عماد حجاب: ستظل الحرية الدينية حجر الزاوية للديمقراطية وصميم اي مجتمع عادل وحر وقيمة كونية هائلة ليس فقط لأنها أحد الحقوق الاساسية الانسانية‏,‏ ولكن التفريط فيها وحمايتها يقود المجتمع إلي التطرف وعدم الاستقرار والعنف‏,‏ وبالتالي يعتبرها المجتمع الدولي أحد المقاييس الحقيقية لتشخيص حالة الصحة العامة لأي دولة‏,‏ ومادة اساسية لأي حوار بين الأديان والحضارات‏,‏ وسببا في ربط حجم المساعدات الدولية والمنح والقروض المقدمة للدول بمستوي الإجراءات الاصلاحية لتعزيزها ودعم الديمقراطية‏.‏
ويكتسب التقرير السنوي الأمريكي عن الحريات الدينية في العالم عام‏2004‏ اهميته للمرة السادسة علي التوالي والذي رفعته الخارجية الأمريكية إلي الكونجرس الأمريكي منذ ايام بسبب الاتهامات التي تسوقها الولايات المتحدة لبعض الدول بوجود انتهاكات خطيرة وجسيمة بها منها‏4‏ دول بالشرق الأوسط وأريتريا وفيتنام وصفتها بأنها مثيرة للقلق لتنضم إلي بورما والصين وإيران وكوريا والسودان التي أوردها التقرير في العام الماضي التي تعاني الحريات الدينية بها جميعا تمييزا واسعا للأقليات في قطاعات التعليم والتوظيف والاسكان وقيودا لا حصر لها في ممارستها الدينية مما يؤدي إلي ردود افعال خطيرة لهذه الدول أمام الرأي العام العالمي ويؤثر سلبا علي صورتها وعلاقتها الدولية باعتبار التقرير رمزا للاحتجاج ضدها ولا تتوقف الولايات المتحدة عن استخدام ورقة ضغط في المحافل الدولية وسببا رئيسيا للتدخل في الشئون الداخلية لها باسم حقوق الانسان والاقليات وبدوافع غير انسانية‏.‏
ولم يحتو التقرير علي أي ذكر للعراق وما يحدث فيها تحت سيطرة وبصر الإدارة الأمريكية وسلطات التحالف‏,‏ رغم وصف التقرير السابق لها بانها تشكل قلقا خاصا دوليا في ظل نظام صدام حسين‏,‏ ووعدت وزارة الخارجية الأمريكية بانها ستقدم قسما خاصا عن الحرية الدينية بالعراق منذ لحظة تسليم السلطة إلي الحكومة العراقية في تقريرها السنوي هذا العام عن ممارسات حقوق الانسان في دول العالم‏.‏
وجاءت الانتقادات التي وجهتها لإسرائيل بسبب تصرفاتها تجاه العرب والمسلمين والمسيحيين في شكل اشارات بسيطة ودون تفاصيل وبصورة مخففة‏,‏ بينما أفردت مساحات واسعة من التقرير للقضية الوهمية عن معاداة السامية المنتشرة بين بعض النشطاء الإسلاميين وتعليقات الصحف في عدة دول إسلامية‏.‏
وأرجع التقرير الحواجز الدينية التي تواجه الحريات الدينية في بورما والصين وكوبا ولاوس وكوريا الشمالية وفيتنام في المقام الأول إلي التصرفات الصارمة التي تقوم بها الحكومات لمراقبة الفكر والتعبير الديني والنظر إلي المجموعات الدينية كأعداء للدولة‏,‏ وان ممارستها للشعائر والتقاليد الدينية تمثل تهديدا لأيديولوجية الدولة وسلطاتها‏.‏
ففي بورما التي تأتي علي رأس الدول تواجه المجموعات المسيحية صعوبات شديدة في الحصول علي الإذن بترميم الكنائس القائمة أو بناء كنائس جديدة‏,‏ ونفس الحال للمسلمين الذين يواجهون خطرا كبيرا في توسيع المساجد القديمة في أي مكان بالبلاد‏,‏ وتقييد الحكومة لرغباتهم في العبادة والسفر بحرية‏,‏ ووقوفها امام جهود رجال الدين البوذيين الرامية لتشجيع حقوق الانسان والحريات وبناء أماكن للعبادة للديانات الأقلية‏.‏ ووصف التقرير الصين بأنها لا تحترم الحرية الدينية والفكر والديانات غير المسجلة والحركات الروحية‏,‏ وتواصل انتهاكها بشدة للمجموعات البروتستانتية والكاثولوكية وتمارس الترهيب والمضايقة والتوقيف للقادة الدينيين وتعرض الأنشطة الروحية بالكنائس للمجازاة‏,‏ والمجموعات المسيحية لرقابة دقيقة متزايدة مما أدي لحدوث اضطرابات بها‏,‏ بالإضافة إلي فرضها للقيود والضغوط علي المسلمين ومنع تدريس الإسلام للأطفال ورفض تدريب رجال الدين‏,‏ وخضوع الذين يرفضون ترك معتقداتهم الدينية لمعاملة قاسية في السجون والتعذيب والتأهيل في معسكرات العمل الشاق‏.‏
