هل هناك من ينكر أن الحركة الصهيونية العالمية تمارس اليوم ابتزازا صارخا علي عديد من الحكومات والشعوب؟ إن الحركة الصهيونية العالمية التي نجحت نجاحا لاشك فيه في تأسيس الدولة الاسرائيلية عام‏1948‏ لتكون دولة اليهود في العالم كله‏,‏ بعد أن حصلت علي وعد بلفور‏,‏ لم تتوقف عن دعم هذه الدولة‏,‏ بالرغم من سياستها العدوانية إزاء الحكومات والشعوب العربية‏,‏ والتي تمثلت في شن الحروب عليها‏,‏ عام‏1956‏ في العدوان الثلاثي حيث شاركت انجلترا وفرنسا في الهجوم علي مصر‏,‏ وفي عام‏1967‏ في الهجوم علي مصر وسوريا‏.‏
وحتي بعد أن وقعت إسرائيل اتفاقية كامب دافيد والمعاهدة المصرية الاسرائيلية‏,‏ مارست سياسة عنصرية واضحة إزاء الشعب الفلسطيني‏,‏ وخالفت كل الاتفاقيات التي وقعتها مع السلطة الفلسطينية‏,‏ ومارست سياسة إرهاب الدولة في إغتيال القادة والزعماء الفلسطينيين‏.‏ ومع ذلك لم تتردد الحركة الصهيونية العالمية وخاصة اللوبي اليهودي في أمريكا في تأييدها بلا تحفظ‏.‏
ويمكن القول أن ظاهرة الابتزاز الصهيوني للدول الأوروبية بدأت تظهر ملامحها عقب الحرب العالمية الثانية‏.‏ فقد استطاعت الحركة الصهيونية العالمية أن تخلق من المحرقة النازية التي أعدت لليهود في المانيا الهولوكست مثلا وعبرة بل وأسطورة‏!‏
وإذا كانت المحرقة حدثا تم بالفعل‏,‏ فإن الرواية الصهيونية عنها مارست التزييف التاريخي المتعمد في أمرين‏.‏ الأمر الأول في تضخيم اعداد ضحايا الهولوكست والإدعاء أنه تجاوز الخمسة ملايين ضحية‏.‏ مع أن التقديرات الواقعية أقل من هذا بكثير‏.‏ مع أن العدد في ذاته ليس مهما بالنسبة لنا كشعوب عربية متحضرة تستنكر من ناحية المبدأ ماحدث في المحرقة لأن إبادة مليون واحد لايقل أهمية عن إبادة ملايين متعددة‏.‏
غير أن الأمر الثاني في مجال تزييف التاريخ تمثل في الإخفاء المتعمد لواقعة أن ضحايا الهولوكست لم يكونوا كلهم يهودا‏,‏ بل شمل الضحايا مئات الألوف من الأوروبيين الذي ينتمون إلي دولة أوروبية شتي خضعت للاحتلال الألماني بعد أن انطلقت آلة الحرب الالمانية الجبارة لكي تخترق الحدود وتغزو الدول‏.‏
استخدمت الحركة الصهيونية العالمية حكاية الهولوكست لتلهب بها ظهور الحكومات الأوروبية وعلي رأسها حكومة ألمانيا التي تشكلت بعد انتهاء الحرب‏,‏ باعتبارهاـ كما رأت ـ الوريثة الشرعية للجرائم النازية‏.‏ وفرضت عليها دفع تعويضات قدرت بمئات الملايين من الدولارات لدولة اسرائيل‏,‏ تكفيرا عما حدث لليهود‏.‏
ومارست الحركة الصهيونية الابتزاز المنهجي المنظم ضد كل الدول الأوروبية‏,‏ وتمثل ذلك كله في تقديس ظاهرة الهولوكست‏.‏ وفي ضوء ذلك استطاعت الدوائر الصهيونية في فرنساـ في سابقة تشريعية نادرة ـ استصدار تشريع فرنسي يجرم كل من يشكك في حدوث الهولوكست‏,‏ أو يقلل من العدد الاجمالي للضحايا‏!‏
