حازم صاغيّة: بعد أن تناولت حلقة أمس مسألة البحث عن قضية مركزية وعن صفاء يحتضن النمو والنموذج، هنا حلقة رابعة:
لا يشذ «حزب الله» عن أحزاب عدة، عربية وغربية، اجتمع فيها نقيضان ظاهريان: تشديدٌ مبالَغ فيه على الوحدة والتراصّ ودرجة من التفتّت بعيدة تكبتها دعوات الوحدة نفسها. فلئن حافظت «حركة أمل» على حد أدنى من تماسكها بفضل تقديمات الدولة، بدت قضية الحزب، في هذا الميدان، أعقد. فإلى الشخصية المنزّهة للأمين العام، والى موضوعة «المقاومة» المرفوعة الى مصاف المقدّس، انضافت الخدمات وفرص العمل، حيث لعب التمويل الإيراني دوراً مركزياً.
لكن من توهّموا أن السماء صفتْ من غيومها داهمَهم، في أيار (مايو) 1997، برق لا سيطرة عليه. ذاك ان الأمين العام السابق صبحي الطفيلي أعلن عن «ثورة جياع» سلّح لها أكثر من ألف مقاتل، استمرت حتى شباط (فبراير) 1998 مع صدور مذكرة توقيف بحقه. وقد مثّل الشيخ الغاضب ما لم يقوَ الحزب على احتوائه: فهناك مسألة اجتماعية حادة في البقاع لا يعاني مثلَها الجنوب الذي حظي بحصة الأسد من الإنفاق الرسمي. ومعروفٌ أنه مع انتهاء الحرب اللبنانية في 1990، أفاق البقاعيون على فقدان ما يفوق المليار دولار سنوياً من عوائد كانت المخدرات تدرّها عليهم. وبدورها، تبخّرت الآمال في الحصول على بدائل، واقتصرت هذه على «مشروع الأمم المتحدة للتنمية الريفية» الذي بلغت كلفته 22 مليون دولار فحسب. وهناك، أيضاً، مسألة بقاعية عامة يوجزها إحساس بالغبن حيال الجنوبيين ممن تولوا المناصب الأولى كافة في مؤسسات الطائفة: من «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» الى « أمل» بقيادة نبيه بري، و«حزب الله» بزعامة نصر الله، فضلاً عن رئاسة مجلس النواب التي حل فيها بري محل السياسي البقاعي حسين الحسيني. والبقاع، بعد كل حساب، لم يزوّد الحزب أمناءه العامين الثلاثة الأُوَل فحسب، ابراهيم أمين السيد والطفيلي وعباس الموسوي، بل تلا الضاحية وسبق الجنوب في استقباله والتمهيد لنفوذه. وداخل الحزب نفسه، توالى انطفاء أقطابه البقاعيين نجماً بعد نجم مع حلول نصر الله في الأمانة العامة. فحسين الموسوي انتهى المطاف به معاوناً تنفيذياً للأمين العام ومستشاره لشؤون العمل البلدي. وهو موقع ينمّ عدد كلماته عن الحاجة الى التعويض عن سلطة قصيرة الباع بإطالة وصفها. أما أمين السيد، فحُرم الترشّح الى انتخابات 0002 النيابية، وهو دليل على وزن لا يُحسَد صاحبه عليه.
لكنْ بقدر من السذاجة، تصرّف الطفيلي. فهو أقلع زاعماً لنفسه الموقف الأشد راديكالية وحزبية والأكثر إيرانية، من غير أن يكون على بيّنة مما يفعله. ذاك أنه هدد عملياً بتحويل جذري في الأجندة الإيرانية والسورية عبر دعوته الى العصيان المدني وعدم دفع الرسوم وتلويحه بالزحف على العاصمة. وهذا ما أدركه نصر الله، عشية «ثورة الجياع»، فـ«نصح» أمينه العام السابق «بالحد من نشاطه حتى لا يوفر للجيش ولقوات الأمن المبررات لتكثيف وجودها في البقاع، الأمر الذي من شأنه ان يؤثر سلباً في المقاومة».
