عندما دخلت الى بيته عديم النوافذ، حيث يضاء حتى الظهيرة بالشموع، حاولت ان أقدم له رشوة كي يكف عن ملاحقتي، كان ذلك في اسكندريته ذات الخريف المتوسطي، لكنه ايقظني مفزوعاً من النوم على الكابوس ذاته في بكين، وبعدها في موسكو ولم يكف عن افزاعي وايقاظي من عز النوم في عشرات المدن التي لذت بها بحثاً عن ليلة واحدة هادئة. بالأمس قرأت له قصيدة في الصحراء واعتذرت له عن أشياء كثيرة، وسألني الحضور عنه فلم أجب، لأنه احتل مكان أبي تارة، وتأنث حتى صار أمي في لحظة اخرى.
لقد كتب هذا الملدوغ بالغربة حتى النخاع عدة أبيات من الشعر، أبسط من حفنة قمح وأعقد من حبة ماس، بها غموض الفحم، وبها ألق الضحى الاسكندري.
قال: لا تحاول، فإن تلك المدينة التي هجرتك او هجرتها لا فرق ستطاردك حيثما حللت وستجد نفسك في الأزقة ذاتها، وتطالعك الوجوه ذاتها، لأنك لن تستطيع ان تخلع ذاكرتك كالقميص او الحذاء أو القبعة.
اسمه كفافي، وأسميه قسطنطين الصغير ذا الضفيرتين، واحياناً أذهب الى ما هو أبعد وأسميه الاسكندر ذا الضفيرتين، لأن بين الضفيرة والقرن ما بين ذلك العجوز وجذوره الأولى، ولكي لا أنأى عن السطر الذي بدأت به الحكاية، فإن اول ما يجب الاعتراف به في هذا الزمن الذي اصابه تلوث الأمكنة وعدوى فسادها هو ان الفرار من المجابهة يضاعف الخوف، ومن لا يجابه نفسه أولاً، وذاكرته لن ينجو.
تلك المدينة قد تكون مدينة متخيلة، وقد تكون مجرد مكان فَقَدَ صلابته الجغرافية، وجاذبيته أيضاً وتحول الى بقعة داكنة في قصيدة.
أما ذلك الرجل فهو شاعر غريب في مدينة يحاول ان يألف أزقتها، لكنه يتعثر بدءاً من الخطوة الأولى، وتقوده قدمان اصابهما العمى الى حتفه المحتم.
ما من سرير آخر غير السرير الاول إلا وكان صريره إيذاناً بكابوس جديد، لأن تغيير الأمكنة وهم، ما دام الزمان هو ذاته بكامل أذرعه الاخطبوطية، وبكل ما يرشح منه من ذكريات مفعمة بالشجن، لا يكف عن ملاحقتنا، بالتذكرة مرة، وبالتخيل الذي هو إعادة انتاج الذكريات مرات!
ان اسوأ ما علق بهذه الكتابة قدر تعلقها بالبوح وافتضاح الوحشة الهاجعة كقطيع نمور في الغابة هو ذلك التهريب الذي لا يظهر من جبل الجليد غير نتوء صغير، لهذا فالغواية تستدرج المدن والاشخاص كما يستدرج كمين الجليد السفينة!
ذات يوم، عزف فنان يقضم الأسى روحه لحناً صفق له الجميع واعترفوا انهم لم يفهموه فقال لهم الفنان ان أفضل وسيلة لشرح اللحن هي إعادة عزفه ولا شيء آخر.
وقد نبكي احياناً لدى الاصغاء الى بوح حتى لو كان في ذروة الانغلاق والغموض، لأن ما نحسه هو ذلك المشترك البشري الذي يتجاوز اللغة والجسد، وكل ما نعتقد انه الأدوات اللازمة للفهم والتفاعل.
وقد يسخر انسان فظ القلب وأعجف العواطف من عبارة قالتها شاعرة سوداء ذات يوم عندما اعترفت بأنها غرقت في نوبة بكاء لمجرد انها رأت غراباً يمد عنقه الى كوب شفاف مليء بالحليب، قالت ان التضاد بين السواد والبياض على هذا النحو لا يمكن فهمه او التعامل معه بالعقل، وقد يكون الغراب مثال الشر ونذير السوء لدى بعض الشعوب لكنه ليس كذلك بالنسبة لآخرين.
تماماً كما هو الحال بالنسبة لطائر البوم الذي تتشاءم منه أقوام وتتفاءل به اقوام أخرى.
ما أعنيه بهذه الأوجاع يتجاوز تفاصيلها التي قد تكون عابرة لمن لا وقت لديهم كي يبكوا على غراب وكوب حليب، فالأمر قدر تعلقه بالبوح يحتاج الى قدر من الثقة بالآخر، المرسل اليه فهو احياناً تتصلب عواطفه وتصاب بالجلطة كما يحدث للقلب او الدماغ، ونحن نعيش زمناً اسوأ ما فيه انه حرم الانسان من ذلك الفراغ البريء الذي يتيح له ان يتأمل وان يتحسس موقع قدميه، ومن كتب ذات يوم عن الانسان باعتباره ذلك الكائن المجهول كان محقاً بل كان يتنبأ بزمن يفيض فيه العلم وشهوة الكشف عن الارض باتجاه المجرات والفضاء النائي، لكن من يعفر قدميه من تراب القمر او غبار المريخ عليه ان يتذكر بأنه يجهل مسقط رأسه، وهو هذا الكوكب الذي اكتشف حتى آخر قطرة ماء وحبة تراب جغرافيا لكنه ما يزال مجهولاً من الناحية النفسية، وهو رغم ناطحات السحاب والابراج والاكتظاظ السكاني فيه اشبه بمخيم شاسع يعج باللاجئين.
فالناس غرباء في عقر اوطانهم ودورهم، لأنهم حدقوا الى كل شيء باستثناء داخلهم، ولم يكن غريباً ان يبدأ اول الفلاسفة مواعظه للبشر قائلا لهم: اعرفوا انفسكم أولاً، ولأن سقراط عرف نفسه، فقد تجرع كأس السم بانتشاء وهو ينفذ امراً بالإعدام جازفت به مدينة خذلت أعز الابناء وَبِكْرَ الفلاسفة.
تلك المدينة، قد تتعدد اسماؤها، وقد تكون ساحلية تغسل قدميها في البحر، وتنفض الملح عن ضفائرها، وقد تكون مغمورة ببياض الثلج، وقد تكون مجرد بقعة غامضة في الذاكرة، لكنها في الحالات جميعها تلاحق ساكنها إذا ما رحل، وتوقظه من عز النوم، لأن الماضي لا يمضي، ولا يتحرر الانسان منه إلا بالموت أو الزهايمر!