لم يدهشني أن يكون صدام حسين مدمنا للفياجرا التي كان يشتريها له رجاله من صيدليات خاصة في مدينة عمان.. ولم يدهشني أن تعلن وكالة المخابرات المركزية (الأميركية) أنها كانت تتابع كل قرص فياجرا يحصل عليه الرئيس العراقي السابق.. لكن.. ما أدهشني أنها اعترفت بتدبير محاولة لقتله بقرص فياجرا مسموم.. يقضي عليه بعد ساعتين من تناوله له.. فتكون جريمة.. وفضيحة.
إن السم وسيلة قتل ناعمة مثل الحرير.. تتستر وراء أغطية مغرية.. يتحمس لها ضحاياها.. بشغف.. ويقبلون عليها بحماس.. سيجار يدخنه حاكم كوبا فيديل كاسترو.. خاتم تضعه في إصبعها ملكة بريطانيا السابقة إليزبيث الأولى.. فنجان قهوة يرتشفه الزعيم الراحل جمال عبدالناصر..
كأس فودكا من الكريستال يتجرعه فيكتور يوتشينكو زعيم المعارضة الأوكرانية الذي انتخب رئيسا.. طبق محار شهي يلتهمه ملك مصر السابق فاروق الأول.. مثلا.لقد وضعوا على مائدة «يوتشينكو» كل ما يغريه من الطعام والشراب ممزوجا بالسم في أطباق وكؤوس فاخرة.. لكن..
غريزة الرجل التي تشم رائحة الخطر من بعيد جعلته لا يمد يده الى شيء أمامه في كل المآدب الرسمية.. الا أنه مدها الى طبق حساء من الكريمة الخفيفة في مائدة متواضعة كان يثق في أصحابها.. وكان طبق «الشوربة» المسموم.. وخلال خمسة أيام مجنونة بالألم ظهرت تقيحات في جسده.. وضاق تنفسه..
وسيطرت عليه أعراض الشلل.. وسافر الى النمسا للعلاج.. ومنها طار الى إسرائيل.. حيث أكثر مراكز السموم إبتكارا واختراعا.. ورغم أنه نجا من الموت فإنه بقى على قيد الحياة مشوها.. جاحظ العينين.. يبدو أكبر من عمره بثلاثين عاما على الأقل.
إن مركز السموم الإسرائيلي في «نيس تسيونا» بدأ وحدة صغيرة في معهد زوايزمانس للعلوم ثم تطور بدعم من المؤسسة العسكرية ليصبح مكانا سريا مثله مثل مفاعل ديمونة.. يتبع رئيس الحكومة.. مثله مثل الموساد وباقي أجهزة الأمن في إسرائيل.. وفي مدخل مركز «نيس تسيونا» صورة بارزة للطبيب اليهودي الشهير موسى بن ميمون الذي عاش في القرن الثاني عشر في القاهرة..
ووضع كتابا شهيرا عن السموم القاتلة وعلاجها.. وأوحى فيه بكيفية التخلص من الخصوم السياسيين بطريقة السم التي يصعب تحديد فاعلها.. وهي الطريقة التي برع فيها أطباء يهود غيره.. وأشهرهم الدكتور رودريجو لوبيز الذي قتل ملكة بريطانيا اليزبيث الأولى بخاتم مسموم تنفيذا لرغبة عدوها ملك اسبانيا فيليب الثاني وقبض عليه وحوكم وأعدم.
قبل يوتشينكو وضع السم لجمال عبدالناصر في فنجان القهوة.. قدمه إليه جارسون يوناني كان يعمل في «جروبي».. في وقت كان فيه «جروبي» مسئولا عن خدمة الطعام والشراب في حفلات رئاسة الجمهورية.. لكن.. كانت المخابرات المصرية على علم بما في فنجان القهوة قبل تقديمه الى الرئيس..
فقد جلس بحار يوناني يهذي تحت تأثير الخمر في أحد بارات الميناء في الاسكندرية بكلمات فهم منها الكثير.. وبعد أن وضعته أجهزة الأمن تحت بصرها اتضح أنه شاذ جنسيا وأنه والجرسون وستة أشخاص غيرهما (من بينهم إمرأة) يشكلون خلية الاغتيال.. فتركت المخابرات المصرية الجرسون يصل الى مداه.. وفي اللحظة التي كان يقدم فيها القهوة الى جمال عبدالناصر قبضت عليه.. وكشفت التحقيقات أن إسرائيل هي التي جندتهم.