ولا يختلف الحال في كوبا‏,‏ حيث تواصل وزارة الداخلية التغلغل والمضايقة لرجال الدين والأفراد العاديين ومراقبة المؤسسات والمجموعات الدينية المسجلة‏,‏ كما تعرضت الكنائس الانجيلية لأعمال طرد من المنازل المستخدمة للعبادة‏,‏ ولا يسمح لها بتدريب الكهنة الذين تحتاج اليهم أو إحضارهم من الخارج أو اقامة المؤسسات الاجتماعية للرعاية‏,‏ وتحرمها من الحصول علي رخص لشراء مواد البناء من المراكز الحكومية‏.‏
وفي لاوس واصلت السلطات عدم اظهار التسامح ازاء الديانات الاقلية وعلي الأخص الديانات ذات التسميات البروتستاتنية‏,‏ ويمارس الموظفون المحليون ضغوطا علي الأقلية المسيحية للتنازل عن عقيدتها والتهديد والطرد بالقوة من القري ويتم اتهامهم بنشاطات أمنية وجنائية مبالغ فيها ويحتجزون لفترة طويلة دون محاكمة ولا ينعمون خلالها بكثير من الحماية بموجب القانون‏.‏
أما كوريا الشمالية وفيتنام فالحرية الدينية الحقيقية بها غير موجودة وتعرض عدد من اعضاء الكنائس المسيحية للقتل‏,‏ ويعامل النظام الأشخاص الدينيين بقسوة خاصة الذين يحاولون التبشير بالمسيحية أو الذين لهم صلات بالمجموعات الانجيلية العاملة بالصين وتفرض عليهم غرامات قاسية وسجن بسبب قراءة الكتاب المقدس والتحدث عن الله‏,‏ بالإضافة لتعرض الأقليات البروتستانتية لضغوط شديدة وقيود علي النشاطات العلنية لها‏.‏
ويتطرق التقرير إلي الاجراءات التي تتخذها بعض الدول لدفع الأقليات الدينية لمغادرة البلاد وإظهار عداوة وقمع تجاهها لمضايقتها بصفة مستمرة لتسجيل نفسها امام الجهات الإدارية أو التوقف عن النشاط وتأتي اريتريا في المقدمة‏,‏ حيث قامت باحتجاز اعضاء من المجموعات الانجيلية الأحيانية المستقلة والكنيسة الارثوذكسية وشهود يهوي واقفلت بعض المرافق الدينية للمجموعات الدينية المعترف بها للمسلمين والمسيحيين الارثوذكس والكاثوليك والانجيليين‏.‏ ولم تسلم إيران من توجيه انتقادات قاسية لها بسبب موقفها السياسي تجاه الولايات المتحدة ورفضها التفتيش علي منشآتها النووية‏,‏ ومنحها التقرير قدرا كافيا من الاتهامات بأن جميع الأقليات الدينية بها تعاني من درجات متفاوتة من التمييز والقبول رسميا في مجالات التوظيف والاسكان والتعليم ويتعرضون لانتهاكات قاسية جدا بمن فيهم المسلمون السنة والبهائيون واليهود والمسيحيون‏,‏ ويلزم الحرس الثوري المترددين علي دور العبادة بابراز هويتهم ويلاقي المسلمون السنة تمييزا دينيا واضحا علي المستويين المحلي والاقليمي حتي في ممارستهم التقاليد الصوفية‏.‏ ووصف التقرير دولتين بالشرق الأوسط بأن المواطنين غير المسلمين يعاملون
بها كمواطنين من الدرجة الثانية‏,‏ ويعانون من عمليات شجب الديانات غير الإسلامية علي لسان وعاظ المساجد‏,‏ كما أدي الصراع الاثني والعنصري في السودان بين الميليشيات العربية الإسلامية والمسلمين الافريقيين إلي التطهير العرقي واعادة توزيعهم في المنطقة وجرائم انسانية بشعة في ولايات دارفور الثلاث‏.‏
