟
إنهم جزئياً على حق أيضاً، حين يحذّرون من أن أخطاء الانسان ستسفر عن عقوبات إلهية.
في السابق كان هؤلاء يعتمدون على التدهور الخلقي للتنبؤ بيوم الآخرة. الآن يمكنهم الاعتماد على تدهور البيئة وتغّير مناخ الارض للوصول الى المحصلة الأخروية نفسها!

(III)
لكن مهلاً.. إذا ما كان كل من هذه المقاربات الثلاث تمتلك جزءاً من الحقيقة حول أسباب المشكلة، فهل يمكن أن يأتي الحل من هذه الأجزاء أيضاً؟ أجل!