وتنبّه الطفيلي متأخراً الى المنافسة القائمة بين قضيته الاجتماعية، معبَّراً عنها بضجيج شعبوي، وبين قضية «المقاومة» ومستخدِميها، فطالب باحتساب سنوات الخدمة للمقاومين، أسوةً بالجنود. وفي آخر المطاف انتهى، بحسب بيان صدر الصيف الماضي حاملاً توقيع «أبناء الشيخ صبحي الطفيلي»، مطالباً بعودته الى الحزب شرط رسم سياسة جديدة له. ولم يتورّع البيان عن اتهام الأمين العام الحالي بـ«زرع الفتن في جنبات البيت الشيعي، عبر سيطرته الكاملة والمطلقة على مقدرات الحزب».
لكن قضية الطفيلي أثارت، في ما أثارت، قضية أخرى تتصل بالسيد محمد حسين فضل الله. فقد اتُهم الأخير، ومعه «حزب الدعوة»، بدعم الشيخ البقاعي لشق «حزب الله»، كما ذُكر انه رصد لحركته 25 مليون دولار. والاتهام، بمعزل عن مدى صحته، كان يتوّج نزاعاً أكبر: ففضل الله الذي سمّته وكالات الأنباء العالمية لسنواتٍ «أباً روحياً لحزب الله»، انفك أبناؤه عنه حين اعترض على مرجعية خامنئي وتسميته الولي الفقيه بعد رحيل الخميني. ولأن السيّد اللبناني، و«حزب الدعوة» كذلك، ليسا أصلاً ممن يصادقون على «ولاية الفقيه»، اندفع الى إعلان مرجعيته واستقطاب عشرات الآلاف بمن فيهم ناشطون في صفوف الحزب. وكان طبيعياً فيه ان يعترض على مبايعة الحزب لخامنئي، وفي الحزب أن يعترض على انشقاقه عن الأرثوذكسية الإيرانية.
وفي احتجاج على الاحتكار القمّي للتعليم الشيعي، صمد سيد حارة حريك المعروف تقليدياً بهوى نجفي، والمعتدّ بتقديم نفسه وجهاً شيعياً عربياً. وراحت تتعاوره سهام آيات الله الإيرانيين ممن اتهموه بأنه «المُضل الضال»، آخذين عليه، بحسب اللغة القروسطية للأهاجي، إنكاره شهادة فاطمة الزهراء والنظر اليها كامرأة عادية، واعتباره مريم وحدها «سيدة نساء العالمين». وطوّر فضل الله، في تلك الغضون، تأويلات أكثر عصرية وأقل حَرفيّة، فحرّم ضرب الرأس بالسيف واللطم العنيف الذي ازدهر، في السنوات الأخيرة، في الضاحية، كما انتقد رفع الأئمة الى مصاف الأنبياء. أما في مواقفه السياسية، فجعل يولي التقاربين السني - الشيعي والإسلامي - المسيحي مرتبة من الاهتمام متقدمة.
وكان واضحاً أنه إنما يصل الثقافة الشيعية بما انقطع عند توقف المشروع التحديثي لموسى الصدر. وهذا ما استدعى تهذيب كثير من الخرافات التي تراكمت فوق الروايات الدينية الأصلية، لا سيما منها رواية عاشوراء. وغني عن القول إن محاولة كهذه بدت كافية لإثارة غيظ السفارة الإيرانية في بيروت وتحوّلها وكر تحريض عليه وتعبئة ضده.
وكان نايف كريّم أبرز من استهدفتهم حملة التفتيش تنقيةً للحزب من كل نفوذ، أو شبهة نفوذ، لفضل الله. فمدير تلفزيون «المنار» جسّد الضحية المباشر والسهل لـ«قُميي» الحزب، فعاقبه «المكتب التنظيمي» لنشره مقالة في جريدة «السفير» تستعيد أفكاراً لرجال دين كبار كالشيخ مرتضى مطهري. وعلى العقوبة ردّ كريّم بتقديم استقالة نشرتها «النهار» في 12/5/2003، سائلاً الله أن يحمي الحزب «من السلفية الشيعية ومن الهجمة الأميركية - الصهيونية»، ومشيراً الى اتهامه بأنه «خاتميّ الفكر والتفكير» و«فضل اللهي الفكر والأسلوب».
