كثيرة مظاهر القلق التي تغمر الحياة في مصر في الآونة الأخيرة والتي تراكمت نتاج السنين ونتيجة سياسات بيروقراطية وأخطاء إدارية ليست سياسية فحسب وإنما اجتماعية واقتصادية بل وحتي رياضية ولم تزل فضيحة الصفر التي منينا بها في تنظيم مونديال كأس العالم تقض مضاجع المصريين.
والمشكلة الحقيقية هي عدم رغبة أهل الحكم في سماع نصائح المخلصين المحبين لبلدهم الراغبين في العدل، وما أسهل فبركة التقارير التي تصور كل نصيحة علي أنها تآمر، وكل تجمع لعباد الله المؤمنين يذكرون الله فيه يتحول إلي لقاء تنظيمي مؤثم وفقا لقانون الطوارئ حتي امتلأت السجون بآلاف الشباب الذين لم يقترفوا إثما أو يرتكبوا جريمة.
والانفلات الذي أشرت إليه في المقالين السابقين خلال أزمة السيدة وفاء قسطنطين يكشف عن خلل اجتماعي عميق وينبيء عن ترهل السلطة وضعف قبضتها واستقواء بعض مواطنيها عليها بحكومات وقوي أجنبية، في الوقت الذي تبطش فيه بحركة المعارضة الوطنية علي اختلاف فصائلها ومرجعيتها.
واستوقفني ما جري في سجن أبو زعبل خلال الشهر الماضي، حيث يقبع به بضع مئات من الذين تحسبهم السلطات الأمنية علي جماعات الجهاد، وهؤلاء لم يطلقوا مبادرة كتلك التي أطلقها زملاؤهم من تنظيم الجماعة الإسلامية مما تسبب في غضب تلك السلطات عليهم ولجوئها إلي معاملتهم بقسوة في محاولة لحملهم علي التسليم بطريقة لمس الأكتاف وتغيير أفكارهم والاعتراف بأن الحكومة حلوة وشرعية وكل تصرفاتها سليمة وأنه لا يعرف الخطأ سبيله إليها وكل العاملين فيها والمستوظفين والمستوزرين حتي يغضب عليهم فيتحول المغضوب عليه فورا ويصبح تحت مواطئ النصال والسكاكين وأخرهم الدكتور يوسف والي الذي تحكم في عباد الله دهرا وفشلت كل محاولات حزب العمل وجريدة الشعب ومن بعدهم مصطفي بكري وجريدة الأسبوع في إقناع أهل الحكم بفساد سياساته وسرطنته لأرضنا وزرعنا وفجأة تحول الرجل إلي شبح ومطية يركبها كل ناعق بالحق وبالباطل، وقبل ذلك عشنا ردحاً من الزمن نتابع قصص نواب القروض ومحترفي الرشاوي وتأجير البرامج في ماسبيرو، والمتطرفون من أمثالي محرمون من بلوغ رصيف مبني ماسبيرو، وبقدرة قادر سافر كل المقترضين ورجال الأعمال وسافرت معهم أموال البنوك التي نهبوها لكن شباب التيار الإسلامي محظور عليهم السفر وكما يقولون ليس لديهم ظهر !! المهم حاول هؤلاء الشباب - أو الذين كانوا شبابا حينما دخلوا السجون والمعتقلات لأول مرة من عقدين أو أقل قليلا - أن يلفتوا انتباه المعنيين بالأمر داخل أروقة السلطة أنهم فعلا قرروا عدم اللجوء إلي العنف وأنهم خلصوا فعلا إلي عدم فاعلية اللجوء إلي السلاح لتنفيذ مشروعهم، لكن لا حياة لمن تنادي، فالمطلوب هو الاعتراف بالخطأ أو الخطل، وأن فكرهم كله شر، وأن سعيهم كله تآمر، ويبصموا علي بياض، قال بعضهم خلاص نظهر خلاف ما نبطن ونسلم بالأمر وتمكنوا بذلك من تحسن حالتهم داخل السجن ويتمكنوا من زيارة ذويهم زيارة " بطانية " أي علي الأرض يفترشون بطانية بدلا من الزيارة عبر الأسلاك وداخل الأقفاص وهذا كل ما جنوه، استمسك آخرون بموقفهم ورفضوا الدنية في دينهم، ولم يجد هؤلاء بد من إعلان هؤلاء الشباب في سجن أبو زعبل الإضراب عن الطعام احتجاجا علي سوء المعاملة وطلبا لحقوق كفلتها لهم القوانين واللوائح التي وضعتها