بيروت من ابتسام الحموي: يودع يوسف سرحان، 55 عاما، زوجته سميرة كل صباح ويستقل بصحبة عصاه البيضاء اول سيارة اجرة يقع عليها النصيب متجهاً الى عمله. وتنتظر بدورها سيارة تؤجرها شهرياً لتصل آمنة الى مقر عملها.
وفي حين يستيقظ هو باكرا ليؤدي صلاة الفجر، تسعى هي الى تحضير حاجيات اولادها الثلاثة بنفسها قبل خروجهم الى المدرسة. وتقول: «أحاول ان اساعدهم قدر الامكان، واعتمد في ذلك على مدبرة منزل ترافقنا دائما في توضيب اغراضنا التي نعجز عنها».
الا ان سميرة تؤكد انها توفر لعائلتها خدمات بنسبة تصل الى 80 بالمائة في معظم الايام. فبالاضافة الى انها تطهو طعامهم بنفسها، فإنها تحاول احياناً كثيرة ترتيب المنزل، وتقوى على مسح الارض وكناستها، كما تسعى الى كيّ الملابس... وتتوقف قليلاً لتضيف: «وفق الحدود الممكنة».
وخصوصية الزوجين انهما فقدا نعمة البصر، لكنهما لم يفقدا الارادة لمواجهة الحياة وهما يعملان في مجال الاستعلامات الهاتفية ولكن في مؤسستين منفصلتين. ولعل ذلك يفسر الطريقة التي تعارفا من خلالها. وتشير سميرة الى ان علاقتهما كزميلين استمرت نحو ثلاث سنوات، ليرتبطا بعدها ويكوّنا اسرة ضمت اليهما فتاتين وصبي. «يتشابه جميع الاولاد فيما بينهم»، كما تشير سميرة، ويقاطعها يوسف ليؤكد ان نظر المكفوف ليس فارغاً، اذ تمتلىء مخيلته بصور ينقلها اليه الافراد المحيطون به.
لذلك تقول زوجته «لقد كوّنا فكرة واضحة عن أشكال اولادنا»، ويضيف الزوج: «نستطيع عبر اللمس تحسس تفاصيل وجوههم للتمعن في بعض التكوينات»، ولعل أكثر ما يسعد الانسان بنظر يوسف هو التيقن من جمال اولاده، كما ينتشي لإدراكه جمال زوجته، ولا يرتبط الامر بكونه يراها فعلياً، وذلك لأن الصورة «المريحة» هي مرتجى كل انسان، سواء كان كفيفاً او مبصراً. ويضيف «ان المكفوف في المجتمع يصعب عليه الحصول على زوجة فائقة الجمال، لأن من تتمتع بذلك اضافة الى احتمال جمعها لهذه الصفة مع الشهادة الجامعية، تكون صعبة المنال، وذلك بالنسبة لشخص لا يملك نعمة البصر. ولذلك يقل التزاوج بين المبصرات والمكفوفين او العكس بالعكس. واذا حصل ارتباط ما فمع من تضيّق دائرة شروطها لدى عريس المستقبل». وتقاطعه سميرة لتوضح : «هذا هو السبب الذي حال دون ارتباطي قبل يوسف بمن تقدم لي بطلب الزواج، فلم اتخيل حياتي مع مبصر يرى... خصوصاً الفتيات... من حولي، مع عدم استطاعتي المشاركة». وقد كان يوسف قد تزوج في سن الشباب من مبصرة ورزق منها بثلاثة اولاد، ولم يزل مرتبطاً بها حتى اليوم. الا انه يؤكد من خلال تجربته ان الكفيف في مثل هذه الحالة يعاني الامرين، فهو يشعر بالحرمان من مشاركتها الرؤية، اضافة الى انه يجد نفسه دائماً في موضع المقصّر تجاهها، فهي تستطيع القيام بما لا يقوى عليه، كما تتمتع بالخروج للتنزه وتنفيذ الكثير، فيما هو لا يحرك ساكناً. وحول التنزه قالت سميرة انهما يحرصان على التعويض لاولادهما عن كثير مما يمكن ان يشعرهم بالنقص، ويسعون وسط ذلك لملء البيت عليهم بالالعاب، كما يصحبونهم معظم الاحيان الى مدينة الملاهي، وتضيف: «واذا لم استطع ان الوح لهم من بعيد كما تفعل الامهات، فإنني أسترق السمع لأدرك وجهتهم وأشاطرهم الفرحة على أقل تقدير».