وفي باكستان فشلت الحكومة في التدخل لوقف قضايا العنف والترويع الاجتماعي ضد المجموعات الدينية وغاب الرد الحكومي اللازم مما ساهم في خلق مناخ من الانفلات أدي لتوتر العلاقات بينها واستمرار العنف المذهبي والديني واعمال القتل الفردي والجماعي ضد الأقليات الشيعية وخطف بعض الهندوس والمسيحيين‏,‏ بينما استمر تحكم الحكومة في تركمنستان في التعيينات القيادية للمسيحيين الأرثوذكس الروس والمسلمين السنة‏,‏ وتلزم لجنة الشئون الدينية كل الفئات بعرض مواد التعليم الديني عليها للموافقة عليها ولا تعطي الحق للأئمة المحليين في تعليم الفقه الإسلامي ولا يسمح لهم بدراسته سوي في كلية الفقه بجامعة الدولة التركمانية وتفرض علي كافة الأقليات تنظيم اتصالاتها بالخارج من خلال وزارات الداخلية والعدل والخارجية ويحرم القانون بها حرية الاجتماع والعبادة الخاصة ويفرض قيودا وغرامات مالية في حالة تجاوزه‏.‏
أما أوزباكستان فتتعامل الحكومة بقسوة مع نشاطات التبشير وتوزيع المنشورات الدينية والتعليم الديني الخاص ويتعرض المسلمون والمسيحيون البروتستانت للتخويف المستمر وسوء المعاملة‏.‏
واستعرض القسم الثالث من التقرير اهمال بعض الدول للتمييز المجتمعي ضد الأقليات الدينية والتقصير في التحقيق فيها ومقاضاة الفاعلين وغياب الإرادة السياسية لفرض القوانين وتأتي جورجيا في المقدمة‏,‏ حيث تتمتع الكنيسة بوضع خاص يعفيها من الضرائب وتمارس ضغوطا علي البرلمان والحكومة لإصدار قوانين تمنحها وضعا قانونيا متميزا‏,‏ وهو غير متوافر للمجموعات الدينية الأخري الذين تعرضوا لاستخدام القوة من جانب المتطرفين الأرثوذكس المغالين الذين فشلت الحكومة في السيطرة عليهم‏.‏
وتأتي جواتيمالا في المرتبة الثانية بسبب عجز الحكومة عن تطبيق اتفاقيات الحريات والسلام لممارسة ديانات السكان الأصليين‏,‏ وتحتل الهند المركز الثالث بسبب المشاكل القائمة في بعض الولايات التي تمثل خطرا موقوتا وقابلا للانفجار في أي وقت بسبب التداعيات الخطيرة بين الهندوس المتطرفين والمسلمين والمسيحيين نتيجة التقصير الناتج عند عدم فرض القيود القانونية اللازمة من هيكل الدولة الفيدرالية‏,‏ وتكرر نفس الوضع في سريلانكا واندونيسيا‏,‏ حيث دمر المتطرفون البوذيون الكنائس وضايقوا القساوسة واعضاء الابراشيات وفشلت الشرطة في حمايتهم‏,‏ ولا تعترف الحكومة الاندونيسية سوي بخمس ديانات فقط‏.‏
ووصف التقرير أذربيجان وبيلاروس وبروناي وإسرائيل وماليزيا وروسيا وتركيا والمالديف بأنها تتبع سياسات ضارة ضد ديانات بعينها‏,‏ وأعطت الحكومات افضلية لديانات ذات اكثرية وتمارس قوانين التمييز ضد ديانات الأقلية بسبب السيطرة التاريخية لديانات الأكثرية وترفض تقديم المساعدات الحكومية لها خاصة في إسرائيل‏.‏
وأفرد التقرير جزءا كبيرا عن الدول التي قامت بتحسينات مهمة لتعزيز الحريات بها ووضعت الخارجية الأمريكية أفغانستان في المقدمة كنموذج دولي بعد تمكنها من التدخل العسكري بها وإزاحة حركة طالبان‏,‏ وأشار للدعوات التي تقدمها الحكومة لعودة السيخ والهندوس والسنة وكافة الاقليات للبلاد و تطوير مناهج الدراسة والكتب المدرسية التي تدعو للمفاهيم والمبادئ الإسلامية السمحة‏.‏
