ما يجري في المغرب والجزائر هذه الأيام مهم جداً بالنسبة لمستقبل الديموقراطية في الوطن العربي. فللمرة الأولى منذ العقود التي تلت نيل الاستقلال الوطني تجري مراجعة جادة وعميقة لمفهوم جديد طرأ على الحياة العامة في بعض الأقطار العربية عنوانه: حقوق الإنسان.
حتى الآن كانت أنظمة كثيرة تتعامل مع شعوبها على انها "رعية" تُساق فتسير، وتؤمر فتطيع، في ما يشبه الخضوع لأمر إلهي لا سبيل إلى رده، ولا مجال إلى رفضه أو حتى مناقشته.
لكن الرعية التي ذاقت خلال عقود أهوال القمع والاستبداد، ها هي تتحول اليوم إلى "المواطنة"، وتتعرّف إلى أنواع جديدة من الحقوق والواجبات، ومن العلاقة بين الشعوب والحكام.
يتمّ هذا كله عبر استعادة جريئة وشجاعة لصفحات مطوية من التاريخ القريب شهدت أبشع أنواع انتهاك حقوق الإنسان.
ففي مطلع العام 2004 أنشأ العاهل المغربي هيئة أطلق عليها اسم "هيئة الإنصاف والمصالحة"، بناء على توصية تقدم بها "المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان" في المملكة. وأنيطت بهذه الهيئة مهمة نبش ملفات الماضي للوقوف على حجم الخروق التي تعرض لها السجناء والموقوفون والمختفون، ومعظمهم من النشطاء السياسيين، أو ممن اتهموا بالقيام أو بالمساهمة بأعمال مخلّة بالأمن وبالنظام العام غداة الاستقلال عام 1956 وخلال الحكم الطويل للعاهل المغربي الراحل الحسن الثاني الذي امتد من عام 1961 حتى عام 1999، والذي تعرض لهزات كثيرة كانت أبرزها محاولتا الانقلاب عامي 1971 و1972، وقبل ذلك عمليات الاختطاف عام 1956، ثورة الريف (شمال المغرب) عام 1958، اختطاف وتصفية زعيم المعارضة المهدي بن بركة عام 1965، ثورات الجوع في سنوات 1981 و1984 و1990، اعلان حالة الاستثناء (الطوارئ) بين عامي 1965 و1970، قمع المعارضة اليسارية وبخاصة الطلابية منها من اعضاء حركة "23 مارس" خلال السبعينيات الخ..
ومنذ صعود محمد السادس إلى سدّة العرش عام 1999 بدأت ملامح التغيير تظهر، فأبدى رغبته في عودة آخر المنفيين السياسيين إلى البلاد، وكان من أبرزهم الفقيه محمد البصري أحد أبرز قادة "جيش التحرير" وثورة الريف (الذي رحل العام الماضي)، والمعارض اليهودي الماركسي ابراهيم صرفاتي المحكوم عام 1977 بالسجن المؤبد والمنفي إلى فرنسا عام 1991، والذي عاد إلى بلاده برتبة وزير.
تلك كانت المؤشرات الأولى لتوجهات الملك الشاب الذي أراد طيّ صفحة الماضي بعد فتحها على مصراعيها لتفريغ ما تكبته النفوس، وإزاحة ما تتحمله الضمائر، وطرد الشياطين والأرواح الشريرة من الذاكرة المغربية.
من أجل هذه المراجعة الصعبة والعميقة كان إنشاء "هيئة الإنصاف والمصالحة" المكونة من ستة عشر عضواً، معظمهم من قدامى الضحايا أو من الناشطين في مجال حقوق الإنسان. وقد استطاع هؤلاء بمؤازرة 160 شخصاً من المتطوعين والمتعاونين خلال تسعة أشهر من العمل الدؤوب، من جمع أكثر من عشرين ألف شهادة عن تلك الحقبة الرمادية من تاريخ المغرب المعاصر. وتمكنوا من تحديد أسماء 16 ألف ضحية، وإحصاء أكثر من 500 حالة "اختفاء". وتم توثيق المعلومات عن كل ضحية بتسجيلات وأشرطة. ومنذ 21 و22 كانون الأول الماضي يعيش المغاربة على وقع هذه الصفحات السوداء وهي تبث مباشرة على الراديو والتلفزيون في شهادات لنحو مئتي ضحية سيتواصل بثها طيلة ثلاثة أشهر، في أول عملية من هذا النوع يشهدها المغرب والعالم العربي. وتتم جلسات الاستماع بحضور رسميين أبرزهم وزير العدل محمد بوزوبع، ووزير الاتصال نبيل بن عبدالله، ومستشار الملك محمد معتصم، ورئيسي غرفتي البرلمان، وقادة الأحزاب، وشخصيات أخرى. وقد أبدى رئيس "الرابطة المغربية لحقوق الإنسان" عبد الحميد أمين ـ وهي رابطة مستقلة ـ عن ارتياحه للإدلاء بالشهادات، لكنه أسف لفرض قاعدة على الشهود تلزمهم بعدم الكشف عن أسماء جلاديهم، معتبراً ان ذلك يعفيهم من العقاب.
وستجري تلك الجلسات العامة في عدة مدن مغربية شهدت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان في الماضي، ومن بينها الدار البيضاء والخنيفرة والحسيمة وفاس وتطوان.
وكان من أبرز الذين أدلوا بشهادتهم أحمد المرزوقي صاحب كتاب "الخلية رقم 10"، المتهم بمحاولة انقلاب الصخيرات مطلع السبعينات، والذي أمضى 18 عاماً في سجن تزمامرت الصحراوي الرهيب، كما أمضى غيره أياماً وسنوات سوداء في سجون أخرى كسجن آغدز، وقلعة مغونه، ودرب مولاي شريف الخ...
وكما في المغرب كذلك في الجزائر، حيث عيّن الرئيس بوتفليقة "لجنة استشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان" برئاسة فاروق قسنطيني مهمتها الأولى الكشف عن مصير "المفقودين" خلال عشرية العنف التي ضربت الجزائر في التسعينات من القرن الماضي. ويقول قسنطيني انه حقّق حتى الآن في 5200 حالة، مضيفاً انه من حق الأسر ان تعرف الحقيقة عن أفرادها "المختفين". وسوف ترفع اللجنة تقريرها في أواخر آذار المقبل حتى يصار بعد ذلك إلى صرف تعويضات لأسر الضحايا.
نسمات طيبة تهب من بلدان المغرب العربي علّها تتحول إلى "تسونامي" أخلاقي يضرب شواطئ "شرق المتوسط".