هل ان اصرار الرئيس الأميركي جورج بوش على اجراء الانتخابات في العراق، على رغم كل الانقسامات التي ترافقها، بفعل مقاطعة المزيد من القوى السنّية لها، هو مجرد حرص على الايفاء بالتزامه أمام الأميركيين والعالم بأنه سينقل الشرق الأوسط الى الديموقراطية، بدءاً من العراق، أم أن وراء هذا الاصرار أهدافاً أخرى؟
ليس تأجيل الانتخابات، أي انتخابات، خطوة محمودة بالطبع، لأنها أينما كانت، هي تأجيل لاستفتاء شعبي ولممارسة الناس تفويضاً لقادتهم، ولأن التأجيل يحول دون انعكاس موازين القوى بين التيارات السياسية في أي مجتمع، داخل السلطة.
لكن في حال العراق قد تكون الانتخابات انعكاساً لمزيج من موازين القوى ومن الفوضى السياسية والأمنية التي تعيشها بلاد الرافدين. وهذا يجعلها ترجمة غير صحيحة لموازين القوى والتيارات السياسية في المجتمع العراقي، والريبة حيال الموقف الأميركي منها والاصرار عليها، على رغم الانقسام الذي تحمله، مصدرها ان كبار العسكريين والمسؤولين السياسيين الأميركيين في بغداد وفي واشنطن، يعتبرون ان توحد العراقيين، لا سيما السنّة والشيعة إذا حصل، فهو سيكون ضد الاحتلال الأميركي. انه العامل الأساس الذي يحقق هذه الوحدة العراقية، باعتراف المسؤولين الأميركيين الذين تحدث اليهم رئيس تحرير طبعة «هيرالد تريبيون» الأوروبية، ديفيد أغناشيوس (مقاله ليوم الثلثاء الماضي).
يصبح في هذه الحال الانقسام السنّي - الشيعي حول الانتخابات مريحاً للأميركيين، لأنه يؤجل عنصر توحدهم الذي هو مطالبة قوات التحالف بالانسحاب.
بات السؤال يتناول مرحلة ما بعد الانتخابات في أوساط التحالف ولا يتناول على الاطلاق إمكان تأجيلها، على رغم تزايد الدعوة الى هذا الخيار، وآخرها ما طالبت به «نيويورك تايمز» أمس. فهو خيار غير وارد بالنسبة الى بوش وبريطانيا، بدليل اعتبار الادارة الأميركية اتمامها تحدياً في العلاقة مع دول الجوار، التي ألحت عليها واشنطن أن تدعو القوى العراقية المختلفة الى المشاركة فيها مهما كان الثمن، وتحدياً في العلاقة مع أركان السلطة العراقية الموقتة الذين فكروا للحظة في إمكان التأجيل تفادياً للانقسام الحاصل.
لقد جعل الاصرار الأميركي على الانتخابات، شعار إقامة الديموقراطية في العراق، على أهمية هذا الهدف في دولة عربية رئيسة، شعاراً دوغمائياً شبيهاً بشعارات الاتحاد السوفياتي السابق حول اقامة الاشتراكية لتأمين رفاه الشعوب ومناهضة الامبريالية. فما يختبئ وراء هذا الشعار الآن هو الخيار بين ان تقوم واشنطن بإدارة الصراع العراقي الداخلي الذي يرجَّح أن يضع الشيعة والسنّة في مواقع متقابلة. فمراكز صنع القرار الأميركي لا تخفي هذا التوجه بعد أن أعلنته «سي آي إيه» قبل أسابيع، خصوصاً أن هذه المراكز تتوقع تعايشاً أميركياً مع نوع من التقسيم الجغرافي - السياسي - الطائفي للعراق، يشمل خيراته، وهم وضعوا منذ مدة خطط الاستثمارات والانماء في مناطق الشمال والجنوب، آخذين في الاعتبار تأجيلها الى إشعار آخر في الوسط.
الدوغمائية الأميركية ستنتج في رأي الأميركيين ديموقراطية في العراق، لكن البراغماتية الأميركية ستنتج مرحلة جديدة من الصراع الداخلي الذي ترعاه الولايات المتحدة بواقعية باردة، تستند الى رؤية تطوير الإمكانات العسكرية للجيش والشرطة العراقيين، الأمر الذي يحتاج الى سنوات كي يتمكن العراقيون من حصد نتائجه شيئاً من الاستقرار.
ثمة خيار آخر هو ما تهيئ له بعض القيادات الشيعية من مساع لتوحيد الموقف مع القيادات السنيّة، عبر الحكومة التي يفترض تشكيلها، بعد الانتخابات... هل ستصبح الأخيرة حجة لمطالبة المزيد من القوى بانسحاب قوات التحالف، ما دام العراقيون اختاروا من يحكمهم؟