كانت هذه المحاولة كفيلة بإقناع صلاح نصر - رئيس المخابرات العامة في ذلك الوقت - أن ينشئ قسما للسموم هدفه على حد قوله «أن يواجه إسرائيل بالأسلوب نفسه».. ووضع طعام وشراب الرئيس وعائلته وضيوفه تحت مراقبة صارمة..
وخصصت حجرة في بيته كي تكون معملا يفحص كل ما يقدم على مائدة الرجل الأول أشرف عليها الدكتور صلاح جبر.. كبير الصيادلة برئاسة الجمهورية الذي استخدم وسائل فنية متطورة لكشف السموم حسب ما قاله لي مباشرة سامي شرف مدير مكتب جمال عبدالناصر مؤخرا.
وفي زهوجةس الهجوم على جهاز المخابرات المصرية بعد هزيمة يونيو 1967 اتهم قسم السموم بها بالتخلص من آخر ملوك مصر فاروق الأول وبصورة مباشرة كان الإتهام من نصيب إبراهيم بغدادي.. أحد القيادات البارزة في الجهاز.
. وقد أصبح فيما بعد محافظا للقاهرة.. وقد واجهته بنفسي فيما نسب إليه.. واجهته بأنه دس سم الأكوانتين (الذي يقتل ولا يترك أثرا) في طعامه الذي كان يتناوله في أحد مطاعم روما.. في تلك الليلة أكل الملك فاروق وحده دستة من المحار وجراد البحر وشريحتين من لحم العجل مع بطاطس محمرة وكمية كبيرة من الكعك المحشو بالمربى والفواكه..
بعدها شعر بضيق في التنفس واحمرار في الوجه ووضع يده في حلقه.. لكن.. الأطباء الإيطاليين الذين سارعوا لنجدته لم يشكوا في أن الوفاة جنائية فلم يطلبوا تشريح الجثة.. وكل ما قالوه: إن رجلا بدينا مثله يعاني من ضغط الدم المرتفع وضيق الشرايين لابد أن يقتله الطعام.
أما إبراهيم بغدادي (الذي تفرغ لرسم لوحات زيتية متواضعة) فقد قال لي: «لم أقتله ولم أساعد على قتله.. ولم تقتله الثورة ولا فكرت في ذلك».. لكن.. عندما تحمس جمال عبدالناصر لدفن الملك فاروق في مصر الى جوار أبيه في مسجد «الرفاعي» بالقاهرة لم يسلم من «التلسين».. وقيل إنه فعل ذلك بعد أن قتله حتى يضمن بقاء الجثمان تحت سيطرته فلا يفكر أحد في تشريح الجثة.. على أنه بعد وفاة جمال عبدالناصر وجدت عائلة الملك السابق من يشجعها على طلب تشريح الجثة.. لكنها رفضت مؤكدة أنه مات من التخمة.
وسم «الأكوانتين» يوصف بالذئب الخانق.. وتكفي جرعة صغيرة منه لا تزيد عن مللي جرام كي تكون قاتلة وفور سريانه في الدم تسيطر حمرة على الفم والحلق واللسان وترتعش الشفاة وتحدث الوفاة ما بين نصف ساعة وست ساعات.. ولعل عدم ظهوره في التشريح هو ما جعله السم المفضل لشائعات الاغتيال السياسية في مصر.
. إن الملك فاروق ليس وحده الذي أشيع قتله بذلك السم.. لكن.. ذلك أشيع أيضا بعد إنتحار المشير عبدالحكيم عامر.. وهي تهمة شهيرة حققتها النيابة العامة أكثر من مرة وفي كل مرة كانت تحفظ التحقيق مؤكدة أن نهاية الرجل الثاني في مصر كانت بيده لا بيد غيره.
ولم ينج جمال عبدالناصر من شائعة أنه قتل هو أيضا بالسم.. لكن.. ليس بسم «الأكوانتين» وإنما بسم إسرائيلي آخر سربه الى جسده طبيب العلاج الطبيعي «علي العطفي» بالتدليك.. لقد جندته إسرائيل بعد أن ذهب بنفسه الى سفارتها في هولندا مقابل أن تساعده في الحصول على الدكتوراة حتى يضمن استمراره عميدا لمعهد العلاج الطبيعي في القاهرة.