وقد عانت سميرة صعوبة مع رعاية طفلتها الاولى بدر، 9 سنوات، ما استدعاها الى استقدام من تساعدها، وقد عوضها وجودها عن سؤال الجيران والاقارب. لا سيما عندما مرضت بدر وهي في سن مبكرة جداً، فلم تكن تقوى على معرفة درجة حرارتها، كما انها كانت تعجز عن معرفة سبب بكائها المستمر، ولمعالجتها والسهر عليها، كان لزاما الاطلاع على اسماء الادوية المتوجب تناولها. وهو ما اتقنته بدر بنفسها بعد تجاوزها تهجئة الاحرف، ما سهل على والدتها أمر الاعتناء بولديها الآخرين. واكثر ما يؤلم سميرة انها فقدت ابناً لها بعد بدر، ما الحق بها اذى معنوياً مضاعفاً جراء اتهامها بقتله «ولو بالتلميح»، وهي تذكر عذابها النفسي حين شربت بدر من زجاجة نفط في عمر السنتين، ولم تقو عندها على مرافقة ابنتها الى المستشفى مع الجيران في ظل سفر الزوج. ويقول يوسف «انه حرص على استقدام اجهزة بديلة تساعدهم في ما شعروا عبره بالنقص، وهي تتمثل بهاتف وميزان حرارة وساعة وآلة حاسبة وكلها ناطقة». في حين اشارت سميرة بفخر الى ان زوجها ينفرد بالقيام بكثير من متطلبات المنزل، فهو من يبتاع الخضار من السوق، كما يصطحب اولاده الى عيادات الاطباء ويجري معاملات الخادمة ويتكل على نفسه في كافة اموره.
ويوسف سعيد لأدائه منذ سنوات فريضة الحج من دون مساعدة تذكر، وذلك بالاستعانة بارشادات مسبقة. ولعل عدم وعي المجتمع هو الذي يدفعه الى الرغبة بالابتعاد عن طلب العون. ويذكر ان كثيراً من الاشخاص الذين يحاولون الامساك بيده في الشارع يعرقلون سيره عن غير قصد منهم. ويقول بشأن ذلك «ان عملية ارشاد المكفوف تحتاج الى لطف في التعامل، وبالاضافة الى الجهل غير «المتعمد» في تلبية حاجات الحالات المماثلة، فهناك كثير من الامور التي تعوز من لا يرى. والمسؤول هو التراجع الاعلامي في طرح معضلة جميع المعوقين بصورة واقعية وحقيقية. فهم يطرحون المشكلة عن غير قصد من خلال القيمين على المؤسسات الراعية لشؤون هذه الفئة، ولعل معظم تلك الجهات تبتغي عرض الانجازات الايجابية «الوهمية» التي ترفع من رصيدها المادي والمعنوي. الى جانب الابتعاد عن التطبيق الفعلي لقانون المعوّقين رقم 220 الذي صدر لمنح «أمثالنا» خدمات يبرز منها تأمين فرص عمل للجميع وتوفير الطبابة الكاملة والمبالغ الشهرية المقبولة لمن لم يحصلوا على عمل».
وقال يوسف ان الجهات الرسمية المختصة رفضت طلبه بإنشاء جمعية خاصة بالمكفوفين «اعمل عبرها فعلياً على تأمين متطلباتهم». وانتقد الجمعيات الخاصة التي «تتسول باسمنا». مضيفاً «ان هناك نظرة فوقية يتم التعامل من خلالها مع اصحاب الاعاقات، اضافة الى مكوث معظم الحالات من دون عمل وراتب، فهناك التمييز الذي يمارس داخل معظم المؤسسات، وكأن المكفوف «نكرة» لا يستطيع إنجاز عمله على أكمل وجه». وتضيف سميرة «نتمتع بذاكرة تميّزنا عن البقية، واذا اخذ البحث عن رقم هاتفي لدى المبصر ساعة، فنحن نستخرجه في ثانية واحدة».
