نريد استكمال الرؤية العربية لحوار الثقافات التي بدأنا منذ فترة طرح ملامحها الأساسية وقسماتها البارزة إلي أن قطعت مسار العرض الأحداث الفاجعة للزلازل والفيضانات في آسيا‏,‏ وإذا كنا فيما كتبناه عنها وخصوصا تبلور الوعي الكوني وتجليه في التعاطف الانساني الواسع المدي‏,‏ صلة وثيقة بحوار الثقافات‏,‏ بل يمكن القول أن مادار من رد الفعل الانساني للحكومات والشعوب والأفراد ومؤسسات المجتمع المدني في أوروبا وأمريكا‏,‏ ليعد بصورة مادية ملموسة أوسع حوار تم بين العالم وآسيا‏.‏
وهكذا يمكن القول إنه سقطت الحواجز الثقافية بين آسيا وباقي العالم‏,‏ وساد اليقين أننا ننتمي إلي انسانية واحدة‏,‏ وأن الوقت التاريخي قد حان حتي نترجم ذلك إلي ميثاق جديد للأمم المتحدة يعيد صياغة قواعد ومعايير النظام العالمي الراهن الذي يقوم علي التمييز بين الدول‏,‏ ويستند في الواقع الي إقصاء عديد من الدول المتوسطة والصغيرة عن عملية صنع القرار الدولي‏,‏ سواء في مجال التصدي للمشكلات العالمية‏,‏ أو حل الأزمات‏,‏ أو حتي في مجال رسم استراتيجيات التنمية المستديمة‏,‏ وتحديد نوع ومعدلات المساعدات الضرورية التي علي دول الشمال أن تقدمها لدول الجنوب‏,‏ حتي لا تتسع الفجوة بين دول غنية متخمة بالثروات‏,‏ ودول فقيرة تسودها المجاعات‏,‏ ويهيمن عليها الفقر بآثاره المدمرة‏.‏
ولعل هذه هي الرسالة البالغة الأهمية والخطورة التي قدمها التقرير الصادر عن الأمم المتحدة والذي كتبته لجنة الحكماء التي اختارها كوفي أنان الأمين العام للأمم المنتحدة وصدر بعنوان عبور الخط الفاصل‏.‏
لقد أصدر أنان قراره بتشكيل هذ اللجنة التي تضم مفكرين يمثلون مختلف ثقافات العالم الموجودة في القارات جميعا‏,‏ لتقدم التشخيص الموضوعي لسلبيات النظام الدولي الراهن واقتراح البديل‏.‏
ولم تتوان لجنة الحكماء عن القيام بدورها التاريخي‏,‏ وسجلت بجسارة منقطعة النظير السلبيات الراهنة للنظام الدولي السائد‏.‏
ويلفت النظر بشدة أن تقرير عبور الخط الفاصل بدأ نقده الجسور بفقرة عنوانها‏:‏ النموذج القديم للعلاقات الدولية‏,‏ وقد قرر التقرير أن نظرية صراع الحضارات كانت محاولة لاختراع عدو جديد لهؤلاء الذين كانوا يشعرون بأنهم لا يستطيعون تحمل الحياة بغير عدو يوجهون له طاقاتهم العدوانية‏,‏ وهؤلاء كما يقرر التقرير كثر‏,‏ ولذلك لم يكن صعبا أن يعلن فرانسيس فوكوياما بصوت جهير نهاية التاريخ لأنه أعلن انتصار أحد الأطراف علي الطرف الآخر‏,‏ ولم تكن هناك نظريات تعلن بداية جديدة لحقبة تاريخية مختلفة عن الماضي‏,‏ ولكن ظهرت نظريات تحتوي في جنباتها النظريات القديمة‏.‏
لقد كانت نظريات تحمل في طياتها توجهات النظام الدولي القديم‏,‏ والذي كانت شعاراته المعلنة هذا وإلا فلا ونحن وهم‏.‏
ويؤكد التقرير أن الاستبعاد‏Exclusion‏ كان ولايزال جوهر النموذج القديم للنظام العالمي والذي استمر لقرون عديدة‏,‏ ويقصد بالاستبعاد عدم إعطاء اعتبار لعديد من الدول ومجموعات شتي من الشعوب‏,‏ لأن تمثيلها في موازين القوة ضعيف للغاية‏,‏ ولما كانت الحدود أرسيت بين الدول‏,‏ باسم القوة‏,‏ فقد كان لزاما ابتداع مفهوم العدو ليكون في قلب النموذج القديم‏,‏ ذلك لأنه كان ومايزال أداة مناسبة لإدارة موازين القوة‏.‏
