عبر كثير من الفلسطينيين عن قلقهم من نتائج الانتخابات البلدية الفلسطينية وما قد تأتي به الانتخابات البرلمانية المقرر مباشرتها خلال صيف هذا العام. فأولا سجلت حماس لنفسها إنجازاً تصويتياً ومعنوياً كبيراً. ويعني ذلك أن الانتفاضة حولت حماس من حركة صغيرة وإن كانت حسنة التنظيم إلى حركة شعبية أيضاً، وهو ما يدرج فلسطين في فئة الأقطار العربية التي تعاني من استقطاب سياسي ثنائي حاد. وثانياً حققت حركة فتح فوزاً انتخابياً إجمالياً وظهرت بأغلبية واضحة، ولكن الناخب الفلسطيني عاقبها باقتدار وأسقط أعداداً كبيرة من المحسوبين على حركة فتح بسبب سوء سمعتهم. وإذا استمر هذا الاتجاه يخشى كثيرون من أن تتجه الحركة التي تمثل القلب السياسي إلى التدهور والضعف. ومن ناحية ثالثة تتفق تقديرات كثير من المراقبين على أن الانتخابات البلدية اتسمت ببروز العشائرية وهو ما قد يؤدى في تقديرهم إلى إضعاف التماسك الوطني. هذه المخاوف ليست وهمية. ولكن في المقابل يمكن للانتخابات أن تحدث ثورة حقيقية في المسار التاريخي للحركة الوطنية الفلسطينية.
فالانتخابات تلعب في حياة الشعوب أدواراً تاريخية بالغة الأهمية. فهي تنضج عملية بناء الأمة بصورة جذرية، كما أن الانتخابات الفلسطينية بالذات قد تمثل منصة متقدمة لبناء الدولة. فالفعل الانتخابي بذاته يدخل الشعوب إلى التاريخ باعتبارها أمماً. وطالما أن المجتمع يقبل بتكون حكومة لم يصوت لها غير جزء منه ويمنحها الشرعية ويدين لها بالولاء فهو يعامل نفسه كأمة. وبتعبير آخر فإن القبول الطوعي بشرعية حكومة حازت على أغلبية الأصوات من جانب من لم يصوت لها يعني الاعتراف بأن هذه الحكومة تمثل الأمة وليس الذين صوتوا لها فقط.

والانتخابات البلدية في الأرض المحتلة عكست هذه الحقيقة حتى لو أنها اتسمت بالعشائرية. ولكن نتائج الانتخابات الرئاسية أهم في الدلالة على قضية الشرعية والنضوج السياسي للمجتمع الفلسطيني كأمة تعددية في بنيتها السياسية والاجتماعية.
وتتنافس في هذه الانتخابات فصائل شتى. ولكن المنافسة الأهم نشبت بين القوى الثلاث الأكثر تنظيماً في المجتمع الفلسطيني: البيروقراطية السياسية- الأمنية التي تبلورت حول كادر القيادة الفتحاوية، والقوى الجمعياتية الحديثة والتي تمثلها بالذات مدينة رام الله بتركيبتها المكونة أساساً من الطبقة الوسطى المهنية الحديثة والتي تتجاوز الوعي الجهوي والعائلي. وهناك مركب اجتماعي واسع الطيف يدعم حركة حماس ويتكون من طبقة المزارعين والتجار الميسورين فضلا عن قطاع مهم من سكان المخيمات. ولا شك أن البيروقراطية السياسية الأمنية التي أسسها عرفات هي الأقوى وهي التي دارت حولها ليس فقط عملية بناء السلطة وحدها بل وربما عملية بناء الأمة الفلسطينية كذلك. ولكن أداء هذه البيروقراطية منذ أول انتخابات رئاسية وبرلمانية عام 1996 كان بعيداً عن التعبير عن طموحات الطبقة الوسطى الحديثة في رام الله. وقد مالت هذه الطبقة لتنظيم نفسها أساساً في الفضاء الجمعياتي كوسيلة لوقف تجاوزات السلطة وإخضاعها لمبادئ حكم القانون والمؤسسات والعمل على بناء اقتصاد حديث وجهاز دولة محايد سياسياً ويقوم على الكفاءة وليس المكانة السياسية أو الولاء للرئيس. أما حركة حماس فقد نجحت في تنظيم القطاع الذي كان صامتاً من الناحية السياسية وهو صغار الملاك الزراعيين وقطاع من سكان المخيمات الذين تعرضوا للتهميش. ولا شك أن مقاطعة حماس للانتخابات الرئاسية تقلل من دلالتها، ولكن نسبة التصويت هي العامل الحاسم في المعادلة السياسية وبالنسبة لمؤشر بناء الأمة.
