من المفترض ان تكون الكويت، والمملكة العربية السعودية خاصة، ودول الخليج العربية عامة، من اكثر دول العالم امانا واستقرارا، بعد عشرين شهرا من احتلال العراق، والاطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، ولكن الوقائع علي الارض هذه الايام توحي بعكس ذلك تماما، ومن يطالع الصحف الكويتية والسعودية، ومحطات التلفزة الرسمية في البلدين، منذ تصاعد الهجمات علي مواقع امريكية وامنية في البلدين، يخرج بانطباع ان البلدين في حال حرب ضروس، وان المستقبل ربما يكون اكثر قتامة من الحاضر، علي الاصعدة كافة، الامنية، والسياسية، والاجتماعية.
السؤال الذي يطرح نفسه بالحاح هو: لماذا انقلبت الامور بهذه الصورة المرعبة، وجاءت النتائج عكسية. واين مواقع الخلل، والي اي مدي يمكن ان تستمر حالة الاضطراب الامني هذه، وما هي انعكاساتها علي المنطقة؟
للاجابة علي كل هذه الاسئلة وغيرها لا بد من التوقف عند مجموعة من الحقائق نوجزها في النقاط التالية:
اولا: التهديد الاساسي لامن الخليج يأتي من ثلاثة مصادر اساسية، بعضها منظور، مثل الجماعات الاسلامية الجهادية المتطرفة، وبعضها خفي مثل العمالة الاجنبية التي تعيش في ظل اوضاع مزرية، ودون اي حقوق، وبعضها الثالث استعماري سياسي واقتصادي يتمثل في الوجود العسكري الغربي، والامريكي منه علي وجه الخصوص.
ثانيا: الجماعات الاسلامية الاصولية، التي تمثل قمة رأس الجليد في التهديد الامني الحالي، لا تمثل ايديولوجية مستوردة، مثل الشيوعية او الاشتراكية او حتي القومية، وانما هي انتاج اصيل للمجتمعات الخليجية، وتجسيد لثقافتها الدينية والحضارية، ولذلك لا يمكن تصدير الاتهام الي اطراف خارجية بشأنها، مثلما كان عليه الحال في الماضي اثناء المد اليساري والقومي.
ثالثا: وجود اعتقاد راسخ لدي القيادات الخليجية، الشابة منها والكهلة، ان الولايات المتحدة الامريكية هي القوة الوحيدة التي يمكن ان تحقق لها الحماية والاستقرار، ولهذا بادرت الي اقامة علاقات وثيقة معها، وتأطير هذه العلاقة بمعاهدات امنية وقواعد عسكرية. وهذا مفهوم صحيح في بعض جوانبه، وخاطئ في جوانب اخري. فالقوات الامريكية ربما تستطيع حماية هذه الدول (كبيرة وصغيرة) من عدوان خارجي (العراق سابقا، وايران حاليا) ولكنها لا تستطيع حمايتها من التهديدات الداخلية (الارهاب)، والثورات الاجتماعية. ووجود 150 الف جندي امريكي لم يمكن الحكومة العراقية المؤقتة من الخروج عن نطاق مربع المنطقة الخضراء ببغداد، وحماية وزرائها من الموت اغتيالا.
ولعل عملية التحديث المتسارعة التي تعتمدها الدول الخليجية هذه الايام، هي احد اكبر مصادر الخطر الذي يهددها، وربما يؤدي الي زعزعة استقرارها بصورة اكبر في المستقبل، ليس لاننا ضد التحديث، وانما لاننا نخشي من الطريقة التي يتم اتباعها لتطبيقها.
نشرح اكثر ونقول ان الدول الغربية، التي تعتمد قيادات الخليج الشابة، تجربتها الحداثية نموذجا، حمت هذه التجربة الحداثية من خلال تحقيق اكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية والاصلاحات السياسية والقضاء المستقل، والصحافة الحرة، والممارسة الديمقراطية، والفصل بين الكنيسة والدولة.
الدول الخليجية تأخذ من الحداثة قشورها فقط، اي الفنادق الفخمة، والملاهي الليلية، والطرق الحديثة، والخدمات الجيدة، اما العدالة الاجتماعية فهي غائبة تماما، والديمقراطية نادرة الوجود، وان وجدت فهي قبلية في بعض جوانبها (الكويت)، وذات طابع طائفي في جوانب اخري (البحرين).
القوي الاسلامية المتطرفة عبرت عن امتعاضها ورفضها لعملية التحديث المقرونة بالتواجد الاجنبي، من خلال الهجمات التي تشنها بشراسة في كل من المملكة العربية السعودية والكويت، بينما العمالة الاجنبية ستتمرد علي الظلم الجائر الواقع عليها في المستقبل، مع ملاحظة ان نسبة كبيرة من هذه العمالة من المسلمين، وتأتي من دول تشهد ازدهارا للفكر الاصولي الاسلامي، مثل افغانستان وباكستان وايران.