و«القُميّون» ممن كانوا أشد الضاغطين للاقتصاص من كريّم، مجرد واحد من الفصائل التي يصفها البعض بـ«الطالبانية الشيعية» داخل «حزب الله». فهم «مدرسة» جعلت محاربة فضل الله همّها الطاغي، فيما عاد تأسيسها الى جعفر مرتضى العاملي، الذي يقضي معظم وقته في قم. فالمذكور لم يكفّ عن إصدار البيانات التي تتطاول على أستاذه السابق وتُعمل فيه التكفير والتخوين، لا سيما في ما خص فاطمة. ويبدو الرجل أقرب الى شيعية صرفة، وغير سياسية، يؤرّقها إعداد الطائفة لعودة الإمام الغائب والابتعاد، تالياً، عن سياسات ما عادت تخدم قضية الشيعة من نوع «تحرير القدس». وغير بعيد من هؤلاء، يقف «حزب الأمير»، وأمير المؤمنين المقصود هو عباس دراهم، المعروف أيضاً بـ«أبو بشّار»، من بلدة مشغرة البقاعية. وقد قوي هؤلاء خصوصاً في عين الدلبة في الضاحية الجنوبية حتى سُمّـوا «مجموعة الدلبة». وهم بين أبسط الحزبيين وأقلهم علماً وثقافة، يعالجهم «الأمير» بالرقية وكتابة الأدعية والأحجية، الا أنه يغرس فيهم أفكاراً من العتم الخالص عن النساء، وعن أن الفتاة لا يجوز تعليمها بعد سن التكليف، أي التاسعة. ويُروى أن الأتباع، وفيهم كوادر في «حزب الله»، مقتنعون بأن أميرهم يجتمع، بين فينة وأخرى، بالمهدي المنتظر، فيما الحزبية عنده طقوس وعبادات مغالية لا تخالطها سياسة. والأميريون هؤلاء يشاركون القُميين في أن ما يعنيهم من الشأن العام الانتصار لإيران وحذو حذوها، لا لسبب الا كونها محكومة بالشيعية الإمامية.
وعلى مقربة من الطرفين، يقف «العرفانيون» تعبّر عنهم كتيّبات يحبّرها عباس نور الدين، وتنتشر في الضاحية وبعض الجنوب. وهم يأخذهم الجموح في محبة أهل البيت وتعظيم مكانتهم مما يُعرف في أدبياتهم بـ«المفوضة»، كما يعارضون أدنى نقاش لولاية الفقيه أو مراجعة لمبادئ الحزب، إذ هي من مسلّمات الخير المطلق. وبدورهم، لا يفوّت هؤلاء الاعتراض على تسمية الشيخ أحمد ياسين، أو غيره من رجال الدين والسياسة السنّة، شهداء. ذاك أن الشهادة، عندهم، ترتبط حصراً بالشيعة وقضيتهم. وهو عداء يجد، اليوم، حججه في أعمال أبو مصعب الزرقاوي في العراق وفتاوى بعض السنّة المتعصبين في ما خص الشيعة.
وظاهرات كهذه تشي بالفراغ الفكري الهائل لقواعد الحزب، فكأنما الجسم الموحد في المستوى الأمني متراخٍ ومفكك ما بين قيادة سياسية وقاعدة مؤمنين بعضهم يقارب الصوفية. وأخطر ما تُظهره التباينات أن التديّن والمزاودة فيه، مرفقين بالمزاودة في التماهي مع إيران، تكاد تترتب حتمياً على مقدمات الوعي الحزبي، لا سيما حين تسقط على محيط طائفي وقليل التسيّس. ويستنتج البعض ان الفارق بين التديّن والتسيّس هو السبب الأعمق وراء ضخامة الحشود في «تظاهرة الأكفان» تضامناً مع النجف، إبان القصف الأميركي لها، وبين هزالها النسبي في تظاهرة التضامن، قبل أسابيع، مع سورية في لبنان.
ويغدو من الصعب، والحال هذه، أن يقيم الحزب وحدة فعلية بين أشتاته ومكوّناته. فالانشطار البقاعي-الجنوبي توازيه معضلة الضاحية، ورمزها الخلاف الصامت بين الحزب والسكان «الأصليين» مما لم يتم تذليله الا شكلياً وسطحياً.