وقد رحبت به الموساد.. واستخدمت علاقاته في غرف التدليك برموز السلطة في مصر للحصول على ما يبوحون به من أسرار وهم تحت تأثير أصابعه وهي تغوص في عضلات الظهر والساقين.. وقد قبض عليه وهو في بيته بحي الزمالك.. وكشفت أجهزة الإرسال وأدوات التجسس بين نسخ مختلفة من القرآن الكريم.
والمؤكد أن كل الدلائل تشير الى أن رواية قتل جمال عبدالناصر بأصابع علي العطفي المغموسة في السم والمدربة على التدليك رواية لا تستطيع أن تقوم بمفردها إلا في مجتمع لا يثق في نفسه.. مجتمع يرى أنه أصبح مستباحا.. يقتل فيه الحاكم بالزيوت العطرية وبخار السونا.
لقد احتاج جمال عبدالناصر الى التدليك والعلاج الطبيعي في فترات زمنية لا يمكن الخطأ في تحديدها.. في الفترة ما بين نهاية عام 1966 وحتى إصابته بأزمة قلبية في سبتمبر عام 1969.. إن تلك الأزمة أوقفت العلاج الطبيعي وجعلته نوعا من الإرهاق البدني لا يستطيع قلبه تحمله.. وكان من غير المعقول معالجة الساق بالتدليك على حساب إرهاق القلب..
والثابت أن علي العطفي لم يذهب الى الإسرائيليين إلا في الوقت الذي لم يعد فيه جمال عبدالناصر في حاجة الى التدليك والسونا وحمامات المياه.. وهو ما تقوله أوراق القضايا التي اتهم فيها علي العطفي (القضية رقم 318 لسنة 1979 حصر تحقيق أمن دولة عليا - والقضية رقم 7 لسنة 9 قضائية محكمة القيم).
إن علي العطفي لم ينل ثقة الموساد إلا في عام 1971 بعد رحيل جمال عبدالناصر.. وقد نفى كل المقربين من الزعيم الراحل أنهم عرفوا أو سمعوا عن علي العطفي إلا بعد القبض عليه.. لقد أكد ذلك بيقين قاطع سامي شرف (وزير شئون الرئاسة) ومحمد أحمد (سكرتير الرئيس الخاص) وعبدالمجيد فريد (أمين الرئاسة لمدة 11 سنة) الذي وصف ذلك بأنه شائعة لا أساس لها من الصحة.
ولو أن علي العطفي دخل بيت جمال عبدالناصر لكان بمعرفة واحد من هؤلاء الثلاثة أو عن طريقه.. إن ذلك بالتحديد من صميم عمله.. كما أنه من غير المعقول أن يتصل به الرئيس مباشرة ويدعوه بنفسه.. وقد جرت العادة أن تتولى المخابرات العامة اختيار الأشخاص الذين يعملون في الرئاسة أو يترددون - بحكم عملهم - على بيت الرئيس..
وحسب المعلومات المتوافرة فإن المخابرات العامة اختارت شابا رياضيا متفوقا في الجودو والمصارعة والتدليك اسمه «زينهم» كان موظفا تابعا لأحد أقسامها.. اختارته ليقوم بمهمة العلاج الطبيعي والتدليك والتمارين الرياضية الخفيفة..
وكان زينهم يأتي الى بيت الرئيس مرتين أو ثلاث مرات اسبوعيا.. وأحيانا يأتي في غير موعده.. عند الطلب.. وقد انتقل زينهم الى الرئاسة بعد تولي أنور السادات السلطة وأصبح «مدلكه» الخاص وأحد افراد حراسته ولم يترك زينهم عمله إلا بعد حادث المنصة.
ولو كانت إسرائيل قد قتلت جمال عبدالناصر بسم يتسرب عبر عضلات الساقين فلماذا فوجئت بوفاته في 28 سبتمبر 1970.. لقد دقت أجهزة التيكرز من إسرائيل تعليقا يقول: إنها «استقبلت نبأ وفاة جمال عبدالناصر بذهول وترك الخبر الحكومة هناك في حيرة تامة في وقت لم يكن ثمة ما يدعو الى الظن بأن صحة الرئيس المصري تدعو الى القلق».. ونقل عن جولدا مائير أنها قالت بعد أن عرفت أن جمال عبدالناصر مات: «من الذي أطلق هذه النكتة السخيفة».. لقد كان في رأيها لا يموت.