أما جورجيا فجاءت في المركز الثاني بسبب الاجرءات التي اتخذتها وزارة الشئون الداخلية لدعم حقوق الانسان واقامة الدعاوي الجنائية ضد المتطرفين الأرثوذكس لقيامهم بهجمات متواصلة علي الاقليات الدينية مما أدي لتحسن ملحوظ في تخفيف المضايقات للأقلية البروتستانتية المؤمنة‏,‏ بينما اتخذ البرلمان التركي تعديلا مهما علي قانون البناء واستبدل عبارة المساجد بدور العبادة مما أدي لاتاحة الفرصة أمام تأسيس مبان دينية غير إسلامية واصدرت وزارة الداخلية تسهيلات وتيسيرات لفتح اماكن العبادة وعدم اغلاقها‏,‏ والغيت اللجان الفرعية بالمدن للأقليات التي استمرت طوال‏42‏ عاما واستبدالها بمجالس لتحديد مشاكل الأقليات وعدلت الاشارات غير الدقيقة بالكتب الدراسية ضدها‏.‏
وفي تركمنستان أدخلت الحكومة تعديلا تشريعيا علي قوانين المنظمات الدينية وسهلت وزارة العدل تسجيل الأقليات وقللت من المضايقات ضدها مما أدي لتسجيل‏4‏ جماعات دينية‏,‏ بالإضافة للدين الإسلامي السني والمسيحية الأرثوذكسية الروسية المنتشرة بها‏,‏ بينما اتخذت الهند بعض الاجراءات البسيطة لجعل الخطاب السياسي للمسئولين اكثر شمولية ورعاية لحقوق الاقليات والتسامح الديني وتأييد العدالة والفرص المتساوية وحكمت المحكمة باعادة فتح ملفات العنف الطائفي لأكثر من ألف متهم وأرسلت الحكومة قوات الشرطة لحماية الشهود الأساسيين‏.‏
وشجب التقرير قيام بعض الحكومات الأوروبية باستخدام تشريعات وممارسات لدفع ووصم الأقليات الدينية بأنها تمارس عبادات ضارة وجاءت بلجيكا في المقدمة تليها فرنسا ثم ألمانيا في المركز الثالث‏,‏ حيث واصلت الحكومة البلجيكية مراقبة ورصد الجماعات التي سمتها الفرق الدينية المؤذية وفقا لتقرير برلماني ولم تتخذ اية اجراءات فعالة لمواجهة العداء والتمييز الذي يتعرض له ولم تسمح للمجالس البروتستانتية بالحصول علي تأشيرات للتبشير‏,‏ ورفضت اقامة حوار مع الكنيسة السيناتولوجية الدولية‏.‏
أما فرنسا فأنشأت منظمة حكومية تتابع العبادات والفرق الدينية التي تشكل تهديدا للنظام العام والقانون الفرنسي‏,‏ كما أقرت الحكومة قانون تقييد الرموز الدينية الظاهرة بما فيها الحجاب الإسلامي والكيا اليهودية والصلبان الكبيرة في المدارس ويخشي القادة الدينيون من استخدام القانون مستقبلا لتقييد الحريات الدينية‏,‏ وفي ألمانيا مازالت الكنيسة السينانتولوجية التي تدير‏18‏ كنيسة وإرسالية تحت الرقابة الدقيقة من المسئولين الفيدراليين واتهامها بأن ايديولوجيتها مناهضة للنظام الدستوري الديمقراطي الألماني‏.‏
واختتم التقرير بجزء مفصل عن جهود الولايات المتحدة الأمريكية لتقدم الحريات الدينية وتدخلها المباشر لحمايتها في مناطق متعددة من العالم واحترام الأقليات واستضافة السفارات الأمريكية لورش عمل وحوارات نشيطة للقادة الدينيين لمناقشة قضايا الحرية الدينية ورصد المنشورات المعادية لها‏,‏ وتشجيع الشركات الدولية للأعمال والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام للاهتمام بهذه القضايا وتقديمها لبرنامج للمنح الصغيرة تديره السفارات للمشاريع التي تساعد علي الحوار بين الأديان والتسامح والاحترام المتبادل بين المجموعات الدينية في اذربيجان وبيلاروس وبورما والصين واريتريا وكوريا الشمالية وجورجيا والهند وماليزيا ونيجيريا وإسرائيل وفرنسا ولاوس‏.‏
ليتبقي السؤال‏..‏ هل ستصبح الولايات المتحدة حامل صكوك الغفران علي مستوي العالم للدول قبل الأفراد‏..‏ وهل ستلعب دورا مهما لتشجيع الحوار بين الأديان بدلا من اثارة المخاوف من صدام الأديان‏.‏