ويوسف فقد بصره عندما كان في السادسة والعشرين من عمره حينها كان يرى زوجته الاولى. وانما كانت الرؤية تقتصر على عين واحدة لأنه فقد الاخرى اثناء لعبه وصديق في احدى قرى جنوب لبنان نتيجة انفجار لغم ارضي. وهو يشكر الله لأنه لم يفقد ساعده كصديقه.
أما سميرة فقد عاشت عشر سنوات من طفولتها متمتعة برؤية ضبابية، الا ان مرض «الماء السوداء» الذي اصاب عينيها ضرب شبكتيهما. وبقيت في منزل اهلها حتى سن الحادية عشرة حين انتسبت الى مدرسة للمكفوفين. تعلمت فيها احرف البرايل والطباعة على الآلة الكاتبة، حتى انها كانت تعتمد في كثير من المواد على آلة التسجيل.
وهو ما سهّل عليها الانتقال في المرحلة الثانوية الى مدرسة مختلطة. وهي تشير الى ان المكفوفين في صفها بلغوا ستة اشخاص بين ثمانية وعشرين مبصرا. لكن ما أمنته لها سنوات المدرسة متجهة اليها برفقة زميلاتها، لم تستطع الجامعة توفيره، حيث صدمت فيها بتمييز «غير لائق» من قبل الاساتذة انفسهم. حتى ان مشهدا ما زال يحفر في قلبها وذاكرتها، حين منع عنها الاستاذ المواد المصورة من المحاضرات. وقد واجهت في هذه المرحلة صعوبات على الصعيدين المادي والمعنوي. فما يحتاجه المكفوف يتضاعف عبر ضرورة تأمينه لمن يسجل له كتب المحاضرات مقابل مبالغ مادية ضخمة بالنسبة لمن لا يتقاضى اجرا انذاك. ويقول زوجها: «كما ان المبصر يستطيع مثلاً ان يوفر في مصاريفه ويتجه سيراً الى جامعته. وكثيرون من ارادوا إكمال الدراسة الجامعية من المكفوفين كانوا يجهلون الطباعة على الآلة الكاتبة المخصصة لمثل حالتهم، وقد كانت الوسيلة الوحيدة لخوض الامتحانات والاجابة بأحرف يفهمها جميع الاساتذة».
ويشير يوسف الى ان الانسان في الدول الغربية لا يعاني الاضطهاد الذي يعانون منه، ذاكرا انه في احدى رحلاته الى اسبانيا استغرب وجود مضيفات متفردات لخدمة المكفوفين واصحاب الاعاقات على متن الطائرة، وحتى ان احدى شركات الطيران حرصت خلال عودته على ايصاله الى سيارة تقله الى باب منزله.
ويتمنى لو كانت زوجته مبصرة لتقرأ ما يعشقه من كتب الادباء، وهو ما أمنته من خلال مكتبة تعتمد تسجيل الكتب الثقافية. ولكن اعداد تلك المطبوعات ظلت محدودة، وقد شغلتها الحياة عن متابعة الجديد في الاصدارات. اضافة الى شغفها بالمعلومات العامة، ما دفعها الى متابعة برنامج «من سيربح المليون» خلال سنوات عرضه، وتقدمت للاشتراك في حلقاته الا ان الكومبيوتر لم يخترها. وتضيف انها تشارك دائماً في البرامج المماثلة على الاذاعات.
ويقاطعها يوسف ليؤكد انه قانع بما هو عليه، رغم انه لا يستطيع ان ينكر حالة الحرمان التي يعيشها، وايمانه بقدره يدفعه الى تخطي اية صعوبة، ويقول: «أنا ومصيبتي رفيقان، ولا احسد احداً على نعمة منحه اياها الله، كما لا احسد صديق الطفولة على فقد ساعده».
وتقول سميرة «املك ما لا تملكه المبصرات، فهل يستطعن التنقل بسهولة في عتمة الليل»، وتشير الى ان ابنتها حلت مكان اختها او جارتها في انتقاء الملابس من السوق. وهي ترتدي معظم الاوقات الالوان الفرحة التي تتجه اليها عين بدر.