الشريط الجديد للسينمائي الإسرائيلي المتميّز عاموس غيتاي يحمل اسم أرض الميعاد ، والأرجح أنه ــ وهكذا سيظلّ حتي إشعار آخر طويل ربما ــ الوثيقة السينمائية الأقسي ضدّ إسرائيل، الواحة التي لم يتوقّف التبشير الصهيوني وبعض استطالاته الغربية عن تقديس أخلاقيات الحياة فيها. انطوت، مرّة وإلي الأبد كما يلوح، روح الكيبوتز التي تقلب الصحراء جنّة وارفة وينابيع من حليب وعسل، والصهيوني الصبّاري اليوم قوّاد مافيوزي يهرّب الرقيق الأبيض، ويتاجر بالمهاجرات الباحثات عن عيش أفضل، ويسومهنّ الذلّ والهوان والعذاب، ويُشبع في أجسادهنّ أحطّ الرغائب الوحشية...
مَن شاهد الشريط، الذي يُعرض الآن في الصالات الفرنسية، لن يجد في السطور السابقة أيّ تهويل أو مبالغة، بل لعلّ البعض سيجد تلطيفاً للصورة السوداء القاتمة التي يرسمها غيتاي عن هذا القطاع في حياة إسرائيل الراهنة، حيث تبدو أرض الميعاد وقد انقلبت إلي أقذر دار عهر لأشدّ ما في العولمة من تجليات وحشية. ولسنا نحن، بل صحيفة لوموند الفرنسية، مَن اعتبر أنّ أحد مشاهد الشريط تذكّر بفظائع أوشفتز والهولوكوست، مع فارق أنها هذه المرّة تجري بأيدي اليهود أبناء وأحفاد الضحيّة السابقة. ولسنا نحن، بل غيتاي نفسه هو الذي شاء أن يطلق علي دار البغاء في الشريط اسم أرض الميعاد !
وفي رائعته السابقة كادوش ، 1999، تناول غيتاي محنة المرأة في المجتمع الإسرائيلي المتديّن، وهو اليوم ينتقل إلي محنة المرأة في المجتمع ذاته، ولكن عبر النساء المهاجرات ضحايا مافيات الرقيق الأبيض. إنها حكاية نصف دزينة من الصبايا الآتيات من الإتحاد السوفييتي السابق (إستونيا، ليتوانيا، أوكرانيا...)، القادمات إلي إسرائيل بواسطة شبكات تهريب تنظمها مافيات روسية وإسرائيلية وأخري وسيطة، عبر محطّات تبدأ من القاهرة وبور سعيد وصحراء سيناء ورام الله وإيلات، وتنتهي في حيفا.
والصدمات تتعاقب في الشريط، علي هيئة مشاهد متلاحقة ذات إيقاع سريع لاهث، تحت وطأة كاميرا محمولة باليد أو علي الكتف، تتعمّد خلق حسّ الريبورتاج والتوثيق أكثر من السرد أو بناء حبكة، بل تبدو أحياناً أشبه بالكاميرا الخفيّة. وأولي لطمة قاسية تأتي مباشرة في المشهد الأوّل، الليلي الشاعري، حيث تسير قافلة جِمال تحت ضوء القمر، تصحبها موسيقي روحية، فيبدو المشهد بأسره وكأنه منتَزع من إحدي حكايات عيد الميلاد، وتحديداً مجيء ملوك المجوس إلي فلسطين للاحتفاء بميلاد المخلّص.
غير أنّ الجحيم، وليس البتة أرض الميعاد، هو ما ينتظر الفتيات حين يجري (في مشهد ليلي مذهل، لا تنيره سوي المصابيح اليدوية!) مزاد علني علي الأجساد، بل علي أعضاء بعينها في الأجساد: إنظروا إلي ردفيها ! هذه عذراء تامّة ! هذه تبدو داعرة ! مَن يدفع أكثر ! تُكدّس الفتيات في شاحنة، ويتمّ تهريبهنّ إلي إسرائيل عبر رام الله (سيراً علي الأقدام، مروراً بالحواجز، بعد إجبارهنّ علي ارتداء الثياب الفلسطينية!). وفي رام الله تسترقّ إحدي الفتيات النظر عبر غطاء الشاحنة فتقول: تبدو مدينة مفروضاً عليها حظر التجوّل ؛ وعلي مشارف إيلات تقول أخري: نحن الآن في عالم متحضّر ؛ وهذه مجرّد واحدة من سلسلة المفارقات السوداء التي يتقصدها غيتاي.
المشهد الذي دفع صحيفة لوموند إلي استعادة أوشفتز هو الحمّام الجماعي الذي تخضع له الفتيات حال وصولهنّ إلي المنتجع العائم علي البحر: ضمن إيقاع سريع، ومشاهد بالغة القسوة ثقيلة الوطأة بالفعل، يتمّ تجريد الفتيات من ثيابهنّ، ويجري رصفهنّ علي منصّة معدنية تطلّ علي البحر، ثم توجّه إليهنّ خراطيم مياه ضخمة، تماماً كما في غسل الماشية أو تطهير أجسادها بالمبيدات! وفي المشاهد اللاحقة، وهي إجمالاً ليلية قاتمة داكنة إلا في حالات نادرة للغاية، تتوالي فصول إعداد الفتيات للمهنة، وبينها ذلك المشهد الأخاذ الذي تصنعه الألمانية الكبيرة هانا شيغولا، في دور القوّادة الأمّ، حين تقوم بمكياج إحدي الفتيات فتكفكف دمعها وتروي أنها مرّت بظروف مماثلة تقريباً، وأنّ البغاء ليس سبّة بل هو عمل مثل سواه.
ذروة استثنائية في المفارقة يبلغها غيتاي في المشهد الأخير، حين تتحرّر إثنتان من الفتيات وتهربان من دار البغاء في ضواحي حيفا، وسط فوضي عمليات الإنقاذ من الحريق الناجم عن انفجار... سيارة مفخخة! وقبل الحريق كان غيتاي قد رسم مشهداً مزدوجاً ـ تحفة، جلب عليه سخط عشرات المعلّقين الإسرائيليين: في مستوي أوّل يقلّب أفراد المافيا ما بين أيديهم من بضاعة اللحم البشري؛ وفي مستوي ثان، متمازج مع الأوّل، تتداعي ذكريات ديانا الإستونية المسيحية عن صلاة الأحد في موطنها، وذكريات روز الأوروبية اليهودية عن ترتيل المزمور الـ 221 الذي تقول بعض أعداده: فرحتُ بالقائلين إلي بيت الربّ نذهب. نقف أرجلنا في أبوابك يا أورشليم. (...) ليسترحْ محبّوكِ. ليكنْ سلامٌ في أبراجك راحةٌ في قصورك. من أجل إخوتي وأصحابي لأقولنّ سلامٌ بك. من أجل بيت الربّ إلهنا ألتمس لك خيراً .
... وأيّ خير!