ويقرر تقرير الأمم المتحدة أن العالم لم يشهد قادة لا يلجأون إلي مفهوم العدو اللهم باستثناءات قليلة‏,‏ تتمثل في عدد من القادة الدينيين والأخلاقيين الكبار‏.‏
وعالم النموذج القديم للنظام الدولي له حدود متعددة‏,‏ لأنه أسس علي أساس الاستبعاد الجغرافي في المقام الأول‏,‏ وكانت هناك حواجز أخري كذلك دينية‏,‏ وثقافية‏,‏ وعرقية‏,‏ وقبلية‏,‏ وتلك المتعلقة بالنوع الانساني‏Gender.‏
والسمة الثالثة للنموذج القديم هي تأويله لمفهوم التنوع‏,‏ فقد اعتبر التنوع مرادفا للتهديد‏,‏ إن لم يكن للعداوة‏,‏ وإذا كانت العداوة ستمد إلي أقصي أطرافها فإنها يمكن بسرعة أن تصل إلي شيطنة الاخرأي تصوير الآخر وكأنه شيطان مريد‏,‏ كما صورت الولايات المتحدة الأمريكية في دعاياتها الشيوعيين‏,‏ وكما تصور الإسلاميين أو العرب هذا الأيام‏,‏ خصوصا بعد أحداث‏11‏ سبتمبر‏2001.‏ وشيطنة الآخر من شأنها أن تفصل بين الناس وتبني سدودا عالية أمام التواصل الإنساني الضروري‏,‏ ولعل المؤسف أننا لا نصف موقفا تاريخيا ساد في فترة ما ثم انتهي‏,‏ ولكننا نتحدث عن المشهد العالمي الراهن‏.‏
ويمكن القول أن السمة الرابعة للنموذج القديم أن شيطنة الآخر تسير جنبا إلي جنب مع الجهل بالآخر‏.‏
والواقع أن الاستبعاد والحدود والعداوة وشيطنة الآخر يغذيها الجهل بصورة أو بأخري‏,‏ ولذلك ليس من قبيل المصادفة أن قادة الماضي كانوا يريدون احتكار المعرفة‏,‏ بل إنه في تاريخنا القريب نجد أمثلة متعددة لمحاولات تخريب أدوات المعرفة ورفض التعلم‏.‏
إن تقرير عبور الخط الفاصل يقرر في خلاصة مركزة في نهاية نقده للنموذج القديم للعلاقات الدولية أنه يتسم بـحذلقة الجهل التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلي حذلقة القوة‏.‏
وربما لا تصدق هذه الملاحظة الأخيرة مثلما تصدق علي الولايات المتحدة الأمريكية في غزوها الخائب للعراق‏,‏ لقد كان المحافظون الجدد وأركان إدارة الرئيس بوش يجهلون التاريخ السياسي والاجتماعي للعراق‏,‏ وقد قادتهم حذلقة الجهل إلي أن يتصوروا أن الشعب العراقي سيقابل القوات الأمريكية الغازية بالورود باعتبارهم محررين‏!‏ ولكنهم فوجئوا بمقاومة عراقية شرسة‏,‏ حولت العراق الي مستنقع حقيقي لا يقل في توريطه للقوات المسلحة الأمريكية عن مستنقع حرب فيتنام‏,‏ والتي خرجت منها الولايات المتحدة مهزومة هزيمة ساحقة‏.‏
وقد أدت حذلقة الجهل بالولايات المتحدة الأمريكية إلي انزلاقها إلي حذلقة القوة‏!‏ فظنت أنها لو دمرت الفلوجة بالطائرات فإنها ستقضي علي المقاومة ولكن خابت آمالها لأنها أصبحت أكثر شراسة وخطرا‏.‏
ويمكن القول أنه من أهم النتائج التي خلص إليها تقرير عبور الخط الفاصل أن النموذج القديم للنظام الدولي قد سقط بالمعني التاريخي للكلمة‏,‏ وهذا يعني أنه لم يسقط تماما في تاريخ معين‏,‏ ولكن بناءه تداعي وانهار‏,‏ واصبحنا علي شفا نموذج جديد‏,‏ بدأت تبرز بعض ملامحه‏,‏ ولكن هذه قصة أخري لن تدخل في تفاصيلها الآن‏.‏
