لا ريب في ان الانتخابات العراقية العامة هي حدث تاريخي مهم للغاية بالنسبة لمؤيديها وكذلك بالنسبة لمعارضيها من المطالبين بتاجيلها او الغائها. وهذا ما يجعل من هذه الممارسة السياسية الجديدة في تاريخ العراق الحديث بؤرة للصراعات والعنف الذي قد ينفلت حد النتائج الكارثية، اذا لم يتم التعاطي مع العملية الامنية بدقة وذكاء، واذا لم يتم احتواء اية حوادث عنف قد تشوب الانتخابات باقتدار وبسرعة خاطفة لمنع الحرائق وامتداد نيران الصراعات من منطقة لاخرى. ومن الطريف ان نلاحظ هنا بان بعض الفئات المعارضة للانتخابات البرلمانية ترفضها بدعوى اقامتها تحت ظل الاحتلال، بينما تذهب فئات اخرى من مؤيديها الى استلال هذه الفكرة بالذات لتوجيه اصابع الاتهام الى الحكومات السابقة التي حكمت في بغداد بدون احتلال ولكن بدون انتخابات حقيقية. لذا يذهب هذا الفريق الى ان العراقيين عندما كانوا يحكمون انفسهم بانفسهم لم يسموا الى التضحية بالسلطة والتخلص من الانانية الفئوية عن طريق تشريع الانتخابات وفتح باب العملية الديمقراطية للجميع.
وبغض النظر عن مثل هذه الاختلافات، فان على المرء الاعتراف بان الممارسة الانتخابية لم تحدث في العراق بشكل طبيعي وبالمستوى المطلوب عبر تاريخ الدولة العراقية الحديثة القصير الذي زاد عن ثمانية عقود بقليل، بصرف النظر عن ممارسات ديمقراطية فتية تحت ظل الحكم الملكي، حيث تمت الانتخابات النيابية متوازية مع تعيين لمجلس الاعيان من قبل التاج. اما في العهد الجمهوري، ابتداءً من عام 1958، فلم تتحقق اية انتخابات ديمقراطية بالمعنى الصحيح قط. ويبدو ان الاعداد الكثيرة للقوائم المرشحة للانتخابات النيابية الحالية (وهي اعداد لافتة للنظر) تعكس التعطش للعملية الديمقراطية حيث تامل القوى السياسية المتنوعة الارتفاع بنفسها الى سدة السلطة. وبعكسه، كيف يمكن للمرء تفسير ما كان يجري سابقا حيث تواصل احتكار قوة سياسية واحدة للانتخابات ؟
ولكن من منظور الساعة والقوائم المرشحة بالعشرات، يتوجب على المرء التوكيد على وجود ثمة نواقص تستحق الملاحظة، بالرغم من ان هذه النواقص هي وليدة الظروف الامنية القاتلة، وليست الصعبة. لنلاحظ بان زحمة القوائم الانتخابية تلتقي في عملية عدم الاعلان عن اسماء مرشحيها عبر وسائل الاعلام، باستثناء واحد او اثنين منهم، نظرا لان تعيين اسم المرشح هو نوع من انواع الحكم عليه، وربما على اسرته، بالتصفية الجسدية. لذا تبقى القوائم مشوبة بشيء من الشبحية، نظرا لهذا الاخفاء الاضطراري لاسماء المرشحين، باستثناء زعماء الكتل او قادة القوائم من الذين يحظون بحماية امنية تضمن لهم البقاء حتى بعد الظهور على شاشات التليفزيون. لا تنطبق هذه الحال على المرشحين فقط، فالناخبون كذلك مرشحون للتهديد وللتوعد بالويل والثبور، خاصة في بعض المناطق الجغرافية داخل بغداد وفي سواها من المناطق التي تشهد نشاطا قويا للجماعات المسلحة القادرة على العمل في اجواء خارجة عن نطاق السيطرة الامنية الكافية.
واذا كان من التلقائي الاستنتاج بان مثل هذه المناطق هي المدن ذات الاغلبية السنية، فان الملاحظة التي تستحق التاشير في هذا السياق هي ان هناك اعدادا لا باس بها من القوائم التي يكون اغلب او بعض اعضائها البارزين هم من السنة. وهذا يعني بان الحديث عن مقاطعة سنية للانتخابات قد لا يكون دقيقا، ذلك ان امام المراقب تبرز قوائم بزعامات سنية مهمة ومحترمة من عيار رئيس الجمهورية غازي الياور والدبلوماسي عدنان الباجه جي ومشعان الجبوري وسواهم عديدون من ابرز الوجوه المعلنة للترشيحات، ناهيك عن الاسماء غير المعلنة التي لم تُكشف حتى اللحظة خشية التعرض للمخاطر. هذا، بكل دقة، ما يبرر ما ذهب اليه احد زعماء الحزب الاسلامي العراقي، حاجم الحسني، عندما اعلن على شاشة احدى الفضائيات ان المناطق ذات الاغلبية السنية لا تعارض الانتخابات بقدر ما تخشى اعمال العنف والاعتداء التي يمكن ان يتعرض لها الناخبون. ومن الطريف هنا ان نستذكر حديثا مهما لرئيس الجمهورية في جهده لتعبئة سكان تكريت للمشاركة في الانتخابات، حيث اشار الى ان الرغبة في عودة عقارب الساعة الى الوراء لا تجدي نفعا، لان الامر قد تغير جذريا في العراق بسبب تدخل قوى عظمى لا يمكن ان تسمح بذلك. كما انه اكد على التواصل القبائلي والعشائري بين سكان مثل هذه المنطقة وسكان الجنوب، في محاولة للتاكيد على الوطنية العراقية كمضاد للمخاوف وللهواجس الطائفية التي تعصف بالمجتمع من الشمال الى الجنوب بدون استثناء. وهذا اتجاه طيب وضروري في هذه الظروف الخطيرة، الامر الذي يفسر اطلاق تسمية (عراقيون) الذكية على قائمته.