معركة الحكومات الخليجية مع التيار الجهادي الاسلامي مازالت في بدايتها، ويصعب اصدار احكام قاطعة بشأنها حاليا، ولكن الايام اثبتت ان كل التصريحات المتفائلة التي صدرت عن الحكومة السعودية بالقضاء علي الفئات الضالة كانت في غير محلها. وان قائمة المطلوبين الستة والعشرين ارتفعت الي قائمة الـ260، ومن غير المستبعد ان تصبح قائمة 2600 وهكذا، فقد ثبت ان هذه الجماعات الاسلامية، مثل التنين الاسطوري المتعدد الرؤوس، كلما قطعت رأسا نبت مكانه ثلاث رؤوس او اكثر.
الجماعات الاسلامية المتطرفة تعمل في وسط بيئتها الخليجية، وهي لم تتغير، بل الانظمة هي التي تغيرت، وبسرعة قياسية، فالاموال الخليجية هي التي مولت المجاهدين العرب، وآلاف الجمعيات الخيرية الاسلامية في الوطن العربي والعالم. وعلينا ان نتذكر ان مروان الشحي، احد الطيارين الذي هاجم مركز التجارة العالمي من ابوظبي، وان خمسة عشر من التسعة عشر الذين نفذوا غزوتي نيويورك وواشنطن هم من المملكة العربية السعودية، واحد افقر محافظاتها (عسير). مضافا الي ذلك ان سليمان بوغيث المتحدث باسم تنظيم القاعدة كويتي اصيل، وليس من المجنسين او فئة البدون، ولذلك فان المعركة مع هذه الجماعات ليست سهلة، ومن الصعب التنبؤ بانتصار قريب فيها.
واذا كان خطر الجماعات الاسلامية معروف الهوية والعنوان، فان خطر العمالة الوافدة هو الخطر الخفي، غير المنظور، لانها تشكل قنبلة هيدروجينية سيؤدي انفجارها الي تغييرات جذرية في المنطقة. ففي الخليج وحسب دراسة قدمها الدكتور مجيد العلوي وزير العمل البحريني الي القمة الخليجية الاخيرة، هناك 12 مليون عامل اجنبي، يزدادون بنسبة خمسة في المئة سنويا، يحولون 27 مليار دولار الي بلدانهم كل عام. واعترف بان هذه العمالة تهدد بتغيير الطبيعة الديمغرافية والثقافية في الخليج.
هذه العمالة ليست لها حقوق، واجورها متدنية للغاية، وتعامل معاملة غير انسانية من ارباب العمل، الذين يستغلون ظروفها الصعبة، ولن نفاجأ اذا ما لجأ هؤلاء الي القوات الامريكية المرابطة في القواعد الامريكية بجوارهم من اجل نيل حقوقهم، ولن نفاجأ مرة اخري اذا ما تدخلت القوات الامريكية لحمايتهم اذا ما ثاروا مطالبين بحقوقهم في المواطنة، اسوة باشقائهم في كاليفورنيا ونيويورك وسيدني ولندن وتورنتو. فهي عمالة رخيصة مسالمة الان باهظة التكاليف غدا، (تذكروا ثورة الزنج في العراق).
امريكا ستهرب مهزومة من العراق، واصرارها علي اجراء الانتخابات العراقية في موعدها، هو اول خطوة في سيناريو الهروب هذا، وادارة بوش الحالية لن تعمر اكثر من اربع سنوات، هي عمر فترتها الثانية. ومن غير المستبعد ان تأتي ادارة جديدة تدير ظهرها للكثيرين في المنطقة، وتتبع سياسات مغايرة تماما لسياسات ادارة المحافظين الجدد الكارثية.
ومثلما بات مصطلح جوار العراق علي درجة كبيرة من الاهمية، من حيث التأثير والتأثر بالملف العراقي، فان مصطلح جوار الخليج لن يقل اهمية في المستقبل، خاصة اذا رحلت امريكا من العراق، فرشوة بعض زعماء الجوار للتهرب من استحقاقات المساعدات للشعوب وتحسين احوالها ربما تؤدي الي نتائج عكسية تماما، لان التغيير قادم في المنطقة، وهويته مازالت غير معروفة، وربما تكون دموية. فمثلما عاد العرب الافغان بافكارهم وشكلوا ظاهرة غير مسبوقة في بلدانهم، قد يعود الخليجيون العراقيون الي بلدانهم ايضا وبافكار مختلفة. فمعظم انصار القاعدة والسلفية الاسلامية في العراق هم من ابناء الخليج.