ووصلت المسألة إلي تهديد الحرية الأكاديمية‏,‏ وإرهاب المؤرخين الذين حاولوا أن يعيدوا بناء الحدث التاريخي الخاص بالهولوكست بناء علي الوثائق وشهادات الشهود الأحياء‏.‏ وهكذا قدم للمحاكمة الجنائية مؤرخ فرنسي شاب أعد رسالة للدكتوراه عن الموضوع وكشف فيها زيف الرواية الصهيونية‏,‏ وذلك بمقتضي هذا التشريع‏.‏
ومن المعروف أن اللوبي اليهودي في أمريكا مارس نفوذا متعاظما علي الإدارة الأمريكية منذ إدارة ترومان حتي إدارة الرئيس بوش‏.‏
بالنسبة للرئيس بترومان هناك واقعة تاريخية ثابته‏,‏ هي نفوذ صديق يهودي بارز للرئيس ترومان عليه‏.‏ وقد مارسه للضغط عليه للاعتراف بدولة اسرائيل عام‏1948.‏ وتقرر الوثائق التاريخية أن هذا الصديق زار ترومان في البيت الأبيض زيارة سرية‏,‏ لأنه دخل من إحدي الأبواب الخلفية‏,‏ واقنع ترومان بالاعتراف بالدولة الاسرائيلية فور اعلان قيامها‏.‏
ومن الثابت أيضا أن ترومان بعد أن إنتهت مدته‏,‏ قادة مرة مظاهرة سارت في الشوارع لتأييد دولة إسرائيل‏.‏
ولسنا في حاجة إلي تعقب التاريخ الطويل لقدرة اللوبي اليهودي في أمريكا علي التأثير الفعال في صياغة السياسية الخارجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط عموما‏,‏ وللتأييد المطلق لدولة إسرائيل خصوصا‏.‏

*الصهيونية والمحافظون الجدد
غير أنه يمكن القول أنه لم يسبق للحركة الصهيونية العالمية أن تنفذ إلي عصب النظام السياسي الامريكي مثلما فعلت في إدارة الرئيس بوش ذلك أن هذا الرئيس ا لمحافظ والرجعي والمهووس بعقائد دينية متطرفة‏,‏ وبأساطير خرافية استسلم استسلاما كاملا هو وكل أركان إدارته من المحافظين الجدد للوبي اليهودي الصهيونية‏.‏ ذلك أن هؤلاء المحافظين الجدد ينسبون أيديولوجية مسيحية صهيوني متطرفة‏,‏ جعلتهم يضعون حماية أمن اسرائيل وضمان تفوقها المطلق علي كل البلاد العربي والاسلامية في مرتبة أعلي حتي من تحقيق المصالح القومية للولايات المتحدة الامريكية أو فلنقل بعبارة أدق أنه اندمجت المصلحة الاسرائيلية والمصالح الصهيونية اندماجا عضويا مع المصالح الأمريكية‏.‏
ويكشف عن ذلك بكل جلاء ووضوح تشريع تعقب معاداة السامية في العالم الذي أصدره الكونجرس الأمريكي وصدق عليه الرئيس بوش وهو في الطائرة الرئاسية في طريقه لكي يحضر اجتماعا انتخابيا في فلوريدا‏,‏ والتي يوجد فيها أكبر عدد من الناخبين اليهود‏.‏
وإذا كنا تحدثنا في المقال الماضي عن عولمة المشكلات الإنسانية والتي تكشف عن بروز وعي كوني يعبر في الواقع عن التخلق البطئ لانسانية جديدة‏,‏ لاتفرق بين بني البشر علي أساس الجنس أو الدين‏,‏ فنحن في موضوع معاداة السامية نجابه في الواقع بنيان معتاد يمكن أن تطلق عليه تخصيص المشكلات اليهودية ونعني بذلك إقرار هذه المشكلات والتركيز عليها وكأنها مشكلات عالمية وهي ليست كذلك بالقطع‏.‏ كما أن أفراد اليهود كجماعة بشرية محددة وإصدار تشريع خاص لحمايتها فيما يتعلق بظاهرة معاداة السامية إنما هو في الواقع أمر مخالف لقواعد حقوق الانسان‏.‏