صحيح أن الخدمات أسكتت صوت التذمّر، ما عززه نوع من التحالف بين الوافدين الحزبيين وهوامش العائلات «الأصلية» وشرائحها الأفقر. مع هذا، لم تذوِ عصبية العائلات ومعها عصبية البرج كمنطقة انتُزعت منها صدارة المنطقة. وعن هذه الممانعة عبّر النائب، منذ 1992 ولثلاث دورات متلاحقة، باسم السبع الذي التف حوله المتعلمون والفئات الوسطى هناك. وما دام السبع قريباً من رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، بدا صعوده انحيازاً مداوراً الى الدولة والاستقرار والمشاريع التي أوحت لكثيرين باستعادة دورة الحياة الطبيعية.
وقبل أشهر وُزع «بيان من أهالي برج البراجنة» يرد على ما نُسب الى الشيخ عبد الأمير قبلان من «نُصح» لهم «بالابتعاد عن لعب القمار وسباق الخيل». ولم يفت البيان، وكأنه يساجل من داخل القيم التي عمّمها الحزب، الاشارة الى ان أهل البرج هم «من بذلوا كل غالٍ ونفيس في سبيل نصرة المقاومة والمقاومين»، فضلاً عن «مساهمتهم الفعّالة في إنجاح الحالة الإسلامية، إضافة الى احتضانهم لإخوانهم من مختلف المناطق اللبنانية ومساواتهم بأنفسهم». ويترجم التململ نفسه، كذلك، في الاحترام الذي يكنّه «الأصليون» لفضل الله، وفي التباس الولاء لدى حزبيين كثيرين في الضاحية بينه، كمرجع تقليد، وبين حزبهم، كأداة سياسية-خدمية. وهذا، على الأقل، ما يشي به إقبالهم على صلاته وخطبته أيام الجمعة في مسجد الحسنين. وقد تُرك الباقي للدعابة الشعبية: فحين حُرر الجنوب في 2000، وبات جنوبيو الضاحية يُكثرون التردد على قراهم، شاعت لدى «الأصليين» عبارة لم تكتم سخريتها: «ليتهم حرروه من زمان».
وهذا ما يرسم خطاً فاصلاً بين تأييد التحرير، بل الحماسة له طالما يحصل بعيداً، هناك، وبين انقلاب الحياة اليومية، هنا، بذريعة التحرير. فبالذريعة نفسها نما الحزب وأنتجت حوزاته جيشاً بعد آخر من صغار المشايخ الذين باتوا يقرعون أبواب «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى». فيقال، والحال هذه، إن نائب رئيس المجلس المقبل لا بد من أن يكون من الحزب. ذاك أنه بعد الاقتصار طويلاً على حوزتين تقليديتين للتعليم الديني في صور وبعلبك، شهد العقدان الماضيان نشأة نيّف وعشرين حوزة أقام الحزب قرابة ثلثيها. لهذا، وبحسب ما ذكرت تقارير صحافية، أصرت المراجع التقليدية في الطائفة، كالمفتي قبلان ورئيس المجلس بري، على حصر الاقتراع بقرابة مئة هم: المفتون والقضاة ومدرّسو الفتوى. وجاء، في المقابل، موقف نصر الله يصرّ على إغراق التمثيل بالعدد وإتاحة الاقتراع، من ثم، لمن درسوا «السطوح»، اي المرحلة المتوسطة ما بين «المقدمات» الابتدائية و«الخارج» أو الدراسات العليا.
وهنا، أيضاً، يبدو أن الحزب يواجه مشكلة لم يجد لها حلاً بعد، تتصل باختياره مَن يكون نائب رئيس المجلس. فقد تحدثت التقارير نفسها عن تنافس بين الشيخ محمد يزبك والسيد ابراهيم أمين السيد. ولئن كان الاثنان بقاعيين، ومنصب نائب الرئيس يعود حكماً الى بقاعي، بقي أن أولهما يتحدر من «حزب الدعوة» فيما الثاني يشارك نصر الله وكالته عن الولي الفقيه في لبنان. فإذا ما وقع الخيار على يزبك، باتت ولاية الفقيه تحاصر المؤسسة الشيعية اللبنانية الأولى، من خارجها وداخلها على السواء.