وإذا كان الرئيس غازي الياور قد أكد على الوطنية العراقية لجمع الشمل ولرأب الصدع الاجتماعي ولتجاوز ذات البين بين الفئات الاجتماعية الفاعلة، فان القوائم الأخرى تدق على هذا الوتر الحساس كذلك، ذلك أنها تدرك بأن أية صبغة أثنية أو طائفية أو دينية ستؤثر على سمعتها، ومن ثم على حظوظها في الفوز بالانتخابات، اخذين بنظر الاعتبار الخوف الاجتماعي الهاجسي من الانقسام ومن انفلات العقد الوطني. لذا رفعت جميع القوائم شعار وحدة المجتمع وفكرة تحاشي استئثار الاغلبية العددية بالبرلمان، ثم بعملية صياغة الدستور. وقد شملت هذه الظاهرة اللافئوية الايجابية حتى القوائم التي تهيمن عليها شواخص واسماء تنتمي الى طائفة معينة دون سواها، الامر الذي يفسر حرص جميع القوائم المرشحة، دون استثناء، على ملاحظة واعتبار التنوع الاثني والديني والمذهبي في بنية قوائمها. لذا ظهرت القوائم البارزة (بقدر تعلق الأمر بالاسماء المعلنة) بتركيبات متنوعة تاخذ شيئا من كل حدب وصوب. ويلاحظ هنا ان قائمة اتحاد الشعب، التي تمثل الحزب الشيوعي العراقي (الذي ينزل الى حلبة الصراع الانتخابي لوحده بدون تحالفات) هي بالاصل تعتمد على اليساريين من النوع الذي يلغي مثل هذه الانتماءات العرقية والولاءات الطائفية. ومن الملاحظات الاخرى، هي ظاهرة ظهور قوائم بزعامات كردية بارزة، ولكنها لا تخلو من اسماء عربية، من مختلف الطوائف الاسلامية.
وحيث ان صوت الروح الوطنية العراقية هو الابرز عبر اية قراءة لشعارات وبرامج القوائم المرشحة، فان هذا يبرر الاجماع الذي يلتقي عليه الكل حيال الموقف من القوات المتعددة الجنسيات، الاميركية والبريطانية خاصة. لا يوجد اي اختلاف منظور بين هذه القوائم حول الدعوة الى خروج القوات الاجنبية من العراق واحالة السيادة المطلقة للعراقيين. بيد ان هذا الشعار، المتفق عليه من قبل الجميع، لا ينبغي ان يعمي المرء عن حقيقة امكانية استعماله او توظيفه للدعاية الانتخابية: فهناك من القوائم التي تحاول كسب افئدة غالبية الناخبين من خلال الوعود بانها ستطالب بخروج القوات الاجنبية فورا، اذا ما حصلت على اغلبية برلمانية كافية. وعلى نحو معاكس لذلك، قدم رئيس الوزراء، الدكتور اياد علاوي، دحضا لهذا الشعار المستعجل الذي يرنو الى ركوب موجة هذه المطالبة، عارضا فكرة التدرج في عملية التخلص من القوات الاجنبية (خشية حدوث كارثة) عن طريق تحديد مراحل لنقل المهام الامنية للقوات المسلحة العراقية في سبيل عدم حدوث فراغ امني مدمر، ذاهبا الى انه لن يضع مواعيد نهائية لان ذلك قد يكون عملا اعتباطيا وخطيرا، في اشارة واضحة الى هؤلاء الذين يوظفون شعار طرد القوات الاجنبية فورا من اجل اهداف انتخابية.
ومن منظور اخر، حاول بعض المرشحين البارزين الارتقاء بانفسهم فوق الولاءات الطائفية الضيقة عبر التاكيد على الاخوة الاسلامية والتاخي الوطني القديم: ففي محاولة طيبة لراب الصدع الطائفي قلل رئيس الجمهورية غازي الياور من اهمية الاختلافات الطائفية، معلنا بان جميع المسلمين يلتزمون بـالسنة النبوية الشريفة، كما انهم جميعا من شيعة علي، متسائلا من الذي لا يحب الامام علي رضي الله عنه؟ هذه لغة توفيقية بنّاءة في مثل هذا الزمن الصعب.وقد نحى مشعان الجبوري ذات المنحى عندما قدم الوطنية العراقية التي قاتلت في الحرب العراقية - الايرانية وجمعت كل الفئات بلا استثناء تحت شعار الدفاع عن الوطن الواحد، رافضا اية دعوة لمقاطعة الانتخابات من قبل اية قوة اجنبية غير مؤهلة للتعاطي مع الشان العراقي الداخلي.
ان اية مراجعة لافكار ومشاريع وبرامج القوائم الانتخابية لن تخفق عن اماطة اللثام عن البعد الوطني المثالي الذي لا يختلف عليه المواطنون جميعا، ويبقى امام المراقب سؤال التجسير بين الانموذج والتطبيق، بين المُثل السامية والادارة الفعلية للبلاد، بين مثالية التعددية الحضارية ونزعة الاستحواذ الغنائمية التي صار المواطنون يخشون منها ايما خشية بسبب ما مر بهم من انظمة حبست المثالية في الاذاعة والتليفزيون واطلقت العنان للفئوية وللطائفية كي تعبث بالبلاد وبالعباد.