لقد استطاعت الحركة الصهيونية العالمية بناء علي عمل دؤوب استمر سنوات طويلة أن تستثمر بعض الحوادث الفردية التي وجهت إلي المعابد اليهودية في بعض البلاد الأوروبية والتي كانت في الواقع رد فعل علي السياسات الاسرائيلية الإجرامية التي وجهت للإبادة المنظمة للشعب الفلسطيني لكي تبالغ وتقرر أن ظاهرة معاداة السامية في ارتفاع خطير سواء في أوروبا‏,‏ أو علي وجه الخصوص ـ كما زاعمواـ في البلاد العربية والاسلامية‏.‏
ويلفت النظر بشدة أن منظمة التعاون الأوروبي عقدت في العام الماضي عدة مؤتمرات لمناقشة ظاهرة معاداة السامية وإتخاذ إجراءات بصددها‏.‏ والمتتبع للجهود التي بذلتها الحركة الصهيونية العالمية في الكونجرس الامريكي لاستصدار المشروع الخاص بالتعقب العالمي لمعاداة السامية‏,‏ سيكشف ـ كما كتبنا من قبل ـ أنه عقدت جلسات استماع خاصة في الكونجرس الأمريكي قدم فيها أثنان من أقطاب المنظمة الصهيونية العالمية شهادات عن ارتفاع معدلات معاداة السامية في أوروبا‏,‏ وتفسير ذلك‏.‏ كما أنه أشير بوضوح في هذه الشهادات إلي ارتفاع معدلات معداة السامية في البلاد العربية والإسلامية علي وجه الخصوص‏.‏ وقد أثمرت كل هذه الجهود الصهيونية في استصدار هذا التشريع الأمريكي المنحرف لتعقب معاداة السامية علي مستوي العالم‏.‏
وكما أعطت الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها الحق من قبل في مراقبة مخالفات حقوق الانسان في العالم واحترام الحريات الدينية‏,‏ فإنها بالنسبة لهذا التشريع الجديد‏,‏ أعطت لنفسها دور المشرع وممثل الاتهام‏,‏ والقاضي‏!‏
أعطت لنفسها دور المشرع العالمي لأنها بتشريع أمريكي داخلي لاحجة له إلا في النطاق الاقليمي الأمريكي‏,‏ أرادت أن تتعقب وقائع تري إنها معاداة للسامية في أي بلد من بلاد العالم‏,‏ سواء صدرت من حكومات أو مؤسسات أو أفراد‏.‏ ومعني ذلك أنها انفردت بوضع معايير التجريم‏,‏ وأوكلت لرئيس الجمهورية الأمريكي أن يوقع الجزاءات المناسبة للمخالفين بعد أن يطلع علي التقرير السنوي الذي ستقدمه له وزارة الخارجية الأمريكية‏.‏
الولايات المتحدة الأمريكية هي المشرع‏,‏ ولكنها أيضا هي القاضي الذي سينظر في المخالفات‏,‏ التي أثبتها من يقوم بوظيفة الاتهام‏,‏ ويصدر الجزاءات المختلفة‏.‏ هذا تشريع أمريكي منحرف يخالف كل المبادئ القانونية المستقرة لدي كافة الشعوب المتحضرة في العالم‏,‏ كما أنه يتصادم مع القواعد الثابته في القانون الدولي العام‏.‏
ويعني ذلك كله أنه في الوقت الذي يركز فيه العالم علي عولمة المشكلات الإنسانية تنزع الحركة الصهيونية العالمية مؤيدة من الولايات المتحدة الأمريكية إلي تخصيص المشكلات اليهودية وكأن اليهود جنس أرقي من كل البشر‏,‏ وهم فقط الجديرون بالحماية‏!‏
لقد استطاعت الحركة الصهيونية العالمية أن تجر وراءها الامبراطورية الأمريكية المتعثرة‏,‏ لتغزو العراق خدمة للسياسة الاسرائيلية في معركة خاسرة‏,‏ وهاهي اليوم تلوي عنقها لكي تتبني اتجاها انعزاليا مضادا لحركة التاريخ ومنطلق التقدم الانساني‏.‏
تري أي مصير سيلاقيه القطب الواحد الأعظم‏,‏ حينما تصحو الدول الكبري وتخلق عالما متعدد الأقطاب؟