وبينما تضر مقاطعتها للانتخابات الرئاسية الطموح لبناء ديمقراطية فلسطينية فإن فوز حماس بأصوات مؤثرة في الانتخابات البلدية وبروزها كتحدٍّ مهم لحركة فتح هو أمر مفيد لها. فليس من الممكن إطلاقاً بناء ديمقراطية حقيقية بدون منافسة انتخابية جادة. ولم يكن من الممكن للمجتمع المدني الفلسطيني أن يقوم بهذا الدور نظراً أولا لافتقاره إلى قاعدة قوة منظمة من الناحية السياسية. فقيادات المجتمع المدني التي يمثلها مصطفى البرغوثي كانت جزءاً لا يتجزأ من حركة فتح والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والماركسيين الفلسطينيين. وبتعبير آخر فإن هذه القيادات تنافس حركة فتح على النفوذ داخل نفس الفئات المهنية التي تكونت منها الفصائل الأساسية للمنظمة. ولذلك كانت هناك حاجة موضوعية إلى حماس لكي تنافس فتح منافسة قوية من النوع الذي شهدناه في الانتخابات البلدية. ويقود تفاعل القوى الثلاث إلى نتيجة مباشرة أفضل للجميع وللوطن الفلسطيني. فالمجتمع المدني ممثلا بمصطفى البرغوثي سيمكنه أن يخضع السلطات الحكومية والأمنية بالذات للمساءلة بفعالية أكبر. وطالما أن هذه السلطة فقدت هيمنتها المطلقة بسبب المنافسة مع حماس فهي ستضطر لإرضاء المجتمع من خلال الأداء المهني الأفضل. ومن المرجح أن تؤدي الانتخابات بمراحلها ومستوياتها المختلفة إلى نتائج ثورية بعيدة المدى تلخصها النقاط التالية:
أولا: تبلور الخيارات المتاحة على مستوى العملية السياسية الداخلية بدرجة أكبر وأفضل. ويضيف هذا العامل خصوبة كبيرة للمناظرات التي تتم في الأرض المحتلة حول جميع القضايا. وهي تضيف كثيراً كما ألمحنا لعملية بناء الأمة وخاصة بعد رحيل عرفات كقيادة تاريخية وانتخاب أبو مازن رئيساً جديداً للسلطة بمواقفه المعروفة التي تبلور بدرجة أكبر عملية الفرز السياسي باعتبارها صنع خيارات فكرية واستراتيجية متباينة بالفعل. وعلينا أن ننتظر لنرى إلى أي حد يقود هذا الانتخاب إلى اصطفاف خلف فكرة الشرعية وإرادة الشعب. ولو التزم الجميع ستقل كثيراً هيمنة السلاح والمال على عملية صنع القرار والسياسة مقابل صعود السياسة والفكر كما تتبلور في أصوات ونسب تمثيلية.
ثانياً: تستجيب تلك الانتخابات للحاجة العميقة لإعادة تنظيم جهاز السلطة الوطنية الذي أداره الرئيس عرفات بقدر مذهل من الفوضوية. وهنا قد نشير إلى أن التفوق الوحيد لأبو مازن المرشح الرسمي لمنظمة التحرير وحركة فتح تحديداً هو أنه يقترب كثيراً من نمط القيادات البيروقراطية التي تتمتع بقدر كبير من الإدارة المنهجية بالمقارنة بأبو عمار أو بالزعامات التاريخية القليلة الأخرى داخل فتح. فهو "رجل دولة" بينما غالبية هذه القيادات كانوا رجال ثورة. أما الحاجة الملحة لبناء نظام دولة بصورة منهجية فتتضح من الفوضى ومحدودية الكفاءة إلى ميزت السلطة الوطنية منذ نشأتها عام 1996 وأدت إلى إهدار مذهل للقدرات الفلسطينية بل وأدت إلى فوضى تضرب جوهر عملية بناء الأمة وعملية بناء مجتمع سياسي حقيقى فضلا عن إضعاف الاقتصاد والإدارة المدنية وخدماتها الضرورية لحياة الشعب الفلسطيني.
ثالثاً: إن فوز حركة فتح بالأغلبية – دون أن تتمتع بالهيمنة- في الانتخابات البلدية والبرلمانية المقبلة يحتم تحريرها من العصبوية والفوضوية ويضطرها للقيام بعملية مراجعة جذرية لأساليبها في إدارة السلطة بما فيها الأجهزة الأمنية وتطهير لكوادرها التي اهترأت وجمدت حول أساليب عمل لا تخلو من الفساد وسوء استخدام السلطة. ولو أن هذه العملية تمت بالقدر المناسب من الجدية والمهنية من المحتمل أن تقود إلى ترقي البرنامج السياسي للحركة وللسلطة معاً على نحو يعطي قوة دفع حقيقية لتبلور مجتمع سياسي فلسطيني أرقى من حيث مستويات النقاش العام والكفاءة في إدارة المجتمع والاقتصاد.
رابعاً: قد تفرز الانتخابات وفوز أبو مازن قيادات جديدة، وبذلك تضيف إلى حيوية النخبة الفلسطينية وتعكس تنوع خبراتها واهتماماتها وقد تسمح بصعود الجيل الوسيط الذي يمثله مصطفى ومروان البرغوثي إلى صدارة الحياة السياسية الفلسطينية.