وإذا كانت الزلازل والفيضانات قد أدت إلي ماأكدنا عليه من قيام أوسع حوار إنساني بين آسيا وباقي العالم‏,‏ فإننا لسنا في الوطن العربي في حاجة إلي زلزال مدمر‏,‏ أو فيضان جارف‏,‏ حتي ينشأ حوار حقيقي فعال وممتد مع العالم‏,‏ وهذا الحوار ينبغي ممارسته ليس لأغراض نفعية تتمثل في تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية‏,‏ أو في إزالة الأفكار النمطية الثابتة عنا كعرب أو مسلمين‏,‏ بل أن الحوار مقصور لذاته‏,‏ من باب زيادة الفهم المتبادل من ناحية واسهامنا الضروري في انتاج المعرفة‏,‏ ما دمنا نواجه عولمة المشكلات الإنسانية‏,‏ بما يدعو ممثلي كل ثقافة معاصرة أن يسهموا بإيداعهم في مواجهتها والتماس الحلول لها‏.‏
غير أنه بغير أن نعلق الحوار مع الآخر علي ضرورة الحوار مع الذات‏,‏ فلابد ـ وهذه هي أولي قواعد المنهج في حوار الثقافات ـ أن نبدأ بممارسة النقد الذاتي‏,‏ وإذا كنا في مجال إجراء حوار عربي عربي اقترحنا من قبل ضرورة البدء بنقد ذاتي للتجربة العربية في الخمسين عاما الماضية‏,‏ فإن السؤال الذي لابد من إثارته هو هل توافرت حقا الشروط الموضوعية للقيام بهذا النقد الذاتي العربي؟
حين عرضت هذا الاقتراح في ندوة بيروت التي كانت مخصصة لتأسيس شبكة هروبية للحوار‏,‏ كان رد فعل أحد الاكاديميين المرموقين من المشاركين في الندوة هو أن الاقتراح طموح للغاية لدرجة أنه قد لا يمكن تنفيذه‏.‏
وربما كان صاحب هذه الملاحظة النقدية معه بعض الحق‏,‏ علي أساس أن النقد الذاتي التي تمارسه الأنظمة العربية أو بمعني أدق من يمثلونها‏,‏ أو تمارسه الأحزاب السياسية أو المفكرون والمثقفون العرب‏,‏ أشبه بعملية جراحية مؤلمة تقتضي ممن يقوم بها شجاعة أدبية فائقة‏,‏ وجسارة فكرية‏,‏ وقدرة علي الاعتراف بالأخطاء ليس ذلك فقط‏,‏ ولكن اعطاءها التكييف الصحيح‏.‏
غير أن الذي يدل علي اقتراحنا له ضرورته القصوي‏,‏ ان هناك محاولات جسورة في النقد الذاتي العربي تمت في العقود الماضية‏,‏ وكان لها صداها في الدوائر الثقافية العربية‏.‏
لقد سبق للمفكر الكويتي المعروف الدكتور عبدالله النفيسي أستاذ علم السياسة أن أصدر كتابا مهما عنوانه‏:‏ الحركة الإسلامية المعاصرة‏,‏ أوراق في النقد الذاتي اسهم فيه زعماء الحركات الإسلامية في المشرق والمغرب والسودان‏,‏ وقد صدر النفيسي الكتاب بدراسة نقدية ممتازة عن حركة الإخوان المسلمين‏.‏
كما أن المفكر الماركسي اللبناني كريم مروة أصدر كتابا بعنوان حوارات مارس فيه نقدا ذاتيا بصيرا للحركة الماركسية العربية‏,‏ كما أن التيار القومي العربي مارس أيضا أنواعا متعددة للنقد الذاتي‏.‏
ومعني ذلك أن النقد الذاتي العربي ليس مهمة مستحيلة وإن كان النقد الذي يوجهه باحثون أو مفكرون عرب للتجربة العربية طوال الخمسين عاما الماضية ليس نادرا في الواقع‏,‏ فالمكتبة العربية تزخر بهذا النوع من الكتابات وإن كان عدد من يتبعون فيها منهجا علميا دقيقا محدود للغاية‏.‏
وقد قمت من قبل بعملية نقدية مشابهة في سلسلة مقالات بعنوان العرب علي مشارف القرن العشرين اعيد نشرها في كتابي المعلوماتية وحضارة العولمة‏:‏ القاهرة ـ دار نهضة مصر ـ الطبعة الثانية‏2002.‏
وقد تستحق هذه المحاولة تأملا في مدي شمولها وموضوعيتها في ضوء أحداث التاريخ العربي المعاصر‏.‏