السلطات وليس المعتقلون، غير أن المحرج للعبد لله أنهم أرسلوا في طلبي والاستغاثة بي من بعد الله لأساعد في كشف الغمة وأوصل صوتهم للمسئولين والسلطات القضائية وضربت أخماساً في أسداس، منهم أقارب لي ومنهم رفاق عمري وزملاء برش قضيت معهم أحلي سنوات عمري في السجون والمعتقلات، وفي الوقت نفسه أخشي أن تفهمني السلطة خطأ فإذا قدمت شكوي تعتبرني نكصت علي قدمي وصبأت وعدت لنشاطاتي التنظيمية بتاعة زمان!! وإذا غضبت علي السلطة سيكون الطريق ممهدا لدخولي السجن من جديد وقد كبرت ولم أعد تحمل زمهرير الشتاء في غياهب السجون. خطرت لي خاطرة أن أكتب كلمتين في صحيفة من صحف المعارضة التي لا تلقي لها السلطة بالا وتنزع ثياب رؤساء التحرير فيها في قارعة الطريق وأكون بذلك قد أرحت ضميري وفعلت ما يمليه علي ضميري وقد كان، كتبت كلمتين في صحيفة العربي موجها كلامي للنائب العام وليس لأحد أخر رجوته أن يسمع لهؤلاء المضربين المحتجين وكما توقعت لقد أسمعت إذ ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي . وصلتني رسائل أخري من عديلي " مجدي سالم " وأخرين يهتفون في ضميري ويصرخون في نخوة رجولتي لا تشتري الفانية بالباقية يا رجل وكن كما عهدناك رجلا، اتصلت بي هاتفيا زوجة الأخ عبود الزمر باسمه يرجوني أن أفعل شيئا ويمكن أن يتحمل هو كلفة المصروفات وأتعاب المحاماة فجرحتني كلماتها، واتصلت بي شقيقة زوجتي وهي زوجة أخي وصديقي ورفيق دربي مجدي سالم ترجوني أن أغيث زوجها فربما يصاب بعمي في بصره، استجمعت شجاعتي وحملت أقدامي وتوجهت إلي النيابة المختصة المسئولة عن سجن أبو زعبل استقبلني رئيسها استقبالا حسنا يليق بالمشاهير من أمثالي !! قدمت له بلاغي انزعج وأصابه الذعر قال لي بصوت خفيض " يا أستاذ أنا موظف أنتظر راتبي أخر الشهر لأطعم أولادي " شعرت بالأرض تمور من تحت قدمي ودواراً يطيح برأسي ماالذي أسمع ؟ وبعد أخذ ورد كلف رئيس النيابة أحد مرءوسيه للانتقال إلي السجن للتحقيق وسماع أقوال المضربين عن الطعام . لكن الوقت لم يكد يمر حتي عاد وكيل النيابة منزعجا قلقا فعلمت منه أن إدارة السجن لم تسمح له بدخول السجن وكل ما سمحوا له به أن يكتب كلمتين علي لسان مأمور السجن بعدم حدوث أي إضرابات في السجن وكله تمام وكمان كلمتين من طبيب السجن وهو بالمناسبة ضابط شرطة أيضا يردد نفس الكلام والوحيد الذي لم يسمعه جناب وكيل النائب العام هو صاحب الشكوي !! المضرب .. المعتقل .. الذي فعل ما فعله ليصرخ في حضور ضمير المجتمع رجل النيابة عاوز حقوقي في السجن، لا أريد الخروج من السجن لأنه أكبر من قدراتكم، أريد أن أعيش داخل السجن في أمان وسلام، قيدوا حريتي كما تشاءون لكن عاملوني كإنسان . تخلصت من كل مشاعر الخوف أو الحسابات المتوازنة وصرخت في رئيس النيابة يا رجل نفذ القانون، كيف جعلت من المشكو في حقه قاضيا خصم وحكم في آن، لكن كانت كلماته تخرج يائسة خانعة خائفة مرتجفة لديه أولاد وزوجة ووظيفة ؟ كلام كثير يمكن أن أقوله هنا في هذا الموضع وداخل هذا السياق عن أسباب العنف والإرهاب الذي نشأ دائما داخل السجون والمعتقلات، وعن هيبة القضاء الضائعة، وعن اختلال الموازين إذا اختل العدل في الميزان.
لكن سأترك ذلك كله لفطنة القارئ وخيبة أمله.. قال إصلاح قال .. ولله في خلقه شؤون.